أخبارتعاليقرأي

لا سلطان للمادّة على الماضي والذكريات.

لا سلطان للمادّة على الماضي والذكريات.

**

رشيد مصباح (فوزي)

خرج لزيارتها حتى يتخلّص من وخز الضّمير وتأنيبه، لم يبقَ مع مرور الزّمن وكثرة الهموم والانشغالات شيئا من ذاك الحب والعطف والحنان الذي كان كالعروة الوثقى بينهما.

جاهد عناده وداس بأحد أصابع اليد اللّعينة على الزرّ الكهربائيّ، ولم ينتظر كثيرا كما جرت العادة، ولم تساوره الوساوس والشكوك هذه المرّة.

فُتح قفل الباب الكهربائي، قام بغلقه من ورائه. وبخطًى متثاقلة، ترجّل نحو درجات المرمر السفلى. لايزال هناك الكثير منها متبقّي حتى يصل إليها.

قبل أن يصعد آخر درجات”السّلالم“ التي تؤدّي إلى الدّاخل، وجدها في انتظاره. تطلّع إلى حالتها المتعبة ووجهها المحمر المغصوب وعينيها المتورّمتين.

آلمه ما قد رآه؛ لم يكن ينتظر رؤيتها على هذه الحال.

صاح فيها معاتبا إيّاها على هذا الحزن والبكاء الشديدين، وعلى بقائها على نفس الحال التي تركها عليها منذ شهور لم يزرها فيها.

لم ترد عليه، كما أنّها لم تتردّد في دعوته للجلوس فوق الأريكة وأخذ قسط من الرّاحة ”استراحة محارب“.

نظر إليها بعين المستنكر؛ في إصرار على نفس السؤال الذي كان قد طرحه عليها: ما سبب كل هذا الحزن والبكاء الشّديدين؟

واستطرد يقول: ألا تشفقين على نفسك، وأنتِ متعبة تعانين من أمراض مزمنة وخطيرة تهتك بكِ؟

أخذت نفسا عميقا كأنّها تريد التخلّص من ضيق شديد تشعر به. ثم أرخت العنان لمشاعرها الجيّاشة وأخذت تجهش بالبكاء و تردّ عليه بعينين منهمرين بدمع غزير: “ما قدرتش”.

تريد أن تقول له: لم أقدر على نسيانه.

يجد الإنسان صعوبة في سرد الكلمات المعاندة. وأما الصّور فتتداعى بسلاسة دون عناء؛ لأنها تسكن في القلب ولا تغادره حتى الممات.

القلب أو الفؤاد، كما يحلو لبعض المكلومين تسميته، ”خزانة“. رفوفها مليئة بالحب والعطف والحنان.

فقدان العزيز يترك فراغا لا يملؤه ولا يداويه سوى النّحيب؛

إنّه الشغور والفراغ يا إخوتي الفضلاء.

الفراغ شغور لا يملؤه سوى صاحبه ”العزيز الغائب“، عبثا تحاول بعض الأمّهات المكلومات ملأه ببعض التّفاهات من نفايات الدنيا الرّخيصة. ليس من السّهل أن تجد، و”بنفس الظروف والحجم والمقاييس“، شخصا آخر يملأ ذات الفراغ الذي كان يشغله عزيز غالي غاب، تاركا وراءه طيفا يتلألأ مثل النّجم السّاطع، يأبى النسيان ومغادرة المكان؛

_ كيف حالك الآن يا ترى؟ سؤال بريء لكل عزيز غائب.

صار الموت الذي يكرهه كل عاقل ومتفائل شيئا مرغوبا عندنا أُخيّتي! يا من أكبرها سنّا وتعاملني بلطفها، و تغمرني بحنانها وعطفها. الموت أضحى أمنية في غياب الأمل و تضاؤل عدد الموّاسين وتراجعهم!

لا نعرف متى سيأتي هذا الموت ”اللّعين“ كي يريحنا من هذه الحياة الصعبة المؤلمة؟

يرى بعض المجرّبين أن الحياة مجرّد مسرحية، ليهوّن الأمر. والنّاس فيها عبارة عن ممثّلين. وهل جرّب هؤلاء “المجرّبين” معنى الغياب؟ أم هل كان لديهم نوع من المشاعر الحقيقيّة؟ وحتى متى سيستمر عرض هذه المسرحيّة عند فقدان هؤلاء الممثّلين لأحد الزّملاء؟

ليست الحياة مجرّد نص يتم تأليفه في المكاتب والأروقة والكواليس. وليست الحياة مجرّد تمثيليّة وأدوار تُؤدّى، ويتلوها إسدال ستار، ثمّ يعود بعدها كل واحد من حيث أتى. بل الحياة مشاعر وأحاسيس وجدانيّة وحقيقيّة.

الحياة علاقات حميمة تربط بين الناس. لكن “المجرّبين” يريدونها حياة مجرّدة من المشاعر والأحاسيس، والحب والعطف واللّطافة والحنان، ومن كل القيّم الإنسانية الجميلة.

طغيان المادّة أفقد النّاس صوابهم هذه الأيّام: صارت القيم الإنسانية الجميلة تباع في الأسواق مثل النّخاسة؛ عبارة عن بضاعة ”مزجاة“ والناس من حولها يتدافعون مثل الذّباب والحشرات.

لم يكن الإنسان بهذه الغرابة قبل أن يستفحل فيه هذا الدّاء المتثّل في تغليب المادّة على القيّم الجميلة. ولا يمكن للمادّة أن تعيد الحياة جمالها المألوف وصوابها بأيّ حال، ومهما بلغت مكانتها وتمكّنت من قلوب النّاس.

لن تعيد المادّة عزيزا غائبا. كما لا يمكن لهذه المادّة؛ التي يريدون تغْليبها على القيّم الجميلة، أن تغيّر أو تزيد شيئا في شريط الذكريات. لا سلطان على الماضي والذكريات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى