رأي

شكرا صديقي …وأغناك الله من فضله يا -بائعة الخبز- !

احمد الحاج

طفلة عراقية جميلة – أظنها من النازحين- لم يتعد عمرها الـ 11 عاما ، تحمل فوق رأسها 15 شدة – شدة خبز منزلي نظيف وحقيقي …وليس شدة دولار ، فالأولى قدر الفقراء ، والجياع ، والايتام ، والارامل ، والمساكين في بلد – النفط – والمسمى سابقا بلاد ما بين النهرين ، ولاعزاء للفقراء ، شدة خبز ، أسوة بالحلوى ، والبالونات الملونة ، التي يبيعها على قارعة الطرق من لم يشبع من خبز ، ومن لم يذق طعم الحلوى ، ولم يتسل ببالون ملون كبقية الآطفال ، فكل قطعة منها محسوبة عليه بالفلس وأي نقص في عددها لا يقابله ثمن مواز =ليلة ليلاء ليست كسواها من الليالي من الضرب والتعنيف والاتهام بالسرقة والاختلاس والتحايل والتبذير والاسراف والطمع ، ولربما خرج علينا (ذئب بشري) صاحب كرش تقدمي ، وخلفية رجعية ، مطالبا بأعلى صوته بإحالة الطفل المسكين الى سجن وقبلها محكمة الأحداث ، أو الى هيئة النزاهة ، ليظهر بعد هنيهة ( قرش بشري ) آخر لم يفهم ، ولن يستوعب مرامي وأهداف وغايات الحدود الشرعية، مطالبا بقطع يده ، لأنه وإن كان طفلا ودون سن البلوغ فإنه لم يحفظ الآمانة ، وآثر الخيانة ، بينما الشدات الدولارية الثانية التي لم يعبأ لسرقتها – عيني عينك ياتاجر – لا الاول ، ولا الثاني ، فهي حكر على الساسة ورجال الأعمال والتجار ،الشرفاء منهم إضافة الى المتلاعبين بالمال العام والميزان كذلك المستهترين والمحتكرين والجشعين والفجار – لتجول الطفلة بخبزها المحمول على رأسها بين الأسواق والمساجد لحين بيعه يوميا وشعارها “خبزتنا تكفينا …من ضيم الدنيا تسترنا ، من ذل المسألة تحمينا ، ومن طمع وأعين وحسد الناس ..تقينا !” .
سنتان مضت وأنا أرقب مرور الطفلة نظيفة الملبس ، بهية الطلعة ، جميلة المحيا ، حسنة الخلق ، وكانها نسيم البحر ، وعبق الورد ، وفي ذات الطرق التي أمر بها ذهابا وإيابا بين الأزقة ، والحارات الشعبية ، طفلة تمشي بحشمة ، وتبيع بوقار ، وتشكر بأدب كل من يشتري منها ايضا ولاتفتأ تعيد عبارتها المعهودة ( شكرا ..عمو ) إلا أن هذه الوردة اليانعة النظرة أخذت وبمرور الأيام تذبل شيئا فشيئا ، لقد بدأت تفقد ابتسامتها ، وصارت أكثر بؤسا ، وأشد اكتئابا ، وملامج الحزن بادية على وجهها …ربما لأنها بدأت تشعر بالسآمة والملل من هذه المهنة الشاقة الإجبارية المرهقة اليومية ..ولربما لأنها باتت تشعر بالحزن والأسى ولاسيما حين يقع بصرها وترى بأم عينيها جموع التلاميذ وهم في طريقهم الى مدارسهم ، كتبهم المدرسية بين ايديهم ..حقائبهم على ظهورهم ..آباؤهم او أمهاتهم بمعيتهم .. فيما تجد نفسها وحيدة ومرغمة على مساعدة أهلها لتحمل “جبلا من الخبز ” على رأسها الصعير المائل جانبا من ثقله ، بينما يكاد عنقها أن يدق ، وكتفها أن ينخلع من عظم الحمل قياسا بجسدها النحيل والهزيل ….!
اليوم وأنا أسير بمعية أحد الأصدقاء الأعزاء بعد صلاة الظهر ، وإذا بنا نلمح تلكم الياسمينة كالمعتاد واذا بها لم تبع من الـ 15 شدة شيئا قط …وكانت ونحن نراقبها عن كثب وكلما ذهبت الى أحدهم قائلة له بصوت خفيض ( خبز …خبز …عمو تريد خبز ؟!) واذا به يقول لها حتى من دون أن ينظر اليها ، وهو منشغل بهاتفه النقال ” لا لا …شكرا ” فقرر صاحبي أن يتدخل ويدخل السرور على قلب الطفلة التي كسر خاطرها ليجبره أولا ، ويريحها من هذا العناء اليومي ولساعات طويلة ثانيا ، ” فالطفلة لن تبيع حصتها من الخبز كله الا بحلول صلاة المغرب ، وأحيانا مع صلاة العشاء ، خبزها أبيض ناصع وكبير وليس كبعض الخبز الذي يبيعه أقرانها هنا أو هناك …وثالثا ليشيع صاحبي – وكما أخبرني بعد ذلك – مفاهيم التكافل الاجتماعي ويشجع العادات والأعراف الحسنة التي تلاشت أو تكاد بين الناس في زمن الشح المطاع ، والهوى المتبع ، والدنيا المؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، وقال لي هلم بنا اليها لأن وطأة الحمل الثقيل الذي تنوء بحمله والذي لا يتناسب مع طفلة بعمرها، بطولها ، بحجمها، يحز في قلبي ، ويفت في كبدي ، فدار بينهما حوار إنساني لذت من جرائه بالصمت المطبق :

  • كم كيس خبز عندك ..بابا ؟
  • 15 كيس …عمو !
  • بكم الكيس الواحد ؟
  • بـ 1000 دينار ..عمو ؟
  • ولكن هذا مجموع الأكياس الذي تحميلنها على رأسك يوميا !
  • تمام عمو …” بس اليوم ..ما بايعة ولا كيس !” .
  • ليش ..باباتي ؟!
  • والله عمو ما أعرف ليش ..يوم أبيع الخبز بسرعة ..ويوم أظل أفتر طول النهار على رجلي ، ومحد يشتري مني !!
  • بابا راح نشتري الخبز كله حتى ترجعين للبيت بسرعة ، وترتاحين (وبالفعل أخرج الرجل من جيبه 15 الف دينار واشترى منها الخبز كله ” .
  • شكرا ..عمو .
    -ولكن أريد منك توزيع الخبز لهذا اليوم ثوابا لوجه الله تعالى ..وقولي لمن تعطينه كيسا “اليوم الخبز ثواب ..بمناسبة شهر رجب !” .
  • تمام ..حاضر ..شكرا ..عمو .
    ذهبت الطفلة فهمس الصديق العزيز في أذني قائلا ” لو كان شهر شعبان ، لقلنا للطفلة قولي لمن تعطينه كيسا، هذا بمناسبة شعبان ..ولو كان في رمضان، لقلنا قولي هذا الخبز بمناسبة شهر رمضان ..وفي ربيع الأول بمناسبة ذكرى المولد النبوي ، وفي العيدين بمناسبة عيد الفطر ، أو الأضحى ” وهكذا دواليك ، والغاية من كل ذلك لدفع الحرج ، ولإحياء روح التكافل بين الناس فتكون سنة راسخة وحسنة بينهم ..ولكي نساعد الطفلة المسكينة ، وربما اليتيمة أيضا لتعود الى بيتها الصغير المستأجر ، والى حضن أمها بدلا من – شلعان القلب- وبدلا من البؤس والجهد اليومي الذي لايتناسب مع سنها ، صباح مساء لعل الله تعالى يتجاوز عنا ويخفف من أحمالنا وأعباءنا في الدنيا قبل الآخرة …شدكول صديقي ؟!
    قلت وأنا استحضر جانبا من رواية (بائعة الخبز ) للروائي الفرنسي ،كزافييه دومونتبان والتي صدرت عام 1884 “ردي على سؤالك المهم ، وعلى موقفك النبيل الملهم ، وعلى أهدافك الانسانية ، لن يكون قولا عابرا سرعان ما يضيع بين زحمة الأقوال ورتابتها ..وإنما مقال !” اودعناكم اغاتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى