فهم العلاقات الدولية و توقعات مستقبلها

محمد عبد الشفيع عيسى

نستعين فى فهم “العلاقات الدولية” بتاريخ العلاقات الدولية ، من الحاضر إلى الماضى ، ومنها إلى المستقبل ، أو العكس : من رؤية معينة للمستقبل إلى فهم معين للماضي ولامتداده الآني ، أي ما نسميه “الحاضر”. فالحق أن رؤية الباحث الفلسفية فى العلم الاجتماعي ، أو “العلوم الاجتماعية” تحدد نظرته الكلية إلى نوع ذلك العلم ، وإلى الواقع الذى تدرسه .

أيا كان الأمر، فالثابت أن من الأحرى أن التاريخ سلسلة متصلة الحلقات، عبر لحظات الزمان ، أو جريان الزمن . هكذا نظرت جمهرة من خبراء العلاقات الدولية إلى العصر الذى شهد سيادة الرومان، لعشرة قرون تقريبا بين السادس والسادس عشر، ومن ثم هيمنة “الإمبراطورية الرومانية” على “منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط” – “خاصرة العالم القديم” أو “العالم الشرقي”، بتعبير أدق. و هكذا وصفت تلك الجمهرة من الخبراء العصر المذكور ، وصفاً رمزياً بأنه عصر “السلام الروماني” وباللغة اللاتينية Pax Romana.

قياساً على ذلك ، أمكن القول إن العصر الحديث إجمالاً ، وخاصة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، هو عصر “السلام البريطاني – الفرنسي” ، حيث أظلّت الإمبراطوريتان المتنافستان فى ذلك الوقت ، العالم كله ، قديمه، و جديده أيضا أي الأمريكتيّن . ذلك مع الأخذ فى الاعتبار، خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر، هيمنة أسبانيا، و إلى حد ما “البرتغال”، على ما سُمّي الشطر اللاتينى من ذلك (العالم الجديد – الأمريكتين) أي”أمريكا الجنوبية”. و كذا محاولة تمددهما في حوض البحر الأبيض المتوسط على شاطئه الجنوبي بمحاذاة المغرب العربي الكبير وقد تم ذلك بالتوازي مع (فتح إفريقيا) انطلاقا من سواحلها الشرقية والغربية بالحاميات العسكرية الصريحة، و (فتح آسيا) –اقتصاديا وكذا عسكريا- بواسطة “شركة الهند الشرقية الهولندية” و “شركة الهند الشرقية البريطانية”، والفرنسية أيضا، و في رحاب المحيط الهندي عقب “اكتشاف رأس الرجاء الصالح” الذي أشّر لأفول قوة “عصر المماليك” في مصر والشام خاصة منذ مطالع القرن السادس عشر، خاصة مُذ قام البرتغاليون بهزم العرب المصريين و “الشوام” بقيادة السلاطين المماليك في المحيط الهندي وعلى ساحل الهند، في موقعة “ديو” البحرية عام 1506. و من قبل عصر سيادة أسبانيا والبرتغال التجارية والحربية-البحرية، كانت هناك، في فجر العصر الحديث، النهضة الإيطالية –الثقافية و التجارية- من خلال (المدن الإيطالية جنوة والبندقة و فلورنسا) وكذلك صقلية. كما كانت هناك هولندا، و امبراطورية (النمسا-المجر).
كل محاولات الهيمنة الأوربية تلك وقعت عقب الخروج من عصر “سيادة العالم الإسلامي” –الأول- حيث الحواضر الزاهرة: مكة والمدينة، دمشق، بغداد، قرطبة الأندلس، قاهرة الفاطميين، برغم التحديات الخارجية القصوى ممثلة خاصة في “التتار –المغول” الذين بلغت ذروة قوتهم بدخول مركز العالم الإسلامي و تدمير عصمته بغداد عام 1258. ونذكر غزوات الأوربيين، الفرنجة، أو من يسميهم مؤرخون كُثر بالصلبيين في غزوات متتابعة لفلسطين و مصر خلال القرون الثلاثة الأولى من الألفية الثانية.
بيْد أن عصر السيادة الإسلامية –الثاني- جاء مرة أخرى، متأخرا زمنيا نعم على كل حال، ولكن كمؤشّر لصعود –ثانٍ- للعالم الإسلامي العتيد عقب فتح الترك العثمانيين عام 1543 لإسطنبول –عاصمة البيزنطيين- و من ثم تحويل القسطنطينية القديمة إلى عاصمة للعالم العثماني الوسيع، الممتد من أوربا الشرقية (حيث دق سلاطنة آل عثمان أبواب فيينا كما يقال على سبيل البلاغة الجارية) و من البلقان إلى تخوم “المغرب الأقصى”.
وعلى العموم، ظل الوجود السياسي ، على الأقل، للعثمانيين، قائما (ُيقضَ مضاجع) الأوربيين-(الغرب)- الداخلين إلى العصر الذي نسميه الآن بالاستعمار القديم لعالم “الشرق”، العالم الآسيوي والإفريقي ، على امتداد ثلاثة قرون و أكثر، حتى أواسط القرن العشرين تقريبا.
أما العالم الذي أسماه الأوربيون المستعمرون بالعالم الجديد، في (الأمريكتين) كما أسموها، حيث الشعوب والأمم التي أسماها الأوربيون أيضا (الهنود الحمر) في شمال وجنوب القارة الأمريكية بالمفهوم الواسع- هذا العالم تعرض بدوره للعنف الاعتباطي الموسع، في أشكال (مبتكرة) حقا. فقد حدثت في الشمال الأمريكي أعمال الإبادة الجماعية و نحوها، من قبل الأوربيين الغازين البيض خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد حدث ذلك جنبا إلى جنب الاختطاف الجماعي للأفارقة من أوطانهم ونقلهم على سطوح “سفن الموت المؤكد” عبر المحيط الأطلنطي و من ثم تحويلهم إلى عبيد في مزارع البيض من الأوربيين اللاتين والأنجلو سكسون، فيما يسمى الآن بأمريكا الشمالية، وتلك (عملية الاستعباد التاريخية) من قبل المستعمرين المستوطنين القتلة، لمن أسموهم بالزنوج أو السود. أما شعوب من أسماهم الغربيون بالهنود الحمر في القارة الأمريكية الجنوبية، أصحاب الحضارات الزاهرة (الدنكا وغيرها) فقد تم –بواسطة الأسبان والبرتغاليين خاصة- نزع سيطرتهم على ملكية الأرض وتهميشهم عرقيا وقوميا، مما بقيت آثاره حية لم تزل حتى الآن.

و على امتداد خمسمائة عام تقرييا ، بقي العثمانيون ممثلين، ولو شكليا و رسميا، إلى حدّ كبير، للعالم الإسلامي العريض. وفي هذا الظل، ولو الشبحي أحيانا، للعثمانيين في الحقب المتأخرة للعصر الحديث، أطلق العالم الأوربي على تركيا في تلك الحقب، وخاصة في القرن التاسع عشر، تعبير (الرجل المريض) الذي أخذ يقضّ مضاجع الأوربيين حتى خرّ صريعا بنهاية “الإمبراطورية العثمانية” في غضون الحرب العالمية الأولى (1914-1919).
على الجانب الآخر، بقيت أوربا لقرون مركز العالم، ومصنعه، انطلاقا من القوة القاهرة الاستعمارية، ومن التفوق الاقتصادي-التكنولوجي المدعوم بحكم صيغة (تقسيم العمل الرأسمالي) المفروض بقوة البندقية على آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية، كمزرعة و منجم : حيث المواد الأوّلية ، الزراعية كالقطن من مصر والهند، والمعادن المعادن الثمينة من إفريقيا جنوب الصحراء و أمريكا الجنوبية.
أما من حيث الشكل السياسي العام، ، فقد ظلت أوربا نفسها، في القرن التاسع عشر وما بعده ، منظومة دولية فريدة بحد ذاتها، حيث تشكلت صورتها، و صورة العالم من بعد، انطلاقاً من مخرجات (مؤتمر فيننّا 1815) المنعقد بزعامة وزير الخارجية النمساوي الداهية (متيرنخ)؛ اتباعا لمباديء (معاهدة وستفاليا لعام 1648) التي أقرت استقلالية الدول الأوروبية القائمة حينئذ، مع الاعتراف المتبادل بحقّها المتساوي في السيادة، بعد انتهاء ما سُمّي (حرب المائة عام)، وإبرام الصلح.
وهكذا فإن العالم الأوروبي، كاختزال للعالم كله فى عصر الاستعمار، شهد ما يمكن تسميته بالعصر الذهبى لــــ “توازن القوى” فى أوروبا Balance of Power حيث وُجدت عدة دول لا تتنازع حقوق السيادة ، وإنما يسلم بها كل منها للآخر، و أهمها بريطانيا وفرنسا. ولكن بريطانيا بالذات كان لها قصب السبق ، باعتراف ضمني ، أو صريح أحياناً ،من الأخريات ، ومن ثم أطلق عليها مؤرخو العلاقات الدولية لقب “الأولى بين المستاوين” First among equals ، أو باللاتينية Primus inter Pares .

غير أنه قد وقع انفجار في عقر دار سلسلة القرن الذهبي للتوازن، وذلك بظهور ألمانيا دولة كبرى موحّدة عام 1870، بعد “الحرب السبعينية” ضد فرنسا، و لتقف على قدم المساواه مع الآخرين، وتنازعهم حق السيادة والنفوذ، بل حق “الهيمنة” فى ظل اتساع قاعدة الاستعمار الأوروبى لسائر العالم. وتمثل ذلك فى نتائج مؤتمر برلين عام 1884 لتقسيم المستعمرات وخاصة فى إفريقيا تحت شعار “التكالب على إفريقيا” Scramble for Africa .

وكان انضمام ألمانيا لنادى الدول الاستعمارية ، سيّد العالم، بالمعنى المجازي، نذيراً بتفجير قاعدة “النظام الدولي – أوروبي التمركز- على وقع حربين عالميتين مدمّرتين (1914-1919) و (1939 – 1945)، وكانت ألمانيا بمثابة “صاعق التفجير” في الحالتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى