تعاليقرأي

مستقبلنا في ضوء طوفان الأقصى

بعيدا عن لغة الخشب المعتادة في عالم السياسة والإعلام فإن طوفان الأقصى منعطف تاريخي في حياة الأمة وعلى المستوى العالمي، وهذا يفتح صفحة جديدة في حياة النخبة العربية والمسلمة التي تؤمن بمشروع الأمة التحرري والمستقبلي، بحيث يجبرها على إقحام نفسها في المعارك الحقيقية وطرح الأسئلة الصحيحة، حتى لا تضيع قضايانا المصيرية كما هو حالنا منذ عقود، وهذا يفرض عليها مغادرة ساحة المعارك البعيدة والهامشية التي اعتادتها لأنها كانت بالنسبة لها الملاذ الأنسب لرفاهية الاستئناس والثرثرة وتسويق الانتظار أوالأوهام، عليها من الآن اقتحام الأبواب المغلقة لا تلك المشْرعة، فالعالم يكتشف الإسلام وقضايا المسلمين من جديد وبأعين متفتحة بدأت تزول عنها غشاوة الدعاية اليهودية، و الدنيا في حالة ظمأ فكري وخواء روحي تنتظر الخلاص، وهل من خلاص سوى دين الله تعالى؟ لكنه لا يفعل فعله إلا على أيدي المؤمنين الأتقياء الإيجابيين الفاعلين الذين تجاوزوا مستوى المسح على الجوربين وكيفية إخراج زكاة الفطر إلى مستوى حمل همّ الأمة والبشرية كلها، ومن يحملون همّ الدين والأمة هم منارات الهدى ومصابيح الدجى، لا بد أن يظهروا الآن على الساحة ليتوارى المحرّفون والغلاة والفاشلون، هذه عين على شعوب العالم التي حركتها الحرب على غزة، وعين أخرى – هي الأولى والأوكد – على داخلنا الذي يحتاج إلى اطباء مهرة يشرّحون الجسم المريض ويسلطون عليه العلاج القوي الفاعل ليتعافى بعد ان كان قد أشرف على الموت، ومن أسباب مرضنا الفتاك وعجزنا الفادح إيثار الشعوب للسلامة والتنافس على الدنيا والتخلي عن شؤون السياسة وتركها للمغامرين ومن لا دين لهم ولا خلق، بل قد شيطنوا السياسة والمصلحين والدعاة وهادنوا الفاسدين والمفسدين فخلت الساحة لمن يصنعون البطولات الوهمية والاستعراضات الفارغة، وها نحن نرى الفارق الكبير بيننا وبين الساحة الغربية في الأنشطة الداعمة لغزة وفلسطين، وفضح ممارسات الكيان الصهيوني وإماطة اللثام عن وجهه القبيح، ففي أمريكا وأروبا وأستراليا ابتكر الناس – والشباب خاصة – ألف طريقة وأسلوب لدعم قضية غزة بينما تغط  شوارعنا وجامعاتنا في سباتها المعتاد (باستثناء اليمن والأردن والمغرب)  ولا تتحرك إن تحركت إلا بإيعاز من الجهات الرسمية لهذا الغرض أو ذاك، وإن الجبين ليندى ونحن نرى الجامعات الأمريكية في غليان طلابي لا ينقطع أزعج الصهاينة أكثر بكثير مما أزعجتهم الجامعة العربية.

هذا أوان إعادة الحياة لأبجديات في العقيدة الإسلامية كادت تتوارى تحت ضربات العلمنة وتحويل التوحيد إلى مباحث كلامية ومعارك لاهوتية تهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، وتفرق ولا تجمع، ومن هذه الأبجديات أن المسلم أخو المسلم أينما وُجد، وأن كل بلاد المسلمين هي بمنزلة بلد المسلم، وأن كل إنجاز في أرض الإسلام يُفرح المسلم، وكل مصاب يُحزنه، وأنه منقوش في قلب المسلم وعقله “وأن هذه أمتكم أمة واحدة”، وهذا حري أن يجعل المسلمين يبذلون أموالهم لإخوانهم في غزة، ويألمون لآلامهم على أساس أن القضية قضيتهم هم، هي قضية دين وعقيدة.

ولن نملّ من التنبيه على وجوب تحريك العقل المسلم – وعلى المستوى النخبة المؤمنة المثقفة بالدرجة الأولى – ليأخذ بوسائل العصر لخدمة قضايا الأمة بدل الجمود على القديم، فما زلنا نقبل إقبالا شديدا على الإنفاق على بناء المساجد – وهذه ظاهرة صحية من غير شك – لكننا نستنكف أن ننفق على المشروعات الدعوية والإصلاحية المختلفة، فعلى سبيل المثال هذا المخرج  مصطفى العقاد صاحب فيلم الرسالة الذي عرّف بالإسلام عالميا وخدم الصحوة كثيرا، وفيلم عمر المختار الممتاز أمضى أكثر من 25 سنة من حياته وهو يبحث عن ممول لفيلمه “صلاح الدين الايوبي” فلم يجدْ، بينما يتحصل تافهون على التمويل الضخم وبدون حساب لتقديم برامج تافهة تفسد الدين والأخلاق والأذواق، بهذا نعرف مدى الكارثة الفكرية والثقافية التي تعيشها الأمة بسبب اختلال الأولويات الذي ترك الساحة لمخطط شيطاني يعمل على إفساد العقول وطمس هوية الأجيال وزرع الوهن في الأمة كي لا تنهض أبدا.

لكن البداية بتفعيل النخبة أو إيجاد بديل لها بعد أن تكلست، ولعل ما يحدث في جامعات أمريكا وكندا وفرنسا يحرك الهمم ويوقظ الضمائر، والمقارنة بين هذه الجامعات وجامعاتنا لا تصحّ ولا تليق، فهناك مؤسسات تخرّج الأحرار فيصبح أكثرهم عباقرة، أما هنا فما زالت الرداءة سيدة الموقف فكان الموت الفكري والانسحاب من الحياة الثقافية والقبوع في أروقة المستوى المتدني.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى