تعاليقرأي

اِبكِ (بشير) واِحيَ فينا هذه المشاعر النبيلة!

حقيقة وأن الإنسان مخلوق ضعيف، فهو مهما بلغ من تجارب ومراتب في الحياة الدنيا لا يستطيع التحكّم في مشاعره. ومن مظاهر هذا الضعف، مشاعر الحب، والخوف، والرجاء… التي لا يستطيع مقاومتها مهما حاول التظاهر برباطة الجأش، والقوّة، والصبر والجلد.

وفي كلّ واحد منّا طفل صغير يرفض الموت ولا يريد أن يكبر مهما كان. ولا يعرف ولا يدرك مثل هذا الكلام سوى المجرّب؛ الذي تيتّم أو تغرّب، والذي عانى من الويلات والصعاب، ومن لوعة الفراق.

لا يعرف ولا يدرك هذا الكلام الشاب المدلّل؛ المحظوظ الذي يعيش في كنف المحبّة والاحترام، داخل الأسرة مغمورا برعاية وحب الوالدين، الذي لم يذق طعم مرارة ولوعة الغربة والفراق.

لقد بكى (بشير حليمي) أمام ضريح والدته وأبكانا معه! لقد فلتت المشاعر من العالِم الذي استطاع تطويع الحاسوب! لكنه ضعف أمام مشاعره، ولم يستطع التحكّم فيها وهو يقف كالطفل أمام قبر المرحومة والدته، مستحضرا صورتها وهي على أحر من الجمر، خائفة متوجّعة تترقّب عودته من المدرسة البعيدة، التي كان يدرس فيها وهو صغير. الذي يرى العالم (بشير) يحسبه شيخا كبيرا؛ هرم من الغربة وأثر ذلك على شعره الأبيض وعينيه الغائرتين. لكن (بشير) الطفل لا يشعر بثقل كل تلك السنوات والعمر الذي مرّ يجري ”كلمحة بصر“ أمام الضّريح الذي لم يتبقَّ منه سوى الذكريات والصور العالقة بذهنه.

كن عالما، أو كما شئت، وكما تحبّ أن تكون، ومثلما تحبّ وتشاء، فإنّك في النهاية لسْتَ سوى جملة من المشاعر والصور التي تحملها إليك الذكريات. وأنّك مهما بلغتَ من العمر و من تجارب ومراتب في هذه الحياة.. فإنّ الطفل الذي بداخلك سيبقى طفلا إلى الممات. وإنّك مهما تغرّبتَ وعشْتَ بعيدا عن أهلك ووطنك، وإنّك مهما حاولتَ أن تستبدل هذه المشاعر التي نشأت فيك؛ شوقك وحنينك إلى أهلك وبلدك، بوطن غير الذي كبرت وترعرعت فيه، ومهما حاولتَ أن تستبدل أهلَك بأُناس آخرين، ومهما بعدتَ وتغرّبتَ… فإنّك لا ولن تستطيع التملّص من المشاعر الحقيقية التي نمت فيك وأنت طفل. فإنّك لا ولن تستطيع محو كل تلك الصور والذكريات الخالدة التي ارتسمت في ذهنك وأخذت مكانها في قلبك.

لقد تلعثم (سي بشير) حين سأله الصحفي عن والدته، ويا ليته لم يسأله مثل هذا السؤال الذي أجهشه بالبكاء، وتسبّب في إحراج الطفل الذي بداخله.

الذي تعلمناه من هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين، على الرغم من المكانة المحترمة والكبيرة التي حصلوا عليها في البلاد الأخرى، إلى جانب التواضع طبعا.. هو هذه المشاعر الصّادقة المجسّدة في البراءة التي لا تقدّر بثمن، ولا يضاهيها كنوز الدنيا كلّها.

اِبكِ (بشير) ولتحيي فينا هذه المشاعر النبيلة التي لم يعد لها قيمة عندنا؛ مقارنة بنفايات وحطام الدنيا الحقيرة التي صرنا نبجّلها أكثر من أيّ شيء، ونتقاتل عليها. اِبكِ (سي بشير) ليدرك أهالينا في (مداوروش) وغيره من الأماكن والمدن، أن المشاعر لا تقدّر بثمن ولا يضاهيها شيء على الإطلاق، ولا حتى العيش في أكبر العواصم وأجمل المدن.

اِبكِ (سي بشير) فإن المكان الذي وقفتَ فيه على صغره و”حقارته“ وأنت تستحضر فيه ذكرياتك الخالدة مع المرحومة والدتك –طيّب الله ثراها – هو أجمل بالنسبة لك ولنا من المكان الذي يعيش فيه العالِم المحترم وينال فيه شهرته الكبيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى