أخبار هبنقة

أكذوبة الزمن الجميل

كاظم فنجان الحمامي

كثرت الأحاديث هذه الأيام عن زمن افتراضي لا وجود له في ذاكرة العراق. يزعمون انه: (الزمن الجميل). أو : (الماضي الجميل). أو (زمن الطيبين). .
أحاديث وتعليقات يكتبها شباب لا تزيد أعمارهم على العشرين. يتغنون من وقت لآخر بأمجاد حقبة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، ويتفاخرون بظروفها التي لم يتعايشوا مع مرارتها، ولم يجربوا قسوتها، ولم يواجهوا مصاعبها القاهرة. .
لقد تنازل العراق في تلك السنوات عن نصف حقوقه السيادية في شط العرب. . وخاض في تلك الأيام سلسلة من الحروب الخاسرة. . وأقدم في تلك الحقبة على تجفيف الأهوار. ثم أقدم على اجتثاث بساتين النخيل من ضفاف شط العرب، والتي كانت بعرض ( 5 ) كم، وعمق ( 100 ) كم. .
كان العراقيون يساقون في الثمانينات كما تساق الاغنام لاداء الخدمة الالزامية، ولأجل غير مسمى، وبمرتب شهري مقداره اربعة دنانير فقط إلا ربع الدينار. أحيانا تكون المدة المقررة للخدمة العسكرية ستة اشهر لكن الخدمة الفعلية تمتد لسنوات وسنوات حتى فقدنا الأمل في النجاة من الموت المحتوم. .
كانت شظايا القصف والغارات الجوية تصب حممها فوق رؤوس الناس. تمزق أجساد الاطفال والشيوخ والنساء. تحولت البصرة وقتذاك إلى مدينة أشباح. حيث الشوارع الفارغة، والاسواق المقفلة، والمدارس المعطلة. تتصاعد في الليل أصوات صفارات الانذار ويتصاعد معها نباح الكلاب السائبة. .
كانت رواتب الموظفين محددة بثلاثة آلاف دينار. بما يعادل ثلاثة دولارات فقط. كانت المفارز الحزبية تستولي على سيارات النقل العام وسيارات الحمل، ثم تأخذها عنوة إلى الجبهة (سخرة). والسخرة: عمل إجباري بغير أجر معلوم وبغير مدة محددة. .
ثم جاءت سنوات الحصار في التسعينيات فغرست مخالب الجوع والحرمان في حياتنا المعيشية الصعبة. كانت الدولة ترغم طلاب الجامعات والاعداديات للمشاركة بالعمل الشعبي المجاني، وكانت دور التعليم خاضعة لتوجيهات الفرق المكلفة باخضاع الطلاب للاعمال اليومية القسرية وبلا رحمة. .
كان منظر مجالس العزاء من المناظر المعتادة في كل رصيف وفي كل زقاق حزنا على ضحايا الحروب والاعدامات الفردية والجماعية. .
يتعذر علينا في تلك الأيام شراء بيضة واحدة من السوق. أذكر ان صديقي (الربان قيس حازم) اشترى لي ذات يوم (كيلو طماطة) من سوق (خمسين خوش). كان ذلك الكيلو هو المُنقذ لاسرتي في أيام الجوع والفاقة. .
ختاماً: لا فرق بين حاضرنا وماضينا، فلكل حقبة منغصاتها وآلامها وأحزانها. حتى مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا. ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها. .
فقد كنا نعيش في كوابيس مظلمة إلى أن غشانا الخوف كما الطوفان، فأصبحنا أكثر حذراً، وأكثر طاعة، وأكثر ضعفاً. وأكثر يأساً. . .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى