تعاليقرأي

تحية ملؤها المحبّة والمودّة والاحترام لصديقي ”بيشو“.

—-

رشيد مصباح (فوزي)

**

بقدر ما تكون الحياة بسيطة والمستوى المعيشي متقارب ومتكافئ، بقدر ما تكون العلاقة صادقة ومتينة بين الطرفين، لذلك كانت تربطنا علاقات متينة حين كنا تلاميذ في مرحلة الثانوية بإكمالية العلاّمة (السعيد أبهلول الورتلاني) الملحقة بثانوية (محمود بن محمود) بمدينة (قالمة). صدّقوني إن قلتُ لكم إنّنا كنا نحب بعضنا لدرجة هانت معها كل الصعوبات اليومية من التي كانت تعترض سبيلنا في تلك المرحلة.

هناك أحداث وأسماء عبارة عن محطّات؛ من التي لا يمكن تجاوزها ولا

نسيانها؛ كما إن لدى بعض الأشخاص جاذبية خاصّة ”كاريزما“ وبمجرّد ذكرهم تبدأ تتشكّل الصور من الماضي وأيّامه الحلوة الجميلة. سائق حافلة البلدية الصغيرة الرجل الطيّب صاحب القلب الكبير عانى من طيشنا الكثير، ومع ذلك كنا نحبّه ونناديه ”عمّي لعلى“، بينما هناك من كانوا ينادونه ”سي لعلى“. وهؤلاء كانوا يكبروننا سنّا؛ وتولّد لديهم شعور بالفوارق والنّضج، وكانوا يترفّعون بعض الشّيء عن غيرهم من الزملاء والرّفاق.

لم يكن يشعر بمثل هذه الأمور سوى من كان يشعر بما يشعر به ”عَمِّي لَعْلى“ ومساعده ”حيدوسي“؛ سائق الحافلة السوداء والوسيلة الوحيدة المتوفّرة آنذاك، والتي لا تتّسع سوى لعدد محدود من التّلاميذ، قبل أن يتغيّر الطّاقم فيما بعد. كنا ندفع ثمن التذكرة مسبقا؛ في بداية كل ثلاثي ”ثلاثة أشهر“ من السنة الدراسية، كشرط للحصول على بطاقة نقل من مصالح البلدية تسمح لحاملها باستخدام الحافلة بمجرّد استظهارها. كانت الحافلة الصغيرة الوسيلة الوحيدة التي جنّبتنا عناء التنقّل للالتحاق بالثانوية، فإن افتقدناها بضياعها أو نسيانها في البيت فإنّ ذلك سيعقّد الأمور مع ”حيدوسي“ ولكنه كان يتغاضى في كثير من الأحيان، سيما عند غياب الازدحام.

وأما الذين يكبروننا سنّا فكانوا يفضّلون الركوب في الأماكن الأماميّة، خلف ”سي لَعْلى“، لمجاراته في الكلام والاستمتاع بقصصه. ولا يرضون بالجلوس في المقاعد الخلفية ولا بالوقوف بين المقاعد، لأن ذلك كان مهينا في نظرهم ويحطّ من قيمة الإنسان.

لم يكن لدينا خيار آخر سوى انتظار الحافلة ”المهترئة“ لتوفير بعض النّقود، وحفاظا على الجيوب التي تكن أبدا في أحسن حال. ومع كثرة الخلل الذي كان يصيب الحافلة المدرسية، تجدنا مضطرّين إلى أخذ سيارة أجرة، ويكون ذلك على حساب الوجبة الوحيدة وكوب أو نصف كوب من الشّاي أو القهوة إذا توفّر.. كما يتسبّب ذلك في حرمان من بعض السّجائر.

وكنّا قد تعوّدنا على مثل هذه الظروف، فصارت شيئا عاديّا بالنسبة لنا. لكن الذي كان يشغل بالنا أكثر هو حين تتعطّل الحافلة الصغيرة ولسبب من الأسباب، ويبدأ التفكير في العودة قبل أن يلتقم المغرب قرص الشمس ويهرع كلٌّ إلى مأواه ونبقى نحن كالأيتام والبؤساء: بلا ملجأ ولا مأوى.

الفضل في استذكار هذه المحطّة يعود لصديق عاش هذه الأحداث بكل تفاصيلها وحيثيّاتها. وحين يجمعنا اللّقاء يكاد جل كلامنا يتكوّر ويتمحور حول تلك الظروف التي عشناها.

(سي عبد الرحمان) ابن الأصول الذي عرفتُه في الثانوية، و للإسم العائلي (بيشو) ولصاحبه ”كاريزما“ وجاذبية خاصّة؛ هذا الصديق الذي جمعتني الأقدار والظّروف الدراسيّة به؛ و”رب أخ لك لم تلده أمّك“. بمرور الأيام توطّدت علاقتنا أكثر، ولأن ”الطيور على أشكالها تقع“ كما جاء في المثل، فكلما زارني بسيارته الجميلة إلّـا ووجَدْتَنا نمخُرُ في استعراض الذّكريات، كما تمخر السُّفُنُ في عرض مياه البحار والمحيطات. وكلما طال اللّقاء طاب المقام وحلا، وزاده الكلام بسطة ونعومة.

(عبد الرحمان) صديقي الفاضل يصغرني بسنة واحدة أو سنتين، ومع ذلك أرى

فيه مثال الأخ الكبير والإنسان المجرّب. أمثال ”سي بيشو“ حفظه الله من كل مكروه؛ حتى لا أناديه “عمّي” على الرّغم من تفوّقه في محك الحياة، حتى ونحن بهذه الأعمار، مقبلون على الشيخوخة. فهذا الصديق تربطني به علاقة منزّهة من كل مصلحة دنيئة من المصالح الذاتية؛ من التي نعيشها في هذا الزمان.

وفي هذين اليومين الأخيرين حملنا الشوق وأنا وصديقي ورحنا نستذكر الأيام التي عشناها في تلك الثانوية. ولأننا كنا مراهقين، في ” عمر الزهور“، عمرٌ تغلّبت فيه عواطفنا على عقولنا الصغيرة، وتسبّب ذلك في هياجنا.

لا غرابة في أن يكون صديقي هذا مدلّلا، و ينتمي إلى عائلة عريقة؛ فجدّه من والده، أبوه الأكبر، الذي تجاوزت سمعته حدود المكان، كان قد زاول تعليمه في جامع الزيتونة بالشقيقة (تونس)، وعضوا في جمعية العلماء المسلمين، ومارس القضاء بعد عودته إلى أرض الوطن. ليس هذا فحسب، فقد كانت له نشاطات عديدة منها على سبيل المثال تفرّغه لتربية وتعليم النشء؛ تربية إسلامية عقائديّة لغوية صحيحة سليمة. مع تحفيظهم القرآن والأجروميّة. وذلك قبل وفاته. رحمه الله برحمته الواسعة.

وأما الجد الثاني فكان هو الآخر، صاحب زاوية تعلّم الأصول وحفظ القرآن. ورمز من الرموز الكبيرة في المنطقة التي تسمّى الآن (الحنانشة)؛ أرض المقاومة”الصبايحيّة“ التي انضمّ إليها ”محمد الكبلوتي“ فيما بعد. فتحية ملؤها المحبّة والمودّة والاحترام لصديقي ”بيشو“.

ضائعٌ بين أقرانه

الجزء الثالث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى