المؤامرة أم نظرية المؤامرة ؟

نعيم مرواني

دفاعاً عن معلومة خاطئة صرح بها وزير الاعلام الامريكي عام 2017 شان سبايسر حول حجم الجمهور الذي حضر حفل تسنم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للرئاسة ، قالت كليين كونوي مستشارة الرئيس في حينها قولتها الشهيرة التي صارت فيما بعد محط سخرية وتهكم: “سبايسر كان يقدم حقائقا بديلة.” (Spicer was giving alternative facts)
كان الناتج الاعلامي بانواعه المرأية والمسموعة والمقروءة يخضع لضوابط تضعها المؤسسات الاعلامية أوالحكومات أو يفرضها سوق المنتجات المعرفية. وكان نشر الحقائق ، وليس الاكاذيب، معيار مصداقية وتاليا رصانة أي مؤسسة اعلامية. بسبب تلك الضوابط الحديدية ومحدودية المنافذ الاعلامية، بات من شبه المستحيل أن يحصل الفرد على نصيبه من الخمس عشرة دقيقة من الشهرة – كما يقول التعبير الامريكي الشهير- 15 minutes of fame .
بفضل الثورة المعلوماتية، توفر الآن للفرد 24 ساعة شهرة يوميا، يبث الاخبار والصور والفيديوات من بيته او مقر عمله من محطة تلفزيونية صغيرة متنقلة: تلفونه النقال الذي من خلاله تحررت المعلومة من ضوابط المؤسسات الاعلامية والحكومات وبلغ الاغراق الاعلامي والمعرفي حدا لم يحلم به أحد.هذا التطور الايجابي المتسارع، جلب معه سلبياته، فكانت الحقيقة أحد أهم ضحاياه.
ضاعت الحقيقة بين ركام الزيف وتعذرعلى المتلقي غير المتخصص فرزها من بين الكم الهائل من الكذب المقصود وغير المقصود. ساعد على تداخل الحقائق بالاباطيل، البروبكندا التي ميزت سنين الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، فقد خلالها الكثير من الناس ثقتهم بحكوماتهم فباتوا ينبذون الاعلام الموجه ويتقبلون كلما يشاع عن المؤامرات المزعومة التي تحوكها حكوماتهم أو حكومات الدول الاخرى بالخفاء لخداعهم. إنتهت الحرب الباردة وتوقفت ماكنتها الاعلامية منذ أكثر من ثلاثين عاما، لكن عقلية المؤامرة – احدى أهم المغالطات المنطقية – أبت أن لاتفارقنا.
تزايد في الآونة الاخيرة انتعاش سوق “نظرية المؤامرة” بشكل مطرد حتى لقد توقع محترفو الاعلام ان الحقائق “البديلة” ستطغى على الحقائق. وقد تجسدت ارهاصات تسيد “الحقائق البديلة” برواج النقاشات والبرامج التي تشكك بالحقائق العلمية والقوانين الطبيعية التي اكتشفها الانسان حتى الآن ثم تدعو الى اعادة النظرفيها أو تبني نقائضها.
يتفاعل الناس هذه الايام مع نقاشات تطعن في حقائق علمية وتاريخية وتروج لفكرة أن كل حدث أو كارثة عالمية لابد ان تكون مخطط لها سلفا ولم تحصل اعتباطا. شككوا بكروية الارض ونزول رائد فضاء امريكي على القمر، وينشرون أكاذيبا من قبيل الحكومات تستعمل الطائرات لنشر سموم في الجو لتنظيم حجم او سلوكيات السكان، أو عائلة روثتشايلد ((Rothschild تسيطر على النظام المالي العالمي والتجارة الدولية، أو هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 ضد برجي التجارة في نيويورك كانت مدبرة من قبل الحكومة الامريكية، او الديمقراطيون سرقوا الانتخابات الامريكية من دونالد ترامب…الخ.
ثمة نسبة لايستهان بها في كل شعب من شعوب العالم تؤمن بنظرية المؤامرة، تتباين هذه النسب بين الشعوب اعتمادا على عوامل عدة منها المستوى التعليمي والمستوى المعاشي والعمر والخلفية التاريخية والتجارب الشخصية، وماالى ذلك من عوامل. يعتقد 25 بالمئة من الامريكان ان نظريات المؤامرة لاتخلو من بعض الحقائق ويؤمن حولي 3 بالمئة منهم أن الارض مستوية. ليس لدي احصائية أو استبيان عن نسبة أصحاب عقلية المؤامرة بين الشعوب العربية، لكني اعتقد ان شعوبنا يمكن ان تحوي النسب الاعلى بين شعوب العالم لاسباب عديدة ربما يبعدنا الخوض فيها عن ثيمة المقال.
يؤكد المختصون أن الجيل الثالث من الشبكة العنكبوتية ((Web3 الذي يتبلور حاليا سينقلنا الى عالم افتراضي مخيف وسيدشن تسيد الأخبار المزيفة على حساب الحقيقة. واذا كان افتراضي مصيبا حول النسبة العالية من اصحاب عقلية المؤامرة بين الشعوب العربية، فهل يمكن أن نقود عالم “الحقيقة البديلة” بعد أن تخلفنا عن ركب عالم الحقيقة الذي يحتضرالآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى