أحوال عربية

ما هي حصة كوردستان من التغيير القادم لجغرافية الشرق الأوسط؟

د. محمود عباس

تغيير خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية قادمة لا محالة، كضرورة من ضرورات سيطرة الإمبراطوريات الطامعة بخيرات المنطقة؛ ومن متطلبات مصالحها، فهي من بين المناطق الأكثر أهمية لهم، إعادة رسمها بدأت قبل حوادث 2011م وأصبحت تتسارع على خلفية بعض التحالفات الدولية الجديدة، والتي أدت وتؤدي إلى بروز قوى سياسية ملائمة لإستراتيجيتهم، جميع الدول والمنظمات القومية والمذهبية في المنطقة كانت ولا تزال ضد التكوين الجيوسياسي الحالي والذي تم في العشرينات من القرن الماضي، والغريب أن منظمة داعش الوحيدة التي حاولت عمليا إعادة رسم الموجود.

التغيير ليست بتلك الصعوبة التي يظنها البعض، فالموجود كانت وليدة ظروف دولية لم تعد بذات الأهمية اليوم، وجل تلك الظروف لم تعد موجودة ليس في منطقة الشرق الأوسط، بل وفي العالم كله، ففي أقل من نصف قرن تم إعادة تشكيل ربع الجغرافية السياسية العالمية، ومن بينهم الإتحاد السوفيتي، إحدى أعظم الإمبراطوريات، ودول أوروبا الشرقية، وبعض الدول الأفريقية، والأسيوية، وكما نعلم خريطة الشرق الأوسط من أكثر الخرائط السياسية تعرضا للتغيير طوال القرون الماضية.

نعلم أن الطفرات السياسية كادت تأتي بنتائج قد لا تكون ملائمة للبعض، وستعيد إحياؤها في هذه المرحلة ثانية لاعتبارات عددية، كظهور دولة كوردستان، فالعوامل الداخلية والخارجية التي تعارضت على نشوئها في بداية القرن الماضي، زالت أو يجب أن تزال خاصة العامل الداخلي، فوجود كوردستان أصبحت من عوامل الاستقرار في المنطقة، تقع في مركزها، وجغرافيتها تحتضن قوة بشرية واقتصادية ستكون منافسة لأكبر الدول في الشرق الأوسط، إلى جانب اختلافها القومي واللغوي عن محيطها، وما قدمه الشعب الكوردي من الخدمات للعالم ضد الإرهاب، في السنوات الماضية، تجعلها حاضرة في ذاكرة الدول العظمى، التي تعقد الاتفاقيات السرية، المعنية بالتشكيل الجديد للشرق الأوسط.

كوردستان ستكون أكثر أهمية دوليا من فلسطين في قادم السنوات؛ حتى ولو إنها لا تظهر مثلها على الإعلام، جغرافيتها قد تصيبها التمزق ثانية، مثلما فلسطين لن تكون حسب حدود عام 1967م كما يتم المطالبة بها، والاعتراف بها ستلاقي معارضة من دول المنطقة، مثلما يجري اليوم ضد إسرائيل والتي أصبح الاعتراف بفلسطين من ضمن شروط الاعتراف العربي والإسلامي السياسي بإسرائيل، لكن كوردستان ستكون، حتى ولو إنها كقضية دولية لا تزال معقدة، خاصة وإنها ستظهر على حساب إعادة النظر في جغرافية أربع دول لقيطة تشكلت في بدايات القرن الماضي من العدم، وأصبحت تدرس وكأن حدودها السياسية شبه مقدسة، القوة الأكثر تأثيرا على تلطيف هذه المعوقات هو تمتين العامل الداخلي، والذي سيزيد من الدعم الخارجي.

دراسة إعادة النظر في الجغرافية السياسية للدول المحتلة لكوردستان، حاضرة في المشاريع والمخططات الجديدة للمنطقة بغض النظر عن طول أو قصر المرحلة الزمنية، وهو ما حدث في مسيرة القضاء على الإمبراطورية العثمانية وتقسيم ميراثها، ونرى في الأرشيف التاريخي لاتفاقية سازونوف – سايكس – بيكو عام 1916م وفيما بعد سان ريمو 1920م كيف تبدلت نسبة الحصص بين الدول الكبرى حينها، وكيف تغيرت الحدود السياسية للدول خلال سنوات قليلة، إلى أن بلغت مرحلة ما هي عليه اليوم، ونعلم كيف ظهرت ومن ثم ضاعت حينها الحضور الكوردستاني من على طاولة المباحثات المتتالية، وهو المتوقع حاليا، فيما إذا ظل العامل الداخلي على ما هي عليه الأن، أو أعادت الحراك الكوردستاني تجربة القرن الماضي، فما بين حينها واليوم، طفرة ما بين الجهل أو ربما عدم الخبرة بالأبعاد السياسية والعلاقات الدبلوماسية إلى جانب عامل الرباط الإسلامي ومن ثم الضعف الاقتصادي ويمكن تبريره، وبين العناد الحزبي البالغ حد الجهالة والتي تقضي على الظروف الملائمة خاصة بعد المكتسبات التي حصل عليها حراكنا، ففشل اليوم لا يمكن تبريره، كما يتم بحق الشخصيات الكوردستانية في القرن الماضي والتي كانت نشاطاتهم نتيجة ردة فعل المعاناة وليس تخطيط سياسي مبني على الوعي وإدراك الصراعات الدولية ومصالحها، لكن اليوم كل العوامل موجودة لتجاوز الظروف الإقليمية الفارضة ذاتها.

استراتيجيات القوى العظمى مختلفة لكن الغاية هي ذاتها، وأهمها مصالحهم الاقتصادية، وكوردستان منطقة غنية تجلب أنظار الجميع، ولا يستبعد أن بريطانيا وفرنسا بعدما فشلا في إظهار قوة كوردستانية تواجه الإمبراطورية العثمانية، كقوة الملك فيصل بن علي شريف مكة عام 1916م، تقصدا تجزئتها بين الدول الأربع، لتستخدمهم عند الضرورة ضد تلك الدول، وهو ما فعلوه بمطالب الملك فيصل حول الدولة العربية الموحدة، بل وعزلوه عن حكم الجزيرة العربية ونصبوا سعود ملكا وكان الأنسب لمصالحهم، بل وساعدوه ضد آل الرشيد ملك الشمر لأن الأخير ظل وفيا للإمبراطورية العثمانية، مثلما ظل أغلبية الكورد أوفياء لها، وتم طرد الشمر من مملكة حائل، وغضوا النظر عن كوردستان.

الفرصة آتية وستمر بسرعة غير متوقعة، فإذا لم نغير ذاتنا كحراك وقوى سياسية، ونتلاءم مع الظروف الحالية، ونتجاوز خلافاتنا الحزبية، فالمسيرة ستتجاوزنا كما تجاوزتنا في بداية القرن الماضي، الدول الكبرى لا تهمها حججنا ضد بعضنا، ولا تكترث بأصابع التخوين الداخلي، وأكثر ما تعترض مسيرتها هي الخلافات الداخلية للأدوات التي تعتمد عليها، والحراك الكوردي وعلى خلفية العداء البشع من قبل القوى الإقليمية لا مرتع له أكثر من قبول البعض، والتحالف مع القوى العظمى، أمريكا في المقدمة وسابقا كانت روسيا، الإمبراطوريتين اللتين تبحثان عن مصالحهما قبل مصالح أحزابنا المشتتة، وقد فعلها جورج واشنطن في مرحلة تحرير أمريكا من الإمبراطورية الإنكليزية، في عام 1776م عندما وجد تفوق عدوه، وخسارته لنيويورك ومناطق أخرى أرسل الكاتب والعالم الفيزيائي المشهور وأحد مؤسسي أمريكا (بنجامين فرانكلين) مع حفيده إلى فرنسا لإقناع إمبراطورها على دعمه بالسلاح والعتاد والأموال ضد الإنكليز، وكانت مهمته تحرير أمريكا كوطن، تعامل حتى مع مهربي الأسلحة لتحقيق غايته، وحصل على الدعم الفرنسي الواسع فيما بعد، بعكس أحزابنا الكوردية والتي سبقتهم مصالحهم الحزبية قبل بلوغهم مجالس الدبلوماسية الدولية.

وكثيرا ما نوهنا إليه للحراك الكوردستاني، ولمن حملوا شيئا من الدبلوماسية على ما يسقطون فيه، وأنه لا بديل عن تكامل العاملين الداخلي والخارجي، أحدهما دون الآخر لن يأتي بالنجاح، ودون كسب ثقة القوى العظمى بكوردستان وليست بالأحزاب، يصبح حتى التفكير بعرض قضيتنا الكوردستانية على المحافل الدولية وخاصة على منصة مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة ضربا من الخيال، أو شبه مستحيلة.

كسب تلك الثقة لا تأتي بالخدع الحزبية، والمعني هنا جميع القوى الكوردستانية، لا استثني أحدا، حتى ولو كانت القوى المهيمنة هي الأكثر معنية، فكل جهة لها مسوغاتها وحججها، والجميع لهم علاقات مع إحدى الدول الإقليمية، أي الكل مشمول والكل ضمن الساحة.

لا بد من التعامل على مبدأ المصلحة السياسية للوطن، والتي من أول بنودها تجاوز الخلافات وليس نسيانها، فليعلم الجميع، القوي خاصة، التشتت يضعفه عاجلا أم أجلا، وسيخسر في حال لم يتم الاتفاق على بعض البنود الوطنية، وليعلم الذين حصلوا على بعض المكتسبات، في الواقع لا ركيزة ثابتة لهم في ظل البيئة الحالية، الدول العظمى ستبدلهم بالقوى المتمكنة التي بإمكانها أن تخدم مصالحها، وما دام الحراك الكوردي على خلاف وتؤجج الشارع على بعضه، فالقوي سيصبح غدا ضعيفا، لأن قوته مستمدة من المساعدات الخارجية بغياب العامل الداخلي.

أي فيما لو ظل حراكنا الكوردي على ما هو عليه، وأعني نحن جميعا، غدا ستحاكمنا الأجيال القادمة كما نحكم اليوم على ماضي عشائرنا وبعض الشخصيات التي لم تتمكن من الاستفادة من الظروف حينها. سنكون مذنبين حتى ولو كان أحفادنا لطفاء بنا وخلقوا لنا المبررات كما نفعله اليوم لأجدادنا.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى