رأي

الخطاب الديني… متى يتطوّر؟

خطابنا الإسلامي يجب أن يتطوّر أي يتجدد سواء في أسلوب الإلقاء والتبليغ والدعوة أو الاهتمام بالواقع والتزيل عليه من أجل الاستعلاء الإيماني وشد الانتباه وحسن المعالجة وإصلاح العقول والقلوب والجوارح.

والخطاب الديني هو ميدان الخطباء والوعاظ والمفتين والكتّاب بالدرجة الأولى، هم – كما سماهم ابن القيم – الموقعون عن الله، أي المتحدثون باسمه، تبدأ المشكلة حين لا يلتزمون بشمولية الإسلام فيدرّسون ويكتبون ويؤلفون، وتجدهم إما يسوّقون خطابا “دينيا” بحتا لا يخرج عن دائرة العبادات وجزئياتها والموت والآخرة، أو أنهم يروّجون خطابا “علمانيا” يتناول شؤون الدنيا فقط، وبطريقة مملّة (النظافة، التشجير، عدم تبذير الماء، احترام النظام، ونحو ذلك مما يلائم العلمانية التي تقبل الدين فقط عندما يكون في خدمة الدنيا… وفي خدمة المنظومة العلمانية بالضبط)، فمثلا من شبه المستحيل أن تسمع في الأحاديث الدينية المبثوثة على الفضائيات الحكومية – من طرف علماء !!! – كلاما عن حكم ترك الصلاة أو الحجاب أو معنى الآيات الكريمة “ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك…”، كل هذا حتى لا يزعجوا العلمانية، ونحن بالتالي لسنا أمام الخطاب الإسلامي المنزّل بل هو خطاب مبدّل.

الخطاب الإسلامي الناجح – سواء حملته خطبة مسجدية أو درس أو كتاب أو مقال أو كان موضوع ندوة وملتقى – هو الذي يعطي للآخرة حقها وللدنيا حقها وفق الرؤية الإسلامية الأصيلة التي لم تحرفها السياسة ولا “العلمنة”، خطاب فيه ترهيب، لكن معه ترغيب، يتناول أحوال (ولا أقول أهوال) القبر والقيامة، لكن معها أحوال الدنيا بمشكلاتها وتطوراتها ومنعطفاتها الحالية وليست التاريخية وحدها، خطاب يحثّ المسلمين على الازدياد من الحسنات، لكن ليس بالتديّن الفردي وإنما بالاشتغال بإثبات الذات وتحصيل العلم الغزير والبحث العلمي والاكتشافات المختلفة والاشتغال بالعمل الدعوي والسياسي والنقابي والصناعي والخيري والتواجد في مختلف الأصعدة بأخلاق الإسلام وضوابطه وجماله،خطاب يرغب الشباب في الطاعات ويحذرهم من الانحراف، لكن مع التركيز أيضا على حقهم في الاستمتاع بالحياة الدنيا من ملابس أنيقة وعمل مناسب ومرتّب كبير وسيارة وسياحة ورياضة وترويح عن النفس وغيرها.

نحن في أمسّ الحاجة إلى خطاب يناسب زماننا من حيث حسن العرض والأداء الذكي، فالإسلام بمفهومه الأصيل وبعيدا عن أي تحريف كفاح من أجل الحرية، رفض للاستبداد والظلم، نصرة للمستضعفين، علم غزير، جهاد مدني، أخلاق رفيعة، فهل يعقل أن يفرغ العلماء والدعاة والشيوخ جهدهم في إحياء المناسبات الدينية بكلام مجتر ويتركوا هذه المحاور الحيوية التي تشدّ انتباه الناس وتلامس واقعهم الفكري والشعوري والميداني؟ الكلام عن الحرية والعدل وحقوق الإنسان والكرامة والشورى لا يقلّ اهتماما عن الكلام عن الصلاة والتلاوة وصلة الأرحام والزواج … آن الأوان لنبرز الجانب الإنساني والاجتماعي في ديننا الحنيف ونبيّن المقاصد الشرعية في ذلك، وهذا مبثوث بوضوح في الكتاب والسنة، لا يحتاج إلى ليّ النصوص الشرعية – معاذ الله – أو انتحال خطاب غريب عنها، المشكلة تكمن في قراءة الوحي قراءة تراثية رتيبة باردة بعيدة عن التجديد وحسن التنزيل على الواقع.

الخطاب الديني الجديد الذي ندعو إلى إشاعته ليس تبديلا ولا تحريفا إنما هو قراءة أصيلة للقرآن والسنة على أنقاض قراءة أزمنة التخلف التي ما زالت مسيطرة على أذهاننا، إنه خطاب موجه للإنسان ابتداء، ينقله إلى مراقي القرب من الله وفي نفس الوقت إلى مراقي الجودة والإتقان والاستواء على أمجاد الحياة الدنيا، وفي مقدمتها:

  • كيف نشيع الأمانة بين الناس؟ وليس الاقتصار على ترديد آيات وأحاديث الأمانة.
  • كيف نجعل كل واحد يتحمل مسؤوليته؟ وليس الكلام العام عن المسؤولية.
  • كيف نجعل المسلمين يتراحمون ويسوّقون الخير لبعضهم؟ بسرد نماذج ومشاهد سلبية وإيجابية من حياتنا الحاضرة، وليس الاقتصار على النماذج التاريخية.
  • كيف يجنحون إلى الإحسان في كل شيء؟
  • كيف يقضون أوقات فراغهم؟
  • كيف يواجهون الأحداث بإيجابية وذكاء بدل الاستياء والعويل؟
  • كيف يخرجون من مستنقع البلادة ويكونون في مستوى دينهم وعصرهم؟
  • كيف يتعلم كل واحد أن يقول: “سأحاول” بدل القول المعتاد: “لا أستطيع”؟

الإسلام دين حياة، ومجتمعنا في حاجة إلى الحياة لا إلى مزيد من الموت المعنوي، ومقصدنا ليس مجرد حياة إنما نبتغي الحياة الفاضلة الطيبة الكريمة الراقية، وإقامتها لا تقتصر لا على الروحانية وحدها ولا على المادية بمفردها بل تمرّ عبر الضجر من الثقافة المنقطعة عن السماء وتلك المنقطعة عن الواقع.

يجب أن ينتقل الخطاب الاسلامي إلى محاور التفكير المستقبلي والمبادرة القوية والجرأة وإرادة النجاح، بدل رفع الشعارات البراقة الفارغة مثل “الفرقة الناجية”، فهذه لن تفعل شيئا ما دامت شعارا أصبح عنوانا على البلادة والانسحاب والتقوقع، التفّت حولها تيارات افتقدت البوصلة التي تهدي إلى التفكير الصحيح والفهم الراجح.

ولن يؤتي هذا الخطاب الجديد ثماره إلا إذا أحدث أصحابه تجديدا كبيرا في طريقة عرض الاسلام وأدوات مخاطبة الناس وأسلوب تبليغ الدعوة بحيث تخرج من الفوقية والترديد الآلي للعبارات المحفوظة لتستعمل اللغة الجديدة والأساليب الحديثة التي يلقي إليها الناس السمع، أما الطرق التقليدية فتحتاج إلى جمهور العهد الأموي والعباسي وقلما تلامس شغاف وذهن إنسان القرن الخامس عشر الهجري.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى