ثقافة

فيلم قمة للمشاهدة

بلا جنريك أو موسيقى تصويرية، انما بصمت يُغرس في الظلمة، وبعض نوتات الكمان الأشبه بنذير شؤم، ندخل في خامس أفلام بول توماس أندرسون بعد لقطة ثابتة لجبال صخرية متلاصقة تذكّر بافتتاحية “2001، أوديسة الفضاء” لكوبريك. المقارنة بين المخرجين الأميركيين لن تنتهي هنا، لتشمل موضوعاً أثيراً لدى كلّ منهما: الطموح الذي ينقض على صاحبه!
ثم هناك المونتاج الذي نجد فيه نفحة تعظيمية كما لو كنّا عند ديفيد ورك غريفيث. الدقّة الإيقاعية التي تتعاقب فيها المَشاهد دقّة ساعاتيّ. واذ بنا نشاهد رجلاً، عديم الأهمية لوهلة، يحفر عمودياً، للوصول إلى ما سنتّفق على تسميته “أسفل الطبيعة البشرية” أو الجوهر الآدمي في بدائيته. وكلما حفر في الأرض، زادت سطوته وانتعشت روحه، وتعزز مكانه في العالم (وفي الفيلم كذلك).
في أول هذه المشاهد الصامتة، لا يبدو دانيال بلاينفيو (دانيال داي لويس) الاّ قروياً. يسقط من أعلى السلالم ثم ينهض مجدداً. لكن جسده الضخم سيظل يتذكّر، كلما مشى في الصحراء أو ركض أو تسلَّق تلّة، ارتدادات الوقوع والنهوض المتكررين، رغم انه هو نفسه سينساها، أو أقله سيتظاهر بذلك.
ثم يأتي النفط. وباكتشافه، تتحول الحفرة التي سيخرج منها الذهب الأسود منبعاً للشر. الأرض تدمّر الأرض، والعقل يدمّر نفسه، وهكذا…
“ستُهرق الدماء” (2007) أكثر أفلام أندرسون بلاغةً، انه أيضاً واحد من أشد الأفلام عنايةً بالشريط الصوتي، حدّ تحويل ضجيج معدّات التنقيب إلى موسيقى تجعلنا معلّقين في الفراغ للحظات طويلة. هذه الملحمة التي يصعب ترتيبها في صنف سينمائي معين، كانت بمنزلة ولادة ثانية لأندرسون. لا شيء يميّزها في الظاهر عن سائر ما أُنجِز في السينما الأميركية منذ جون فورد، الذي يستعير منه أندرسون مشهدين أو ثلاثة. أمّا في العمق، فشيء من الأصالة يلفّها. لغة، نبرة، سيادة لمكونات الصورة على باقي الموارد. إيقاع، صوت يخرج من جبّ الأرض. هناك إحساس بالعظمة يصعب على الفيلم كبته طوال 158 دقيقة. وأيضاً ثمة “مبالغة” مسرحية تراجيدية تنم عن نظرة إلى واقع النجاح في أميركا، يصوّرها أندرسون بجنون وجرأة. وهذا ربما ما جعل البعض يصر على مقارنته بأورسون ولز، رغم انه عملياً، لا شيء يجمع بينهما سوى التأكيد ان الجمال لا يأتي من الجمال والشر لا يأتي بالضرورة من الشر. ليس الفيلم عن الحلم الأميركي بقدر ما هو عن الطموح وعن الدين، وعلاقته بالرأسمالية.
بطل أندرسون يخرج من الأرض، كالمادة التي يعمل على استخراجها. انه وحش صامت يبقى في ملاذه إلى حين لا يبقى له شيء يخرّبه بمعوله. واذا لا نرى وجه هذا الوحش لحظة افتتاحية الفيلم، الا قليلاً، فذلك لأنه لا تتكون له ملامح الاّ عندما يتحوّل طاغية. انه الجشع الذي يُدعى دانيال. له إرادة صلبة تأتيه من الأعماق. وله إيمان في ذاته وقدراته. حتى الألم لا يعوق طريقه إلى المشي في الدروب العائمة فوق النفط. هذا “البهيم” الخارج من ظلمة المناجم، يتحوّل مع الأيام جداراً عازلاً للمشاعر. انه عكس الشخصية “الاسفنجة” التي تمتص كلّ شيء من حولها. ليس من حدث يؤثّر فيه سلباً أو إيجاباً إلا يملك الحلّ له. لا يتكلّم كثيراً عن ماضيه والفيلم لا يزعج نفسه عبر الاتيان بمعلومات تضيء خلفيته، بل يجد متعة معينة في تقديمه لغزاً. تصبح أقل معلومة تأتي على لسانه ثمينة لحلّ سؤال “مَن يكون دانيال بلاينفيو الذي يكنّ الشرّ للجميع ويجهل مشاعر التسامح؟”.
بلاينفيو هذا لا يخرج من الأرض فحسب، إنما من قرن دامٍ ولدت من رحمه الحرب الأهلية الأميركية. انه صلة الوصل بين مرحلتين. بين نهاية زمن اكتشاف الغرب وبدايات الانهيار الاقتصادي. وعندما يبدأ الفيلم مع فجر القرن العشرين، ينبغي ألا ننسى ان بلاينفيو نتاج القرن الذي سبقه. قرن شاهد صراعات دامية لأجل التحرر من العبودية. وليست مسيرة بلاينفيو الا بحثا آخر عن الحرية عبر التسلط والطغيان. تبحثون عن رد فعل؟ تجدونه في هذا الفيلم المقتبس بتصرّف من بعض فصول رواية “نفط!” لأبتون سينكلير. لكن هذه الحرية ستختلف مفاهيمها من قرن إلى آخر، خصوصاً مع نشوء قيم الرأسمالية. والصراع من أجل قيم العدالة والحرية استُبدِل بالصراع من أجل الاستقلالية، لكن… عن الآخرين. أن يملك من المال ما يحتاجه ليشتري “استبعاده” عن الجنس البشري، هذا ما يطمح اليه بلاينفيو. وكلّ حلم هذا الرجل يتجسّد في البقاء بعيداً من “هؤلاء الناس” الذين يحتقرهم. وأقصى ما يرعاه من مشروع هو أن يتسلّى في عتمة الأعماق على بناء سد بينه وبين بيئته التي لا يثق فيها. هكذا يبني جهنمه: بحجرة من دمّ وأخرى من كراهية وحقد ــ كما يعترف لأحدهم. لا شي يرعبه أكثر من فكرة أن يكون الآخر أقوى منه، وأن تخيّم ظلاله على مملكته التي صنعها من دم وفوضى واستغلال.
لكن مخطط بلاينفيو لن ينجو من الخلل. أولاً، عبر ظهور ابن صاحب المزرعة حيث يستخرج نفطه، أي إيلاي صانداي (بول دانو الذي يعرف كيف يجذب اليه الكراهية)، الشخص المتعجرف الذي أخذ رعايا “كنيسته” رهائن عبر أساليبه الكاذبة في تخليص “ضحاياه” من ذنوبهم. بين سلطة بلاينفيو الاقتصادية وسطوة إيلاي الكنسية، صراع على المال والنفوذ والتحكّم والابتزاز، سيتصاعد إلى ان تُهرق الدماء التي يعدنا بها الفيلم منذ عنوانه. ستتساوى السلطتان الدينية والمالية، إلى أن تلغي الواحدة الأخرى، في لعبة قاسية (اللقاء الأخير بين صانداي وبلاينفيو).
هذه الطامة التي تُدعى إيلاي، ستليها واحدة أخرى تتجسّد في الظهور المفاجئ لشخص غريب يدّعي انه أخو بلاينفيو من أم أخرى، ويأتي إلى مملكة الأخير لعله ينعم بثرواته. في لحظة ضعف نادرة، يصدّق بلاينفيو رواية هذا الرجل، لكن سلوكه المتكرّر في أكثر من مناسبة (الأول لا يميل إلى النساء كثيراً، أما “أخوه” فبلى)، وأيضاً نزعته إلى الشكّ في كلّ شيء الاّ بنفسه، يضع الريبة في رأسه اللئيم. ولأن بلاينفيو لا يحبّذ العودة إلى تاريخه، لذا، لن تكون هذه العودة الا لازالة أشباح الماضي من ذاكرته. كلّ هذه الصراعات ستجعل المتخاصمين تنعدم فيهم كلّ القيم ليتحولوا إلى بهائم يخافون بعضهم بعضاً.
المسافة قصيرة بين الأرض والسماء في “ستُهرق الدماء”!
أما الحدث الذي سيغير مجرى الأشياء بالنسبة إلى بلاينفيو، فهو فقدان ابنه وشريكه في الخير والشر إيتش دبليو السمع، اثر حادثة يتعرض لها خلال عملية تنقيب وتسلّق أول شلالات النفط إلى السماء. هذه الحادثة ستشكّل صفعة لبلاينفيو فيضطر من أجلها إلى تقديم تنازلات، لكن ستظل عالقة في وجدان شخص اعتاد شراء كلّ شيء بالمال. ولا يرى بعين إيجابية أن يكون له ابن “غير متكامل الأوصاف” (وهنا اصرار على العلاقة الأبوية التي تعود باستمرار في أعمال أندرسون منذ “ثمانية عصيّة”). تنازل آخر سيضطر ان يقدّمه بلاينفيو، عندما يقبل، على مضض، أن يعمّده إيلاي في “كنيسته”، بطلب من رجل “مؤمن” يريد أن يشتري أراضيه ليمرر فيها أنابيب النفط. في هذا المشهد، حيث يصل القلق النفسي الذي يطبخه أندرسون على نار هادئة، إلى ذروته، ينعطف الفيلم نحو مسار آخر. لا عودة إلى الوراء بعد هذا الانتقام الخبيث من إيلاي على بلاينفيو. يصبح واضحاً ان الدماء ستُهرق!
هذا الصراع بين انتهازيين سيمنح الفيلم بُعداً إنجيلياً. “أنا التجلي الثالث”، سيقول بلاينفيو في الختام. فالطرفان “نبيّان” يعدان جمهورهما بالخلاص: في حين يعد إيلاي أنصار “كنيسته” بالجنّة، هناك فردوس آخر على الأرض ينتظر سكّان القرية بحسب بلاينفيو. يجري الفيلم بأكلمه بين هذين المحورين: الأرض والسماء. وما ينتمي إلى الأول لا ينتمي بالضرورة إلى الثاني. أمر واحد يجمع بينهما: سلطة المال التي تجرّد الأشياء من معانيها وتفرغها من قيمتها. هذا الصراع ينقله أندرسون كما لو كان مخرجاً مسرحياً ووثائقياً في آن واحد. وهنا تكمن عبقريته.
إضافةً إلى كونه مملوءاً بهندسة قضيبية (فاليك)، يحفل الفيلم بديكورات ذكورية وضعها المدير الفنّي الكبير جاك فيسك: هياكل معدنية تذكّر بالعضو التناسلي، عملية التنقيب الأشبه بممارسة الجنس، أنابيب كأنها مجاري بول، والنفط الذي يخرج فجأةً وكأنه عملية قذف… وكلما فقدت الأرض غشاء البكارة، ازدادت عزلة الناس ووحشيتهم في هذا الفيلم الذي يمهّد إلى قرن سيكون نفطياً. “ستُهرق الدماء” من أكثر الأفلام نزوعاً إلى الجنس، مع أنه بالكاد نرى فيه قبلة.
تشكيلياً، يجيد روبرت إيلسويت، كيفية توجيه الضوء إلى حيث يجب، وتعتيم أمكنة أخرى خدمةً لرؤية المخرج، ويبرع خصوصاً في تصوير لهيب النيران في مشهد الحريق الذي ينشب إثر انفجار إحدى آبار النفط. مناخ غير مألوف يُشاع من هذه اللقطة الأبوكاليبتية الطويلة التي توصّل الفيلم إلى ذروة اسلوبية بفضل موسيقى جوني غرينوود التي تحبس الأنفاس.
بعد دوره جزاراً في “عصابات نيويورك” لسكورسيزي، يلبس دانيال داي لويس زياً جديداً “أكبر من الحياة”، كما يقول الأميركيون. شخصية ننتظرها من هنا، فتفاجئنا بمجيئها من هناك. تضعف قيمة الكلمات لوصف أداء هذا الفنّان. شيء يخرج من حنجرته ومن عينيه يجمّد الزمن. ومن طاقاته المتوافرة لديه يستعين بالكثير الكثير، من دون أن يقع في التمثيل على نسق مسرح الدمى. رغم قسوته وابتعاده التدريجي عن الجنس البشري، نبقى متعاطفين مع بلاينفيو أكثر من تعاطفنا مع بديله المخبول إيلاي صانداي. الأول لا يخاف شيئاً، وبذا يطمئننا، أما الثاني فليس الا نسخة مزورة لمبشّر بائس، يخاف من ظلّه. واذا أضفنا الإخراج إلى هذا كله، فنجد أنفسنا في مكان لم تأخذنا اليه السينما الأميركية منذ زمن بعيد.
يعبر “ستُهرق الدماء” زمن النهضة الاقتصادية للولايات المتحدة، وتحوّل كاليفورنيا من شبه صحراء إلى أحد أهم مراكز القوة في العالم. هذا كله يجري تقديمه بأسلوب الاستعارة. نبدأ في العزلة الهادئة لننتهي في أشد أنواع الجنون. ما يصوّره أندرسون هو قصّة عقدة ضائعة في تاريخ أميركا، هذا البلد ــ المنجم الذي جاء اليه كثيرون ليتشاركوا في صناعة الدولة الرأسمالية الكبرى حيث الدين والمال يصنعان سرابات مستمرّة ويهرقان دماء كثيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى