أخبارإسلامثقافة

حكاية مسجد وبان وإمام ..((جامع أبو حنيفة النعمان))

أحمد الحاج

كنت في طريقي الى جامع عريق لابد لي من أن أطل عليه بين الفينة والأخرى لأشم بين أروقته عبق التاريخ ، وأتنسم بين جنباته عبير العلم ،وأتنشق شذى العلماء،جامع سمي باسم علم من أعلام الامة الاسلامية، وفقيه من أجل فقهائها قال فيه الامام مالك بن أنس” لقد رأيت رجلاً لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته” وقال فيه الإمام الشافعي “من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة”، وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل “إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد” .

هو النعمان بن ثابت ويكنى بأبي حنيفة نسبة الى الدواة – المحبرة – كناية عن سعة العلم ،وغزارة المعرفة ، ولد سنة (80هـ ) بالكوفة ونشأ وترعرع فيها وقد إختلف المؤرخون في نسبه،أفارسي هو أم عربي ؟ فيما يؤكد العلامة المحقق الدكتور ناجي معروف، الذي شغل مناصب عميد كلية الامام الاعظم ، وعميد كلية الشريعة،فضلا على كونه أحد المؤسسين لـ (جمعية منتدى الإمام أبي حنيفة) ورئيسها حتى وفاته خلال مناسك العمرة في شهر رمضان من عام 1977،بين دفتي كتابيه ذائعي الصيت “عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان”و” عروبة العلماء المنسوبين إلى البلاد الأعجمية ” أن أبا حنيفة كان عربي الأرومة” وترجع أصوله الى عرب الأزد الذين هاجروا من اليمن وسكنوا العراق بعد إنهيار سد مأرب ويؤيده في ما ذهب إليه كثيرون.

أخذ النعمان العلم عن شيوخه ومنهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين كما ورد في كتاب (ابو حنيفة )،اعتمد مذهبه الفقهي على القياس والرأي المستمد من أحكام القرآن والسنة ، أشتهر المذهب الحنفي وشاع في العراق والشام واليمن وشمال افريقيا وأواسط آسيا و شمال القفقاس اضافة الى بلاد فارس والهند والصين .

من جميل أقواله ” كلامنا هذا رأي فمن جاءنا بخيرٍ منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده” و” لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ، والدعاء المأذون فيه ، المأمور به ، ما استفيد من قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) ” كما جاء في الدر المختار من حاشية المختار “.

أما جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان في منطقة الأعظمية فقد بني سنة 375 هـ ، لتشيد الى جانبه مدرسة كبيرة سنة 459 هـ كانت تعد واحدة من أقدم ثلاث جامعات في العالم .

ولعل من اللطائف أن صنبور الماء سمي بـ” الحنفية ” نسبة الى الامام “ابوحنيفة ” حيث كان الامام لا يجوز استخدام الماء من وضوء سابق وعندما بنى ” مسجد محمد علي ” في القاهرة وزود بـ “الصنابير بدلا من طريقة الوضوء بالاكواز السائدة آنذاك ،اعترض بعض العلماء إلا أن علماء الحنفية، جوزوا الوضوء من الصنابير لرفع المشقة ومنذ ذلك الحين سمي صنبور الماء بـ” الحنفية ” .

ولاشك أن من معالم جامع ابي حنيفة “ساعة الجامع الشهيرة” وهي إحدى الساعات التراثية التي تم نصبها على برج عال عام 1958م فيما يرجع تاريخ صناعتها الى عام 1930م وحرص الاميركان على استهدافها بقذيفة دبابة مباشرة عام 2003 إمعانا منهم في الأذى ، إيذانا منهم بوقف عجلة الحياة ، وحركة الزمن في العراق عامة ، وفي بغداد الحضارة خاصة وما دروا بأن الأمة التي تقرأ صباح مساء في قرآن ربها آيات يقسم فيها الباري عز وجل بـ” العصر ” بـ” الفجر ” بـ” الضحى ” بـ ” الليل والنهار” ليعلمنا احترام الوقت وأهميته والحرص على عدم تضييعه فيما لانفع فيه البتة لن تركع أبدا ..تفتر حينا نعم ، تنام لفترة ممكن، تغط في سبات مؤقت وارد ، تضيع وقتها برهة محتمل ، أما أن تنام أبدا وتركع وتخضع فهيهات إنما هي وكما جاء في الحكم ” لكل صارم نبوة ، ولكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة”وأضيف وهذه من جعبتي” ولكل أمة حية غفوة !!” .

توفي أبو حنيفة الذي قال فيه القاضي أبو زكريا السلماسي ،في كتابه (منازل الائمة الاربعة ) “أما أبو حنيفة فسيد الفقهاء في عصره، ورأس العلماء في مِصره، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت” ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في بغداد سنة 150هـ، ليدفن في مقبرة الخيزران وهي مقبرة كبيرة تحيط بجامع الامام أبي حنيفة وتضم رفات أشهر قامات وعلماء وأدباء وأعلام العراق ، وقد أفاض في ذكر أسماء المدفونين فيها الشاعر والمؤرخ والخطاط الكبير وليد الاعظمي، في كتابه “أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران ” وقد دفن رحمه الله تعالى فيها أيضا عقب وفاته عام 2004 .

على مقربة من الجامع كان هناك جسر عائم يصدق فيه بيت علي بن الجهم الشهير :

عيون المها بين الرصافة والجسر …جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أزيل الجسر العائم عام 1957م وكان يربط الأعظمية بالكاظمية ليتم بناء جسر متين بدلا منه شبيه بجسر الأحرار من حيث التصميم وبعد الانتهاء من بنائه سمي بجسر الائمة، تيمنا بالأمامين الجليلين ابو حنيفة النعمان في مدينة الاعظمية المسماة باسمه، والامام موسى الكاظم في مدينة الكاظمية المسماة باسمه .

تعاقب على إمامة الجامع والخطابة والتدريس فيه علماء أجلاء أبرزهم الشيخ عبد القادر الخطيب،وكان اماما وخطيبا في جامع الإمام ابي حنيفة لأربعين سنة ، اضافة لكونه رئيسا لرابطة علماء العراق ، وقد رثاه الدكتور رشيد العبيدي ، بعد وفاته بقصيدة عصماء قال في بعض ابياتها :

شيخ الشيوخ وما عيني بغالية …إذا بكتك فأدمى جفنها الرمد

ولا الفؤاد بغال إن ألم به …سقم لفقدك أو أودى به الكمد

كذلك العلامة الكبير نعمان الاعظمي ، الذي تمكن ومن خلال مجلته (تنوير الأفكار) من الحصول على موافقة السلطان لإنشاء كلية الإمام الأعظم،لتدريس العلوم الشرعية وما تزال قائمة الى يومنا هذا ، ومن مؤلفاته “شقائق النعمان في مواعظ رمضان” و “إرشاد الناشئين” .

كذلك الشيخ مولود الحنفي وأصله من مدينة قونيا التركية، لقبه لفيف من علماء الازهر أثناء دراسته هناك بـ” الرجل الصالح ” وبعد هجرته الى بغداد درس على يد مفتي الديار العراقية الشيخ عبد الكريم بيارة ، والشيخ محمد طه البيلساني، وكان الشيخ مولود الحنفي يدرس طلبته في جامعي أبي حنيفة وبشر الحافي ،بينما يخطب الجمعة في جامع الدهان القريب ،استشهد الشيخ الفاضل برصاصتين امريكتين غادرتين ، وكان في طريقه للعلاج بالعاصمة الاردنية عمان عام 2005م، فشيعت جنازته في بغداد وصلى عليه جمع غفير في جامع ابي حنيفة الذي أحبه وعشقه وأمَّ ودرَّس فيه ردحا طويلا من الزمن ليدفن الى جواره في مقبرة الشهداء الملاصقة ، ومن أئمة الجامع الأعلام الشيخ العلامة الدكتور احمد حسن الطه ، أطال الله تعالى في عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية ، ويرأس الشيخ الفاضل المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والافتاء الذي يشغل جانبا من باحات جامع أبي حنيفة النعمان .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى