تعاليقرأي

أصحاب الياقات البيض والخطب المنمّقة.. خرطي في خرطي.

رشيد مصباح (فوزي)

**

جلستُ بعد صلاة الصبح في المسجد أردّد الأذكار الصباحية، على غرار ما يفعله بعض المصلّين. ثمّ لحظات بدأ المصلّون بعدها ينسحبون، الواحد تلو الآخر. وما هي إلّـا دقائق معدودات حتى أخذتُ أشعر بفراغ يملأ رحاب المسجد، إلّـا من صوت شخص جهوريّ جريء؛ تعوّدنا على سماع صحابه يتدخّل ليلقي باللّوم على المصلّين.

صاحب هذا الصّوت المعروف كان رفقة أحد المصلين، يردّد عاليّا: ـ “قلتُ لك خرطي في خرطي”. يرسله بعيدا، فتتلقّفه قبّة المسجد “المخروطية” وتعيد إرساله إلى الجدران، لتكرّر جدران المسجد الشّاغر معه: “خرطي.. خرطي.. خرطي…” وهكذا، حتى نسيتُ ما كنتُ أقول، وتوقّف لساني عن الذّكر وشفتاي عن التّرديد، وكان الشخص الذي يحاوره يحاول تهدئته. لكنّه لم يستطع.

لم أشعر إلّـا وأنا أمامهما، ألقي التحيّة عليهما وأتابع الحوار. وأستمرّ صاحب الصوت الجهوريّ الجريء في توجيه نقده اللّـاذع، وأصابع الاتّهام، يمينه وشماله.. ولا تسألنّي عن الأسباب، فكانت كالعادة كثيرة، متعدّدة و متنوّعة. ما جعل صاحبنا يرفع صوته بتلك النّبرة. ما جعلني أنهي الأذكار باكرا في هذه الصّبيحة من يوم الأربعاء، وأعود مسرعا إلى البيت.

بعد غفوة في الفراش، صحوتُ فوجدتُ صدى الجملة: “خرطي في خرطي.. في خرطي…”، مثل الزّوبعة تدور في رأسي. فسارعتُ إلى تناول فنجان القهوة الذي لا يفارقني، لا باللّيل ولا بالنّهار، مع أنّني لستُ مدمنًا لا على القهوة ولا على الشّاي، فأخذتُ منه رشفة؛ ولعلّني أجد في رشفةٍ كهذه من الفنجان ما يريحني من تلك الزّوبعة. وبادرت إلى ذهني بعض الأفكار الغريبة، فقمتُ بتشغيل الكومبيوتر، لطلب المساعدة من الرّوبوت “شات جي بي تي”؛ وحده يستطيع إيقاف الزّوبعة. وما هي إلّـا بضع دقائق، ولجتُ بعدها إلى الموقع.

وألقيتُ عليه التحيّة.

ردّ على تـحيّتي لـــــه: ـ صباح الخير! كيف يمكنني مساعدتك اليوم؟

ثمّ بادرته بالسّـــــؤال: ـ ما معنى كلمة خرطي؟

فكان جوابه كالآتي : ـ كلمة “خرطي” هي كلمة عامية تستخدم في بعض الدول العربية، وتعني بشكل عام الشيء القديم والتالف أو العفن والفاسد. وفي بعض الأحيان، يمكن استخدامها لوصف الأشخاص الذين لا يتقنون العمل أو يقومون بأعمال بدائية أو غير متقنة. وقد تستخدم هذه الكلمة في العديد من السياقات، سواء في الحياة اليومية أو في الأدب أو الفن.

وأضـــــــــــــــــــــــاف: ـ أو وقد تستخدم هذه الكلمة في الحديث اليومي بشكل ساخر أو مزاحي لوصف أي شيء قديم أو غير عصري.

شكـــــــــــــــــــــــــرته: ـ شكرا لك.

فجــــــــــــــــــائتي الردّ: ـ عفواً،، أي وقتٍ تحتاج إلى المساعدة، فلا تتردد في الاتصال بي.

انهيتُ الحوار مع الرّبوت، الآلة الذكيّة. وتناولتُ فنجان القهوة من جديد، وأخذتُ رشفة أخرى. ثم لفت انتباهي شاشة التليفزيون، فقمتُ بتشغيله. وأوّل ما ظهر لي صورة أصحاب الياقات البيض، و”القلوب المخمليّة”، وهم يلقون بخطبهم “المنمّقة” من على منابرهم “العاجيّة”… قمتُ بتغير القناة، إلى قناة أخرى. فتغيّر المشهد تماما، وكانت هذه المرّة، صورة لطوابير بشرية تملأ المكان؛ أمام المراكز الرسميّة والأماكن الحيويّة، وأخرى أمام المحلاّت هنا وهناك.. وأخرى لأسعار ارتفعت حتّى بلغت عنان السّماء؛ لسان حالها يردّد ويقول: “خرطي في خرطي”. كأنّها جاءت ردّا على خطب أصحاب الياقات البيض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى