أخبارمجتمع

الجريمة والعقاب

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

الإنسان حيوان قاتل
٥ – السن بالسن والرقبة بالرقبة
ومن المفارقات الغريبة والمثيرة للإنتباه في تطور الفكر الإنساني، أن جميع القوانين الأخلاقية والدينية والأعراف المختلفة على مر العصور والأجيال تدين عملية القتل وتعتبرها “شرا” وجريمة في حق الحياة، ومع ذلك فإن كل هذه النظم الأخلاقية والدينية والقوانين الوضعية المعاصرة، ما زالت حتى هذه الساعة “تعاقب” القاتل بالإعدام شنقا أو حرقا بالكهرباء أو بالسم وأحيانا رميا بالرصاص أو بقطع الرأس بالسيف. فلم يجد الذين يمجدون “الخير” ويدافعون عنه وسيلة أخرى لإستأصال “الشر” والإنتصار على قوى الظلام في العالم سوى استعمال نفس السلاح الذي استعمله قابيل أي “القتل”، أي ممارسة ما يحاربونه وما يعتبرونه شرا. “لا تقتل” هي الوصية السادسة من الوصايا العشر التي أتى بها موسى لبني إسرائيل حسب الأسطورة الدينية اليهودية، وفي نفس الوقت أتى بشريعة العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس التي نقلتها الديانات اللاحقة من مسيحية وإسلام. وتتوج قصة صلب المسيح هذه الفكرة الجوهرية التي نجدها في كل الأديان السماوية وهي فكرة “العقاب”، فالمسيح صلب كعقاب للبشرية بأسرها وليشتري بموته خطيئة آدم الذي عصا الله وأكل تلك التفاحة الملعونة. ونجد في القرآن آيات عديدة عن القتل والقتال – ٩٦ – آية، ورغم أن القتل محرم في الإسلام ويعتبر من أكبر الكبائر إلا أن مقولة “ولاتقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق” تجعل الباب مفتوحا على مصراعيه لتأويل كلمة “الحق” ومواصلة القتل تحت غطاء شرعي. وكمثال هذه الآيات التي تحدد بعض الحالات التي يوجب فبها تنفيذ عقوبة الإعدام: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أوردها أحد الإسلاميين الليبيين، الدكتور علي الصلابي، كحل لمشاكل العنف التي يعاني منها المجتمع الليبي بعد تخلصه من الديكتاتورية ودخوله في عهد الحرية والديموقراطية الزاهر: “وهذه العقوبات إنما هي من عقوبات الحدود التي فرضها الله تعالى في كتابه الكريم لمرتكبي الأفعال السابقة وفي الآية إشعار بأن مرتكب هذه الجريمة محارب لله تعالى، لأن الناس في ديارهم وطرق سفرهم إنما هم في أمان الله وحفظه فمن أخافهم وروّعهم فقد حارب الله تعالى وهم محاربون لرسول الله ، ولكل حاكم بعده ( .. ) فقد بيّنت الآية الكريمة أربع عقوبا
١ – القتل حداً لمن قتل وأخذ المال ، ولم يأخذ شيئاً باتفاق العلماء.
٢ – القتل مع الصلب لمن قتل وأخذ المال ، فيقتل ثم يصلب ليتعظ الناس .
٣ القطع من خلاف لمن يأخذ المال ولم يقتل فتقطع يده اليمين ورجله اليسرى .
٤ – من قبض عليه من قطّاع الطرق ممن لم يقتل ولم يسرق ولكنه يخيف المسافرن ، ويزعج الآمنين فعقوبته النفي من البلاد التي قبض عليه فيها إلى بلاد أخرى ويسجن فيها إذا خيف منه. ان ليبيا في اشد الحاجة لتفعيل حد الحرابة على رؤوس الأشهاد ويكون ذلك بالتعاون المتين بين مؤسسات الدولة والمجلس الاعلى للقضاء ودعم شعبي كبير للتضييق على المجرمين وقطاع الطرق والذين نُزعت القيم الإنسانية من نفوسهم “. (نقلا عن صحيفة الوطن الليبية ١٣ أغسطس ٢٠١٣). هذه هي ثقافة السن بالسن والعين بالعين والنفس بالنفس التوراتية والتي يريد البعض تفعيلها اليوم والعودة بهذا المجتمع عدة قرون إلى الوراء، في الوقت الذي تلغى فيه عقوبة الإعدام في البلدان التي تريد التخلص من العنف وإجتثات جذوره العميقة في المجتمعات البشرية.
والتاريخ الإسلامي مليئ بالأمثلة على اللجوء إلى القتل كوسيلة للحوار وكطريقة متبعة وطبيعية لممارسة السياسة. فهذا عمر بن الخطاب بعد أن طعنه أبولؤلؤة بخنجر ورأى رجال الدولة أنه لن يبقى حيا لمدة طويلة، طلبوا منه أن يعين من يخلفه، فاقترح عليهم ستة مرشحين من بينهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وحدد لهم ثلاثة أيام بعد وفاته لإختيار الخليفة ” وأوصى أن تخضع الأقلية للأغلبية لزوما وأوصاهم: ان أتفق خمسة ورفض واحد وأبى الإنصياع للأغلبية فاقتلوه، وكذلك أن أتفق أربعة ورفض إثنان، يقتل الإثنان .. ” العقل السياسي العربي محمد عابد الجابري ص١٤٥”. العديد يعتقد أن القانون، مهما كان مصدره سيحل مشكلة العنف ويمنع عملية القتل. وهي فكرة خاطئة وطفولية وليس لها أي حظ من النجاح كما سنبينه لاحقا، لأن السؤال المطروح: كيف يمكن منع القاتل من تنفيذ الجريمة أو كيف يمكن القضاء على الجريمة، كان سؤالا خاطئا وخارجا عن الموضوع. لأن القانون هدفه الوحيد ونتيجته الوحيدة هي “العقاب”، والعقاب يأتي عادة بعد ارتكاب الجريمة وليس قبله، أي يعالج النتائج وليس الأسباب. فعلى المستوى الدولي مثلا، ألغيت عقوبة الإعدام في جميع الدول الأوربية، بإستثناء روسيا، بينما ما تزال سارية المفعول في كل الدول العربية والإسلامية وكذلك أمريكا والصين وبعض الدول الأفريقية ودول أمريكا الجنوبية. أما إسرائيل فقد ألغت عقوبة الإعدام فيما يخص الجرائم العادية وأبقت على عقوبة الإعدام بخصوص جرائم ضد الإنسانية – لتتمكن من إعدام النازيين الهاربين الذين ساهموا في حرق وقتل آلاف اليهود ـ وجريمة الخيانة العظمى، هذا بالإضافة إلى أنها لا تتردد في إعدام الفلسطينيين وإغتيالهم بدون محاكمة فيما يسمى بالعبرية ” سيكول ميموكاد” أي الإستهداف الوقائي، وهي ترجمة إسرائيلية للقتل المستهدف targeted killings، وهي عمليات إغتيال قانونية يقوم بها الجيش الإسرائيلي بأوامر من الحكومة الإسرائيلية، تحت سمع وبصر العالم الديموقراطي في كل يوم. فإلغاء عقوبة الإعدام في حد ذاته ليس رادعا لممارسة القتل من قبل الحكومات بطرق أخرى. ومن ناحية ثانية وعلى المستوى الفردي نرى أن المجتمعات التي تخلوا قوانينها من عقوبة الإعدام، هي في الغالب مجتمعات تتقلص فيها أرقام جرائم القتل مقارنة بالمجتمعات التي تمارس حتى اليوم عقوبة الإعدام، مثل الولايات المتحدة. بمعنى أن الترهيب بعقوبة الإعدام لا يساهم لا من بعيد ولا من قريب في إختفاء ظاهرة القتل من المجتمع، فالحل إذا لا يكمن في العقوبة مهما كان شكل هذه العقوبة أو درجة قسوتها، وإنما في فهم آلية الفعل ذاته وفي فهم الموقف الذي يؤدي إلى اللجوء إلى القتل، بما في ذلك تنفيد عقوبة الإعدام التي نعتبرها بدورها جريمة قتل متلبسة قناع الشرعية القانونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى