سياحة و سفرمجتمعمنوعاتمنوعات

دولة فوق قمة العالم

بلد فوق قمة العالم

شريف حتاتة


بلد صغير عدد سكانه ثلاثة عشرة من الملايين محصورين بين العملاقين الآسيويين ، بين الهند فى الجنوب ، والصين فى الشمال . وعندما يتحدث أهل ” نيبال ” عن أنفسهم يقولون نحن بلد محاصر بالأرض ، لا منفذ لنا إلى المحيط . وهذه الجملة القصيرة تعبر عن إحدى مشكلاتهم الرئيسية . وهى أن تجارتهم ، أن كل ما يبيعونه ، وكل ما يحصلون عليه من احتياجات عن طريق الاستيراد ، لابد أن يمر خلال أراضى الجيران ، أى خلال أراضى الهند .
هذا الإحساس بالحصار قد ولد عند النيباليين حساسية مفرطة ، خصوصاً وأن بلدهم صغير مقارنة بأكبر دولتين فى العالم من حيث السكان ، تسعمائة مليون فى الشمال وستمائة وخمسون مليوناً فى الجنوب . اشتراكية فى الشمال ورأسمالية إقطاعية مصبوغة بمسحة اشتراكية فى الجنوب . يضاف إلى ذلك أن هذا البلد الصغير من الأقطار التى اعتبرتها هيئة الأمم المتحدة ، من بين أقل البلاد تطوراً من حيث النمو الاقتصادى ، والاجتماعى ، و أن فيها نظاماً ملكياً يتربع على عرشه شاب أسمه بيراندرا .
أتذكر أنه أيام الشباب قرأت عن مدينة اسمها ” كاتماندو ” ، وعن جبال “الهيمالايا” ، وعن أولئك المغامرين الذين يصعدون فوق جبل ” إفريست ” أعلى قمة فى العالم يصل ارتفاعها إلى أكثر من 29.000 قدم فوق سطح البحر . لكنى لم أكتشف أن الجبال العظيمة التى تسمى سقف العالم ، توجد فى بلد اسمه ” نيبال ” ، وأن مدينة ” كاتماندو ” هى عاصمته ، إلا بعد أن عملت فى الهند لمدة أربع سنوات .
خلف مكتبى فى مقر منظمة العمل الدولية بنيودلهى ، كنت قد علقت ثلاث خرائط كبيرة . إحداها للعالم ، والثانية للهند ، والثالثة لآسيا كلها . لم أكن أمل من النظر إليها فى لحظات الفراغ . عندما يدخل إلى أحد الذين يعملون فى المكتب ، يجدونى أحياناً واقفاً أمامها ، أحملق فى أحد البلاد ، أو أتتبع بإصبعى سلسلة من الجبال ، أو نهراً كبيراً ، أو طريقاً للسكك الحديد يشق المسافات . فالسفر جًسد بالنسبة إلى ، كثيراً من الأشياء التى لم أكن رأيتها من قبل إلا فى الخيال . كانت أسماءً مجردة لا تعنى لى الكثير ، أحن إليها الآن ، لأنه أصبح لها لون ، وطعم ، ورائحة ، وقوام . صفات عشت معها فى العقل ، والحس ، والوجدان . أصبحت مدنا أعرف بيوتها ، وشوارعها ، ومتاحفها ، ولى فيها أصدقاء . أو مناظر طبيعية استغرقت فيها بانبهار ، أو ناسا عرفت حياتهم ، فأدركت أننى أشاركهم كثيراً من الأشياء . أو بلاداً ترتبط فى ذهنى بأحداث ، وأعمال ، ولقاءات . الآن عندما اقرأ الصحف لم تعد الأسماء بالنسبة إلى كالجماد . أصيحت تنبض بالوجوه ، والذكريات . أصبحت لجغرافية العالم التى أدرسها معنى ، وحياة .


الطائرة تحملنى أعلى السحاب . مقاعدها زاهية متداخلة الألوان . على جدرانها رسوم نيبالية ، بيوت ، وفلاحون ، وفلاحات ، وحيوانات تتحرك وسط خضرة الجبال . المضيفون والمضيفات يبدون صغار السن وكأنهم لازالوا صبية ، وبنات . أجسامهم نحيلة تروح وتجىء مثل نسمة هواء ، وأصواتهم هامسة . الوجوه فيها سمار الهند ، لكن التقاطيع والعيون تتأرجح عند منتصف الطريق بين الهند والصين . تتدرج فى شكلها حسب قربها من الشمال أو الجنوب . فنيبال مقسمة إلى ثلاث قطاعات ، السهول فى الجنوب قرب الهند ، منطقة التلال الوسطى ، ثم جبال الهيمالايا فى الشمال قرب الصين . سكان الجنوب أقرب إلى الهند ، وسكان الشمال أقرب إلى الصين ، وبين الاثنين يتوازن العنصران .
من النافذة أرى السماء فيها صفاء غريب يخطف الإحساس ، كالسحر المعلق فى الفضاء . أسفل الطائرة شبورة رقيقة تغطى الوديان ، وتنقشع أحياناً لتبرز منها مساحات خضراء تشبه البحيرات . وعند الأفق ألمح خطا متعرجاً تصنعه كتل مسنونة بيضاء . تعلو وتهبط فى زرقة السماء ، وتنحدر لتصبح سفوحاً للجبال تغطيها الغابات . تبدو قاتمة ، سوداء ، تخترقها هنا وهناك الخيوط الرفيعة للأنهار ، تسقط مسرعة بين الصخور فيلمع سطحها باللون الأبيض للرذاذ .
هبطنا فى المطار على مساحة مسطحة ، كأن قمة الجبل أزيلت بسكين حاد . أستنشق الهواء وارفع وجهى للشمس ، تسكب دفئها على الكون بحساب ، فبرودة الجو المنعشة تتسرب لى خلال الثياب .


قطعنا المسافة من ” نيودلهى ” إلى ” كاتماندو ” فى ساعتين . توقفنا فى منتصف الطريق ، عند مدينة ” امرتيسار ” عاصمة ” البنجاب ” وصعدنا إلى الطائرة من جديد . لمحت قباب المعبد الذهبى المشهور الذى أقامه ” السيخ “على حدود المدينة . عددهم فى الهند أحد عشرة مليونا . رجال شديدى البأس يقودون الشاحنات ، ويكونون الأغلبية فى الجيش ، ونساء أقوياء ، عيونهن سود وقوامهن مرفوع فى القميص ، والبنطال .
كانت ديانة ” السيخ ” فى الأصل ، رافدا من روافد الإسلام فى شمال الهند ، سعى إلى التوحيد بين المسلمين والهندوكيين . كان هذا الرافد ضد الطائفية ، والجمود ، ولم يكن على رأسه نبى أو إمام . بنى دعوته بالاعتماد على نشاط المرشدين يسمونهم “جورو” (أى المعلم) فى الهند . لكن الحركة فيما بعد ، تحولت إلى طقوس وعصبية عمياء . قام بعض أفرادها باغتيال ” انديرا غاندى ” ، وقامت بينها وبين الهندوكيين صراعات مريرة ، ومذابح متبادلة ، أشهرها الهجوم الذى شنه الهندوكيون على المعبد الذهبى .
فندق ” شانكار” فى ” كاتماندو” ، قصر قديم كان مملوكاً لأحد أفراد الأسرة المالكة . أسرة إقطاعية حاكمة كثيرة الفروع كاوا يسمونها ” راما ” . وهذا الأسم م زال منتشراً فى الأوساط الحاكمة ، وفى صفوف المثقفين الذين أنحدروا منها ، لأنهم أول منْ استطاع أن يحصل على فرص التعليم فى انجلترا ، أو غيرها من البلاد .
إنه مبنى أبيض كبير أقيم منذ عشرات السنين ، تتسلقه الزهور الصفراء ، والحمراء صاعدة على الفروع الرفيعة للأشجار المحيطة به . توجد فيه صالة للحفلات الراقصة تحولت إلى حجرة للطعام ، ودهاليز ، وسلالم عريضة ، أو جانبية ضيقة تصعد ، وتهبط فى الأركان . ظللت عدة أيام أتوه فى ثناياه المظلمة ، فأضل الطريق لأجد نفسى أمام باب مغلق عند السطح ، أو فى جوف
” بدروم ” من البدرومات الخالية .
الفندق مزدحم بالنزلاء من جميع الجنسيات ، سواح ، وعاملون فى المنظمات الدولية ، روس ، وألمان ، وفرنسيون ، وإنجليز ، وأمريكان ، وجماعات كبيرة من اليابان . هنا تتردد كل اللغات .. فالموسم الحالى هو موسم التزحلق على الجليد ، موسم ينشط فيه خبراء المنظمات الدولية الذين يعرفون المواسم الملائمة لزيارة البلاد .. تدربوا طويلاً على أقل قدر ممكن من الجهد ، وعلى أكبر قدر ممكن من الاستمتاع .
يرافقنى فى هذه الزيارة خبير من أمريكا اللاتينية . وصلنا إلى ” كاتماندو” عاصمة البلاد يوم السبت بعد الظهر . ويوم الأحد أجازة فكان أمامنا يوم ونصف لزيارة المدينة . تركنا حقائبنا فى الفندق بعد أن أخرجنا منها بعض الملابس البسيطة . تزودنا بالخرائط والكتيبات التى تصف معالمها ، وانطلقنا من بوابة الفندق فرحين كالأطفال .
شارع ” لاحيجبات ” يشق المدينة الصغيرة من الشرق إلى الغرب . أمام قصر الملك على جانبى الباب اصطف عدد من الجنود النيبالييين . يرتدون قبعات حولها شريط أحمر . وجوههم كالصخر البرونزى اللون لا تبدو عليها الأحاسيس أو الخلجات . أنهم مقاتلون جبليون اشتهروا ببأسهم ، وقوتهم ، وقسوتهم ، يكونون المرتزقة بأسم
” الجوركا ” استخدمهم الإنجليز بالآلاف فى معارك الإمبراطورية وفى كل الجهات .
استأجرنا دراجتين بثلاث روبيات ، فالدراجات أفضل وسيلة لزيارة المدن الصغيرة . الجو هنا جميل ، والمسافات قصيرة . كلما ركبت دراجة أشعر أننى عدت إلى الوراء عشرات السنين ، إلى الأيام الأولى للشباب . أقوم بالحركات التى كنا نقوم بها فى تلك الأيام. ارفع يدى ، وأترك الدراجة تسير . نشق الحدائق ، ونجتاز الكبارى التى تعبر البحيرات لنصل إلى قلب المدينة ، إلى شارع السوق إلى ” كانتيبات ” ، ” نيورود ” . ثم إلى ميدان ” دريان سكواير” و ” ماكونتول ” . على الجانبين عشرات الحوانيت الصغيرة المتلاصقة ، أكشاك خشبية مرفوعة عن الأرض يصعد الناس إليها بدرجتين ، تبيع كل شىء ، أوان ، وملابس ، وأحذية ، وسترات من صوف لأغنام ، وشيلان مشغولة باليد ، وسجاجيد منسوجة على الأنوال اليدوية فيها ذوق وجمال ، وبعض التحف المصنوعة من الخشب ، أو النحاس . السلع محدودة ، وبسيطة تدل على انحصار الاستهلاك ، على مجتمع بدائى لم تتغلغل إليه كبرى الشركات .
فى المنطقة المحيطة ” بدوريان سكواير ” و ” ماكونتول ” عدد كبير من المعابد البوذية . بعضها ضخم ترتفع عشرات الأمتار فوق سطح الأرض ، وبعضها صغير تشبه النماذج المبنية للعرض ، أو الزينة لكنها متشابهة ، تتخذ شكل ” الباجودا ” . أدوارها مربعة يقل حجمها كلما صعد البناء ، ولها أفاريز ندور حولها ، ينحنى سطحها إلى أسفل وتلتقى فى جزء بارز عند كل ركن . تتدلى منها عشرات الأجراس الصغيرة المصنوعة من النحاس . عندما يهب النسيم تهتز ، فيصدر عنها رنين صاف ، تملأ الجو بموسيقى جميلة.
حول المعابد ترفرف أسراب من الحمام ، أو تقف صفوفاً فوق الأفاريز المحيطة بأدوارها ، تملأ الجو بحفيف أجنحتها ، وبصوتها الحنون . تطل علينا من أعلى برؤوسها الصغيرة ، كأنها تتبع حركة الناس يروحون ويجيئون طوال الوقت ، أو يجلسون على الدرجات فى سكون ، كأنهم يستريحون من عناء المشى ، أو يبيعون سلعهم فى الأحواش المحيطة بالمعابد بعد أن تهدمت أسوارها . سكاكين ، وأقفال ، وآوان ، وتماثيل من الخشب ، ومناديل ، وبعض قطع النقود القديمة .
هبطنا من الدراجتين ، وسرنا على أقدامنا فى السوق وسط الجموع . شاب يحاول زحزحة أحد الباعة الجائلين من مكانه . على ملامحه صرامة تبدو مفتعلة فى وجهه الطيب ، الودود . إلى جواره يقف شرطى يشاهد ما يدور دون أن يتدخل ، وحولهم حلقة واسعة من الناس لا يتدخل منهم أحد فى النزاع الدائر أمامهم ، لكن كلهم ينصتون بأهتمام . أحس بالجو العام فيه سلام ، وسذاجة ، وتخلف القرون .
سرنا على أقدمنا حتى وصلنا إلى نهر ” باجماتى ” يلتف فى واد عميق حول تل كبير . على ضفافه بيوت متناثرة صغيرة مبنية على طراز ” الباجودا ” البوذى ، فالأغلبية الساحقة من السكان فى نيبال بوذيون . البوذية لم تنتشر فى موطنها الهند ، ولكنها سارت خارجها كالنار فى الهشيم . فى نيبال ، وسيلان ، وبورما ، ثم بعد ذلك فى الهند الصينية ، وتايلاند ، والصين .
على أطراف المدينة يعيش أفقر السكان ، يعانون من الحرمان ومن جوع يأكل فى الأجسام . الوجوه فيها صفار يشوبه فى الخدود احمرار خفيف ، علامة تدل على فقر الدم الشديد . أجسام الأطفال جلود على عظام ، وبطونهم منتفخة ، ومتورمة بسوائل الجسم تتراكم فى الأنسجة بسبب غياب البروتين ، أى غياب اللبن ، و الجبن ، و البيض ، واللحم فى الطعام . أجسام الرجال والنساء تشبه أجسام الأطفال ضامرة ، وفى وجوههم شيخوخة مبكرة رغم أنهم ما زالوا فى سن الشباب ، وذلك الجمود الذى يدل على تخلف العقل ، وتبلد الإحساس . العيون فيها نظرة واحدة لا تتغير ، نظرة عاجزة عن الرؤية ، عن معرفة ما يدور ، مطفأة ، بلا إدراك . فمتوسط العمر فى نيبال أربع وعشرون سنة ، وبين كل مائة طفل يولد ، يموت عشرون .
صعدنا حتى معبد القرود . يدور الدرج المنحوت فى الصخر حول الجبل ويرتفع كالحلزون . فالمعبد مبنى فوق تل عال ، والوصول إليه يقتضى الصعود فوق مئات الدرجات. وعلى طول المسافة حتى القمة عشرات القرود ، رمادية أو بنية اللون تطل إلينا من عيونها الماكرة اللامعة فى الوجوه العجوزة ، أو تقفز فوق الأشجار ، والدرجات ، والجدران .
المعبد مربع الشكل رسمت على جدرانه الأربعة الخارجية ، أربع عيون كبيرة تنظر فى الأربع اتجاهات ، شمال ، وجنوب ، شرق ، وغرب . عيون غريبة ، مسحوبة ، تضيق بين جفونها . تطل على المدينة من أعلى بنظرات فيها غضب ، وشر كأنها تهدد السكان الآمنين ، تنذرهم بعواقب أى خروج عن تعاليم القوى الغامضة التى تهيمن على حياتهم .
عيون لا تنام ، ساهرة ، متنبهة ، ترى كل ما يتم فى الشوارع ، والبيوت ، تراقب سكان مدينة كاتماندو فى النهار ، وفى الليل .
الناس يصعدون سلالمه فى آخر النهار حاملين السلال ، مواقد الكيروسين . يعدون الطعام ، ويتناولون عشاءهم أسفل المعبد حتى يتقربوا من الأرواح . يطلون من أعلى الجبل على النهر ، وعلى الوادى ، على الشمس ، والأشجار تتمايل فى النسيم .
إلى جوار المعبد يوجد منزل للرهبان . ألمح ملابسهم البرتقالية ، والحمراء معلقة على حبل للغشيل . على الجدار المحيط بالحوش الكبير يجلس السواح ، ومن بينهم امرأة تتحدث بالفرنسية . شابة ولكن وجهها شاحب عجوز ، متآمل ، مشدود .. جسمها ضامر تهدل حوله اللحم ، وعيناها مساحتان واسعتان من السواد ، تحملقان أمامها ، بلا إحساس . تجلس كمنْ نسى العالم تماماً ، فى حالة كاملة من الشرود .
هذه المرأة عرفت فيما بعد أنها جاءت إلى كاتماندو منذ سنين . تحيا على حقن المورفين . مدمنة بين آلاف المدمنين ، عرفوا الطريق إلى كاتماندو . عرفوا الطريق إلى المخدرات يعيشون فى عالم معلقين بين الأرض والسماء ، فى هذه البقعة الجميلة الصافية ، لينسوا الدنيا وكل ما فيها من مأساة .


جلسنا فى حديقة الفندق قبل الغروب بقليل . البلد صغير وبعد أنتهاء ساعات العمل لا توجد فيها أى وسائل للتسلية ، سوى الاستمتاع بالجو الجميل ، والحديث . وهكذا تقاربت من زميلى الآتى من أمريكا اللاتينية فى مدة قصيرة .
أسمه هوزيه أى جوزيف وبالعربية يوسف . أصله من بيرو . قصير القامة ، عريض الجسم . عيناه حزينتان . إنه قلق على الدوام . نظراته تتلفت هنا ، وهناك ، كأنه لا يشعر أبداً بالاطمئنان . يعتنى عناية دقيقة بهندامه ، وكل شعرة فى رأسه تبقى مكانها . حول عنقه يرتدى البابيون .
ولد فى أسرة فقيرة ، فتطلع إلى منْ هم أوفر حظاً ، وأعلى فى المقام الاجتماعى . سعى إلى الصعود عن طريق العمل المستمر ، والجهد الشاق . تلقى تعليمه فى المدارس الحكومية ، فالمدارس الخاصة كانت تغلق أبوابها أمام أبناء وبنات الأسر الشعبية ، حتى وإن ستطاعوا دفع المصاريف . لذلك هاجر إلى الولايات المتحدة ، حيث كانت التفرقة تعتمد فقط على الإمكانيات المادية . أصبح مهندساً كيمائياً وعاد إلى بيرو ، ليمارس مهنته خلال فترة امتدت عدة سنين . بعد ذلك انضم إلى برنامج هيئة الأمم المتحدة للتنمية ، ليعمل خبيراً فى المشروعات الصغيرة . الآن أصبح يقيم فى بانجكوك ، بينما أسرته تعيش بعيداً عنه فى جنيف .
المحه يدور بعينيه حول الناس الجالسين فى الحديقة يستمتعون بالدفء الرقيق ، والنسيم . إنه تائه عن متع الحياة الصغيرة ، قلق على مصيره ، رغم أنه يشغل وظيفة دائمة فى منظمة دولية ويتقاضى عشرات الآلاف من الدولارات سنوياً . أحس كأنه يبحث على الدوام عن شىء ضاع منه . حتى حياته الزوجية فيها هذا القلق المستمر ، والتوتر الدفين . يحكى لى أن زوجته كاثوليكية مؤمنة تنفذ تعليمات الكنيسة بحذافيرها ، ولذلك ترفض نهائيا استخدام وسائل منع الحمل . كلما قاربها فى الفراش ، سيطر عليها شبح الحمل ، فيعجزان عن الاستمتاع ، حتى يقول لها ” إذا أردت أن نمارس الحب يجب إلا يشاركنا الرب الأشياء التى نمارسها فى الفراش “.
يدور بعينيه القلقتين لا تستقران ، إلا عندما تقعان على صدور أو أرداف النساء . مازال يبحث عن الجنس طوال الرحلات . ضاعت منه الجذور ، والحياة مع الأسرة ، والأطفال . ضاع منه الحب ، ولم يبق له سوى آلاف الدولارات تتراكم فى البنك سنة بعد سنة . لكن هناك أشياء لا تشترى حتى بالدولارات . هناك أشياء بلا ثمن ، تكمن قيمتها فى الذات .


خطواتنا هادئة فوق الرصيف . نلمح سراى الملك ونحن سائرين . خارج السور يوجد الذباب ، وأطفال حفاة يلعبون ، وسيارات الداتسون ، والتويوتا ، وإلى جوارها
” الركشا ” يجرها آدميون بالراكبين . عند الحديقة العامة بياعون يعرضون قليلاً من البرتقال الجاف ، الضامر ، وأصابع من الموز السوداء اللون ، وحلويات مصبوغة بالأحمر ، والوردى ، والأخضر ، بألوان فاقعة توحى بالمرض المصنوع . وعند مسافة قصيرة سيدة عجوز يجلس إلى جوارها شاب ثيابه أسمال ، تكاد لا تستر شيئاً من جسمه الممدود فوق الرصيف . أمامها قفص تخرج منه فأرا أبيض ، يمسك بين أسنانه بورقة صغيرة التقطها من كوم موضوع على مقربة منها . تلتقط الورقة من بين فكيه وتبسطها على الأرض لتقرأ السطور المكتوبة عليها بقلم رصاص ، وتتلوها على الشاب . يستمع إليها كأن حياته تعتمد على المكتوب . يقوم ، ويخرج من جيب البنطلون الممزق قطعة من النقود ، ويلقى بها على الأرض أمامها . نصف روبية كان يمكن أن يأكل بها وجبة اليوم ، ولكنه دفعها لتقرأ له الحظ ، الذى اختاره له الفأر الأبيض من الكوم .
اتجهنا مرة أخرى إلى قلب المدينة . إلى ” دوريان سكواير ” ، حيث تتزاحم المعابد . أهمها وأكبرها ” هانومان داكو ” . عند بابه تمثال لقرد كبير يرتدى لباسا قرمزى اللون . هذا المعبد خاص بالإله ” هانومان ” ، أكثر الآلهة جبروتا . إنه مزدحم بالتماثيل . على جدرانه نقوش ملونة ، وأبوابه مصنوعة كالمشربيات المحفورة فى الخشب .
فى قديم الزمان كان الكهنة الهندوك ( فهذا المعبد يتبع الطائفة الهندوكية ) ينتزعون طفلة من أحضان إحدى الأسر الفقيرة ، ويأخذونها معهم لتدخل هذا المعبد . يطعمونها بسخاء ، يوفرون لها الراحة ، ورغد العيش ، ويلبسونها أفخر وأجمل الثياب . تبقى فى المعبد وعندها تصل إلى سن البلوغ يقدمونها ضحية للإله هانومان . يحملونها على دابة فى موكب مهيب جالسة على عرش من الذهب والحرير . ثم فى صمت الليل ينحرونها بسكين كالكبش الضحية فى عيد المسلمين . طقوس تشبه تلك التى كانت متبعة عند قدماء المصريين . التضحية بفتاة هى عروس النيل لضمان الفيضان ، والخير . فالمرأة كانت ولازالت حتى اليوم ، ضحية الآلهة الذكور يفرض عليها أن تضحى بحياتها حتى تستقر الأمور .
الزحام حول قارئى الكف والحظوظ شديد . جمع من الشباب يجلسون حول قارىء للأسرار والمصير . شيخ أسمر الوجه أبيض اللحية يشعل قطعا من الفتيل ، ثم يضع حبات من الأرز فى كف الجالسين حوله . يتمتم ببعض الكلمات ، ويضع إصبعه على قلب كل شاب منهم بالدور . عندما ينتهى من أحد الشبان الجالسين حوله ، يقوم من مكانه ليحل محله شاب أخر ، وليبدأ الطقوس من جديد . فكلما زاد التخلف كلما آمن الناس بالقدر ، والحظ ، والسحر ، وبالطقوس الغريبة لتنقذهم من شر مقيم ، وتجلب لهم ما يحلمون به .
فهم محاطون بالمخاوف ، والأعاصير لا يملكون فى حياتهم شيئاً ، ولا يبقى لهم إلا التضرع للقوى الخفية فى معابدهم .. للآلهة والمتحدثين بأسمهم . لا يبقى لهم إلا محاولة معرفة ما تخفيه الأيام . منذ قديم الزمان ولد القلق ، وعدم الاطمئنان يخلق رغبة ملحة فى معرفة أسرار الغيب .


فى اليوم التالى وأنا عائد من المكتب ، توقفت فى الطريق بسبب طوابير السيارات التى ازدحمت فى الشارع الرئيسى المتجه إلى قلب المدينة . رأيت صفوفاً من الناس يقفون على الجانبين ، فاعتقدت أول الأمر أن هناك استعراض ، أو مهرجان ، أو مناسبة يحتفلون بها . ولكنى بعد قليل لاحظت وجود سيارات للجيش ، واللاسلكى ، وعسكر يحملون الرشاشات ، ومدنيين معهم بنادق .
على جانب الطريق سيارة فولكسفاجن بيضاء زجاجها تناثر فوق الاسفلت . الزجاج الجانبى به ثغرتان ، حيث اخترقتهما قذائف وجهت إليها . على الرصيف رقدت جثتان لرجلين ، كانا يرتديان سترة بنية اللون ، وحذاءاً أسود حول القدمين . شعر أحدهما أكرت كثيف .
علمت فيما بعد ، أنهما اغتيلا بواسطة عصابات الأسر المالكة الإقطاعية . فهما أعضاء فى حركة تنادى بالحريات ، والدستور . لكن عندما مررت على نفس الطريق قرب آخر النهار ، كان كل شىء قد عاد كما كان . لم يبق سوى الزجاج المنثور إلى جوار السيارة تقف قرب الرصيف ، يحرسها الآن رجل بوليس . الناس سائرون فى هدوء يتبادلون الأحاديث ، وجمع من الشباب يتفرجون عليها من بعيد . وشابة مومس تقف على الناصية ، وتشاور ناحيتى بحركة مستترة من يدها السمراء الصغيرة ، وتقول أويس كوم هير . أى نعم تعالى هنا .
من كتاب ” وفى الأصل كانت الذاكرة ” 2002

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى