رأي

شتّان بين الأستاذ “الثّائر”والسيّاسي المتحفّظ.

رشيد مصباح (فوزي)

**

كثيرا ما استشهد بمقولة “رُبّ صدفة خير من ألف ميعاد” على الرّغم من أنه لا وجود للصّدفة في ظلّ وجود قضاء الله وقدره، المكتوب؛ و” المكتوب على الجبين ما يمحوه اليدين”، و”المكتوب يغلب المزروب”…

كثير من العلماء والفقهاء ينكرون وجود شيء اسمه “صدفة”، أو “حظ”. ومن هؤلاء (ألبرت انشتاين) صاحب المقولة الشهيرة: “الإله لا يلعب بالنّرد مع الكون”. -تعالى الله عمّا يصفون-

وأمّا الصّدفة االتي نتحدّث عنها، فهي تلك العوارض التي تحدث معنا بغير قصد، ولا تخطيط منّا. كأن تلتقي في طريقك وفجأة بصديق قديم لم تره منذ سنين. ففي هذه الحال يمكن القول بأنّها صدفة، سعيدة سارّة، ومفاجأة تدخل مشاعر البهجة و السّرور على قلبك.
الذي حصل معي في هذا اليوم، أنّه خلال قراءتي لبعض التعليقات الواردة في الفضاء الأزرق، صادفني اسم أستاذ، “غير عادي”، لم تدم معه العشرة سوى أشهر قليلة، لأنّه اختار السيّاسة بدل التّعليم. ولم أستطع محو صورته من ذهني وهو يردّد بيتاً من معلّقة (امرئ القيس) بصوته الجهوريّ الذي يهزّ المشاعر والأحاسيس. في حين لم نكن نحن “المشاغبون” متفاعلين مع ما يبديه من مشاعر جميله.
كما وأنّه قد ذكّرني بأستاذ متميّز هو الآخر، توفّي في حادث سير –رحمة الله عليه -، درسنا الأدب الجاهلي على يديه في المتوسّط. كنّا نستمتع معه بترديد بعض الأبيات من معلّقة (ابن شدّاد) الشّهيرة بانفعال يهزّ الكيان:، سيّما عند البيتين:
أَثني عَلَيَّ بِما عَلِمتِ فَإِنَّني
سَمحٌ مُخالَقَتي إِذا لَم أُظلَمِ
وَإِذا ظُلِمتُ فَإِنَّ ظُلمِيَ باسِلٌ
مُرٌّ مَذاقَتَهُ كَطَعمِ العَلقَمِ
لكن أستاذي صاحب معلّقة (امرئ القيس) الشّهيرة، كان حين يصل إلى صدر البيت:

مِكَرٍّ مفرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معًا**كجلمودِ صخْر حطه السيل من علِ

تثور ثائرته، وينفعل بشدّة.

قبل أكثر من عقدين، ألتقيتُ بالأستاذ المهذّب في هيئة عموميّة حين كنتُ موظّفا فيها، وكان هدفه من تلك الزيّارة الخفيفة مهنيّا بحتا. ومع ذلك استطعتُ أن أهمس في أذنه بكلمتين: “مِكَرٍّ مفرٍّ”. أعادته إلى الوراء، إلى الماضي والأيّام الجميلة.

لم يخفِِ الأستاذ “السيّاسي” المتحفّظ، سعادته و تهلّل وجهه من الفرح. فكانت آخر مرّة رأيته فيها.

ثم خطر ببالي هذا اليوم أن أذكّره بتلك الأبيات مرّة ثانية. فولجتُ إلى صفحته بالفضاء الأزرق، وفتحتُ صندوق يريده لألقي عليه مجرّد السّلام، فانسابت حروف من بين أصابعي، وفقدت السّيطرة على الكلمات.

لكن “شتّان بين الثَّرَى والثُّرَيَّا “؛ أستاذ ثائر يغرس فيك المشاعر والأحاسيس الجميلة، وسيّاسي “بارد” ومتحفّظ. شعاره: “يا جبل ما يهزّك ريح”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى