سوريا .. مؤشرات مفارقة حول هوية الحكم الجديد..!
سليم يونس الزريعي
ليس مقدرا لشعوب المنطقة أن تكون أسيرة نموذجي سلطات محصورة بين ثنائية الاستبداد بتنوع أشكاله، أو الثيوقراطية التي هي: نمط حكم تدعي فيه السلطة القائمة أنها تستمد شرعيتها من الله ويدعي الحاكم أنه يحكم باسم الله، وبالتالي يُلغى إشكال الشرعية السياسية بحجة الاستجابة للإرادة الإلهية، ويكون الناس مجبرون على الطاعة العمياء لهذه السلطة من منطلق الحق الإلهي. ويأخذ فرض هذا النموذج، بعدا تراجيديا لا سيما في المجتمعات ذات التعدد المذهبي. وسواء كان سدنتها يرتدون ربطة عنق؛ أو كانوا يعتمرون عمامة.
هذه المقاربة ضرورية ونحن نحاول قراءة المشهد السوري الذي فرضت تطوراته الدراماتيكية نفسها على العالم، كونها كانت كاشفا لسلوك نظام الاستبداد، وكيف يتجرد من كل القيم الإنسانية في سبيل الحفاظ على ديمومة سلطته بكل بشاعتها، لكن مظلومية الشعب السوري جراء النظام المستبد لا تبرر استبداله بأشكال حكم أخري، أكثر سوءا، تريد أن تفرضه على الشعب السوري متعدد المذاهب، بأن تجعله يعيش خارج الزمان بدعاوى أيديولوجية مفارقة، الإسلام منها براء.
ذلك أنه مع كل مظاهر الفرح الذي عاشه وما يزال الشعب السوري بزوال نظام الاستبداد الذي استمر أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي تثير مخاوف جدية، من أن التغيير قد يتجه نحو ما هم أسوأ، فيما سوريا نسيج من مجتمع متعدد المذاهب والإثنيات، من ذلك اختيار أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام المسجد الأموي.. ليوضح هوية الدولة السورية منفردا، ضمن مفهوم” الفتح” بكل دلالاته، ودون انتظار أن يتولى ذلك الدستور الجديد، الذي يجب أن تشارك في صياغته كل مكونات المجتمع السوري، بكل تنوعها السياسي والفكري والمذهبي والإثني والثقافي، وهو أن الجمهورية العربية السورية قد أصبحت الجمهورية الإسلامية السورية.
ومما يثير المخاوف الجدية هي مسارعة الجولاني للاستئثار بالسلطة، وتنصيب نفسه زعيما للثورة، في حين أنه كانت هناك في سوريا ثلاث حكومات معارضة، لذلك أعلن ائتلاف المعارضة في حلب انه لم تتم استشارته في تسمية محمد البشير رئيساً للوزراء، علماً بأن الجولاني لم يكن يقود الجماعات المسلحة المعارضة وحده، فقد كان هناك الائتلاف وجناحه العسكري “الجيش السوري الحر”، وهناك أيضا قسد وحكومتها.
وتزداد المخاوف لدى النخب السياسية والفكرية لديمقراطية والعلمانية ، ممن عانت من الاستبدادـ على مدى عقود، من ظهور علم أبيض كتبت عليه الشهادة باللون الأسود، يشبه إلى حد كبير العلم الذي أعادت حركة طالبان تبنيه في أفغانستان بعد استعادة سيطرتها على البلد عام 2021ـ ، إلى جانب علم الثورة” باللون الأسود والأبيض والأخضر تتوسطه ثلاث نجوم حمراء في أول اجتماع لرئيس الحكومة الانتقالية السورية محمد البشير، المنصب من قبل الجولاني، بكل الدلالات السياسية والفكرية التي يحملها حول مستقبل الحكم في سوريا.
وقد رصد مراسل بي بي سي الخاص حالة من “الصدمة لدى كثيرين” بسبب ظهور هذا العلم. الذي طالما تبنته هيئة تحرير الشام. وكان قد رُفع فوق مؤسسات مدنية في إدلب في السابق.
ومما يضع علامات استفهام جدية حول مستقبل سوريا، ما نقله تقرير لـ Kalle Koponen مصور صحيفة هلسنكي لمراسل Petteri Tuohinen عن قائد مجموعة حراس القصر الجمهوري، الذي قال: “أخبر الفنلنديين بحقيقة ما نود قوله. نحن نريد أن يحكمنا الإسلام، ونعتبر حركة طالبان قدوتنا.” وأضاف المصور، هؤلاء الرجال إنهم يقاتلون “من أجل الإسلام حتى النهاية”، ويدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومن الطبيعي أن لا يكون ذلك معزولا عن هوية هيئة تحرير الشام الفكرية ورؤيتها للحكم، كونها تتبنى فكراً جهادياً، مع أنها تسعى إلى تقديم نفسها بملامح أقل تطرفاً مقارنة بتنظيمات أخرى مثل تنظيم الدولة الإسلامية، مع تركيز نشاطها على السيطرة المحلية والحكم.
ومع أنه من الصعب الآن الحكم على هيئة تحرير الشام، ومدى التزامها بدستور عصري مدني، يراعي التنوع والتعدد الإثني والمذهبي والثقافي للشعب السوري، ارتباطا بالتناقض بين القرارات التي أصدرها الحكم الجديد، حول لباس المرأة، وعدم فرض التدين على أحد، وهي قرارات تنفيها بشكل جذري أيديولوجية جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام في لافتتها الجديدة. وهذا مبعث شك وعدم اطمئنان على المستقبل، ليس بالنسبة للشعب السوري، وإنما أيضا لدول المنطقة، التي لا تريد أن تجد نفسها أمام نموذج داعشي أو طالباني إلى جوارها، في ظل أن عددا كبيرا من عديد الفصائل المسلحة، ليسوا سوريين، وأن وجودهم كان تحت عنوان الجهاد ضد النظام يتبنون أيديولوجية ظلامية، كان بهدف إقامة حكم إسلامي متشدد، وليس من أجل حرية الشعب السوري وإقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي يتسع لجميع السوريين بكل مشاربهم المذهبية والفكرية ضمن مفهوم الوطنية السورية فقط، وليس الأممية الإسلامية .
ويمكن القول إن الكثير من القوى التي حاربت النظام بكل الوسائل، لم تقل كلمتها بعد، وهي تعتبر نفسها جزءا من النصر الذي تحقق، ولن تقبل بتجاوزها، وهي بالطبع لها موقفها السياسي والفكري ولها رؤيتها الخاصة لمستقبل سوريا، التي قد تتناقض مع أيديولوجية جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام في سمتها الجديد، وهذا ربما يكون وصفة لنوع من الفوضى، التي قد تعيد سوريا إلى المربع الأول، إذا لم يحسن الجميع التوافق على دستور جديد يراعي مكونات سوريا المذهبية والإثنية والثقافية العريقة، كون سوريا كانت أحد رواد التنوير في الوطن العربي.