الاقتصاد العراقي والاقتصاد التركي: فجوات الأداء المؤسّسي وفجوة التاريخ التنموي
الاقتصاد العراقي والاقتصاد التركي: فجوات الأداء المؤسّسي وفجوة التاريخ التنموي
عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
كنتُ أعتقدُ أنّ الاقتصادَ العراقيّ يتخلّفُ “تطوّراً ونموّاً” عن الاقتصاد التركي بفارقِ مائة عام فقط.
ولكن بعد زيارات مُكثّفة استغرقت خمسة أيام، كان الهدف الرئيس منها هو الاطّلاع المباشرعلى آليات عمل البيئة المؤسسيّة المعنيّة بدعم وتطوير نطاق عمل وإنتاج واستثمار وصادرات القطاع الخاص التركي، وشملَت عشر مؤسّسات(بنوك اقراض ودعم للإنتاج والاستثمار داخل وخارج تركيا، بنوك واتحادات لدعم وضمان الصادرات التركية، منظمات مهنيّة، غرف معنيّة بالشؤون التجارية والصناعيّة والأسواق المالية، وكالات تنمية وطنية لها مكاتب وفروع واتفاقات خارجية مع نظرائها في الدول الصناعية المتقدّمة، بنوك واتحادات لدعم الاستثمار الأجنبي في تركيا ولدعم الشراكة في الاستثمارات الأجنبية داخل وخارج تركيا، مجالس للصادرات، مراكز حكومية لدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، مراكز أبحاث واحصاء وأكاديميات تقدّم البيانات والاستشارات للمستثمرين والمنتجين والمصدّرين الأتراك والأجانب..)..
بعد هذا كُلّه أدركتُ أنّ الاقتصاد العراقي بشكلٍ عام، والقطاع الخاص العراقي بشكلٍ خاص.. (إذا ما استمرّت طبيعة وخصائص تكوين بُنيتهِ المؤسسيّة والقانونيّة الحاليّة على ماهي عليه الآن من جمودٍ وتخلّف، وإذا لم يتم تقويض عوامل الخلل والإعاقة الحاكِمة والمُتحكِّمة بهذه البُنية، وإذا لم تتم معالجة أسباب الفشل والإخفاق في السياسات الاقتصادية المعمول بها حاليّاً، وإذا لم نُباشِر وعلى الفور بتغيير وتحسين اشتراطات ومُعطيات بيئة ممارسة الأعمال والاستثمار القائمة، وإذا تمّ الإصرار على بقاء المنظومات البائسة والفاسدة للإدارة والتحكّم بالموارد كما هي، لأسباب ودوافع غير اقتصاديّة).. سيكونُ مُتخَلِّفاً عن الاقتصاد التركي(وعن القطاع الخاص التركي) بألفِ عامٍ على الأقلّ.
لا توجد لدى جميع الجهات(التي تمّ اللقاء والحوار المُعمّق مع إداراتها العليا والوسطى بشأن أدّقِ تفاصيل عملها) أيّة توجهات أو مواقف أو دوافع سياسية.. وجميعها تتفِّق على حُزمة من المباديء والتوجهات والإجراءات العامة التي تعمل على خدمة مصالِح اقتصادية – تركيّة- سيادية – عليا، وكانت جميعُ الجهات تعرضها علينا وكأنّها مباديءَ “مُقدّسةٌ” لا تُمَسّ.
جميع هذه المؤسسات تعمل كخليّة نحل واحدة، مُتكامِلة ومتناسِقة ودؤوبة، من أجل تحقيق أهداف مُشترَكة مُحدّدة بدقّة(مع اختلافٍ في التفاصيل)، وهذه الأهداف هي: تشجيع المزيد من الاستثمار المحلي والأجنبي على العمل في الداخل، دعم الاستثمارات التركية في الخارج، دعم وتعزيز الاستثمارات التركية- الأجنبية المشتركة في الداخل والخارج، زيادة حجم الصادرات التركية، ضمان حقوق المصدّرين الاتراك والمُصدّرين الأجانب العاملين في تركيا، وزيادة وتيرة تحوّل الاقتصاد التركي نحو الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر(انسجاماً مع معايير الاتحاد الأوروبي، والاشتراطات الدولية بهذا الصدد، وبما يُمكّن تركيا من الحصول على المزيد من الدعم المالي والمعرفي والتقني من الدول والهيئات والمؤسسات الدولية المختلفة).
“الزوّار” العراقيّون كانوا خليطاً من مدراء تنفيذيّين في وزارة التخطيط، وباحثين اقتصاديّين محليّين، وأعضاء في مجلس تطوير القطاع الخاص العراقي، وبتنظيم ودعم من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدةUNDP .
نحتاجُ إلى عشر سنواتٍ(على الأقلّ)، لنقل تجربة كهذه إلى العراق، وتنفيذ الإصلاحات المؤسسيّة المطلوبة.
خلاف ذلك سيبقى الاقتصاد العراقي متخلّفاً عن الاقتصاد التركي(ونظرائهِ في المنطقة والعالم، وليس عن الاقتصادات الصناعية المتقدّمة)، ليسَ بفارقِ مائة عام.. وليسَ بفارقِ ألف عام..
بل إلى الأبد.. إلى الأبد.