تعاليقرأي

ضائع.. بين عنفوان الشّباب وحنكة الشيوخ.

رشيد مصباح (فوزي)

**

لا يعرف قيمة وأهميّة الشّباب إلّـا من فقد بريق ونضارة وحيويّة الشباب. النّعم لا تدرك إلّـا بعد فقدانها. والنّدم لا ينفع بعد العدم. الآن فحسب، وبعدما رقّ جلدي ويبس عودي وهنتُ على غيري، صرتُ أدرك معنى أن يكون الإنسان في عمر الزّهور. كل الفرص كانت متاحة في عمر الزّهور، كل شيء كان حينها ممكنا. حين كنتُ في سنِّ المراهقة كان لديّ مشاعر، لكن لم أكن سمحا؛ كنتُ أعمى، غليظ الرّأس، صعب المِراس، لا أقبل بالنّصيحة ولا أعمل بها. ولم أجد من يأخذ بيدي.

سمعتُ أحد أبنائي ذات مرّة يقول إن الشّيوخ كبار السّنِّ يحسدون الشّباب. طّبيعي جدّا أن يكون هناك من يحسد الشّباب من الذين فقدوا لذّة العيش وطعم الحياة. يحسدونهم على الجمال، على الصحّة والعنفوان، وعلى الفرص المتاحة والمتوفّرة. لا على الطيش والنّزق، كما كنّا، وكما هو حال بعض الشباب المنحل المتميّع، في هذه الأيّام.

التمنّي هو كل ما يستطيعه كبار السّنّ العجائز؛ يتمنّون لو تعود الأيّام. وعجلة الزّمن كعقارب السّاعة لا تعود إلى الوراء. وهل يستطيع هؤلاء الذين يحلمون مقاومة النّزوات والإغراءات، كالتي يتعرّض لها الشّباب في هذه الأيّام؟

من الأشياء المسلّم بها ربما هو أن العقل لا يكتمل إلى بعد الأربعين. لذلك يغتر الشّاب الغضّ اليافع بصحّته وعنفوانه، ولا يحكّم عقْله إلّـا نادرا. وهو الحال بالنسبة إلى شخص مثلي، لم تلقَ على عاتقه مسئوليات حتّى أحكّم عقلي فيها، حين كنتُ شابّا يافعا. لذلك أنشغلتُ كثيرا بالمظهر؛ ولا ضير ولا ظلم في ذلك إلّـا أن يكون على حساب الجوهر. لكنّها ثقافة مجتمع؛ مجتمعنا “الكريم المحترم”. لذلك نحن نتذيّل المراتب: في العلوم والاختراعات، وفي القراءة والإبداع.

ومن الأمور المسلّم بها أيضا، أو حتّى المتعارف عليها ربّما، هو أنه قلّما يلتقي العلم والمال، والعقل والجمال، في رجل واحد؛ فالشّاب اليافع يفتقر إلى الحنكة والتجربة التي لدى الشّيوخ، والشّيخ الهرم ما أحوجه إلى الصحّة والعنفوان الذي لدى الشباب، وطريح الفراش يحسد غيره على نعمة الصحّة، والفقير المحتاج يغبط الثّري صاحب الأموال، وقد يحسد الثّري الأبتر صاحب الأموال الضّخمة الكبيرة الفقير المعوز على نعمتي الصحّة والأولاد… وهذا كلّه من عدل الله وفضله علينا. فليرض الإنسان بما كتب وقدّر الله من نعم على قلّتها وكثرتها، كي يعيش سعيدا مطمئنّا. وليحمد الله، الذي لا يُحمد على مكروه سواه، على كل حال وعلى ما أعطى وأخذ.

ضائعٌ بين أقرانه

الجزء الثّاني

(24)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى