الاحتلال : من مصدر قوة إلى عبء على إسرائيل

نهاد أبو غوش
على الرغم من الصدمة الهائلة التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى في الوعي الإسرائيلي، وما يدركه جميع الساسة والمفكرون من أن هذه العملية ستكون لها تداعيات بعيدة المدى على دولة إسرائيل ومكانتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية، وعلاقة الفرد الإسرائيلي بالدولة ومؤسساتها، ومدى شعوره بالثقة في هذه المؤسسات، فضلا عن الإحساس العام بنجاح المشروع الصهيوني واستقراره. إلا أن استيعاب هذه المتغيرات ما زال بطئيا لدى السياسيين والمثقفين، ومن الواضح أن العقل الإسرائيلي لم يهضم هذه المتغيرات بعد حيث ما زالت اللغة مشبعة بروحية الاستعلاء والشعور بالتفوق والقدرة على حسم كل صراعات إسرائيل بالقوة المسلحة، دون اي اعتبار للقانون الدولي وانسانية الطرف الآخر من الفلسطينيين والعرب، فضلا عن حقوقهم الوطنية في أرضهم ومصيرهم. الدليل على أن إسرائيل لم تستوعب هذه التبدلات بعد هو إصرار حكومتها على المضي في هذه الحرب الوحشية ضد قطاع غزة، بكل ما فيها من فظاعات وجرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، إلى جانب الشعور بالقدرة على حسم الصراع في الضفة بقرار أحادي لا يقيم أي وزن للقانون الدولي.
الدلائل كثيرة على أن إسرائيل لم تستوعب بعد التغيرات الدولية العاصفة ومن بينها ردود الفعل الهستيرية على قرار محكمة العدل الدولية (الراي الاستشاري أو الفتوى القانونية) بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، حيث تراوحت ردود الفعل بين المطالبة بإجراءات مضادة متطرفة كضم الأراضي المحتلة وإعلان السيادة الإسرائيلية على الضفة، أو إنكار اي أهمية قانونية وسياسية للقرار واعتباره كأنه لم يكنن وأنه مجرد حبر على الورق سيجد طريقه إلى الأدراج والرفوف كعشرات القرارات المكدسة دون تأثير. كما يتبدى ذلك في تصميم إسرائيل ومؤسساتها على اتخاذ اجراءات تشريعية وقانونية وسياسية مضادة للاتجاه العالمي كالقرار الذي اتخذه الكنيست بمنع قيام دولة فلسطينية بين نهر الأردن والبحر المتوسط واعتباره تهديدا وجوديا لإسرائيل.
قرار العدل الدولية هو قرار قانوني بامتياز، بعيد عن الأهواء والعواطف والمواقف السياسية المسبقة (خلافا لما ذهبت إليه إسرائيل في البحث عن تاريخ القاضي نواف سلام والنبش في مواقفه وسيرته الشخصية على مدى عقود لمحاولة وصم القرار باللاسامية علما بأنه واحد من خمسة عشر قاضيا)، وهو اي القرار سيمثل دون شك نقطة تحول فارقة ويؤسس لمرحلة جديدة حيث سيمثل البوصلة والمسطرة القانونية التي ستقاس عليها مواقف الدول والهيئات والمؤسسات الدولية والشخصيات، فإما تكون مع القانون الدولي أو مع شريعة الغاب وقانون القوة الغاشمة، إما يسري هذا القانون على جميع دول العالم أو تكون فيه دولة بعينها هي إسرائيل تتصرف كدولة مارقة فوق القانون، وفي حل من اي التزامات وتتصرف كأنها بمنأى من اي عقاب او حساب أو ملاحقة. والقرار سيوفر دفعة هائلة للاتجاه الذي تعمل عليه المحكمة الجنائية الدولية وعدد من محاكم الدول الوطنية ذات الاختصاص الجنائي في جرائم الحرب الدولية، فما دامت محكمة العدل حددت وقضت بشكل قاطع على وجود جريمة الاستيطان وجرائم الحربن فإن ثمة مجرمون افراد ينبغي ملاحقتهم ومحاسبتهم لمساهمتهم في هذه الجرائم أو مشاركتهم في تنفيذها أو تواطؤهم تجاهها. وهكا فمن المرجح أن لا تكتفي محكمة الجنائيات الدولية بإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بل سوف تتشجع على إصدار مذكرات اعتقال ضد كل القيادات السياسية والعسكرية التي حرضت على القرارات وساهمت في اتخاذها أو تنفيذها بما يشمل الوزراء والنواب والقادة المحرضين على الإبادة، ورئيس الأركان وكل قادة الأسلحة البرية والجوية والبحرية وقادة الفرق والألوية الذين نفذوا أوامر الإبادة وجرائم الحرب.
ربما كان البطء الإسرائيلي في استيعاب التغيرات الدولية له ما يبرره، فالتغيرات متسارعة وهي تشمل الضربة التي هزت كيان إسرائيل وخلخلته في عملية طوفان الأقصى في السابع من أوكتوبر، كما تشمل القدرات غير المتوقعة التي كشفت عنها قوى محور المقاومة في لبنان واليمن، حتى أن اختراق المسيرة اليمنية (يافا) لكل التحصينات والدفاعات الجوية ونجاحها في ضرب تل أبيب ضرب كل التوقعات، وبات واضحا أن قوى المقاومة لم ترتدع من آلة البطش والقتل والتهديدات الإسرائيلية، وأن دولة الاحتلال لا تملك حلولا عملية لكل هذه التهديدات التي باتت تطال العمق الاسرائيلي، ولا حلول متاحة لإسرائيل في مواجهتها إلى جانب استمرار الفشل الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب على غزة.
التحولات الدولية متسارعة وعاصفة ونوعية، لكن الاستيعاب الإسرائيلي لها ولمدلولاتها ما زال بطئيا، ويبدو أن الأمر بحاجة إلى فترة لكي يدرك الفرد الإسرائيلي من خلال مستوى حياته ورفاهيته وشعوره بالأمن والاتقرار والثقة بدولته ومؤسساته، أن الاحتلال تحول إلى عبء ومصدر للخسارات المتلاحقة بدل أن يكون مكسبا ومصدر قوة وتفوق.