سيدنا رسول الله محمد (ص) رحمة اقتصادية
كلّ تصرفات سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مبنية على عدم إرهاق أصحابه رحمة الله ورضوان الله عليهم جميعا، ومجتمعه، وأمّته. وتجلى ذلك بوضوح في اعتماده صلى الله عليه وسلّم على ماتعارف عليه المجتمع من فكرة، ووسيلة مادية، ونبذه للاستيراد، والمجتمع يومها لم يكتمل بنيانه، والدولة حينها حديثة النشأة. وتجلّت تصرفات سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من خلال المواقف التّالية.
أوّلا: أذان الإنسان مقدّم على استيراد النّاقوس الروماني:
فضّل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أن يكون الأذان بصوت الإنسان، وليس بوسائل مادية تستورد من الهند، أو الروم، أو الفرس كما اقترح بعض أسيادنا الصحابة، رحمة الله ورضوان الله عليهم جميعا.
السؤال: لماذا سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم اعتمد على مابين يديه، وفضّله على غيره من استيراد وسائل مادية، تعتبر متطورة في تلك اللّحظة؟
تكمن الإجابة في كون المجتمع يومها كان حديث النشأة، والدولة في بدايات نموها، ولم يشأ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرهق أصحابه بما لايطيقون، ويكلّف دولته ومجتمعه حديث النشأة مالا يقدرون عليه، وحتّى لايضيف لهم عبء الاستيراد إلى أعباء الفقر، والجوع، وعدم الأمن، والاستقرار، وعدم معرفتهم للتّصنيع. فاكتفى بما يليق بمجتمع حديث النشأة، ألا وهو الاعتماد على قدرات ذاتية، وبسيطة، وغير مكلّفة، وفاعلة، ودائمة، ومضمونة النتائج، وتساهم في أمن وسلامة واستقرار المجتمع، وهي صوت الإنسان عوض استيراد مالا يطيقه الإنسان والبنيان.
ثانيا: زكاة الفطر بما هو سهل متوفر:
لم يفرض سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم -في البداية-، زكاة الفطر نقدا، وفرضها شعيرا أو تمرا، أو حليبا مجفّفا للأسباب التّالية:
لأنّ النقود لم تكن مشهورة، ولا متوفّرة بالقدر الكافي، ولم تكن وسيلة التعامل بين أفراد المجتمع حديث النشأة، ولا متداولة بين البائع والمشتري، ولا في الأسواق، ولا ضمن التبادلات التجارية والسّلع. وكانت المقايضة أساس التبادل داخل المجتمع، وأثناء التجارة الدولية عبر رحلتي الشتاء والصيف.
والنقود المتوفّرة يومها وعلى ندرتها، كانت عملة الدول العظمى يومها، كالروم والفرس. مايعني أنّ دولة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم تكن لها عملة خاصّة بها، تتعامل عبرها في حياتها اليومية.
وفي هذه الحالة، اكتفى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بإخراج زكاة الفطر بما هو متعارف عليه لدى المجتمع، وفي متناول الجميع، وفاعل وغير مرهق،. ولم يشأ سيّدنا رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلّم، أن يرهق المجتمع حديث النشأة، ودولته التي لم تستقرّ بعد، بإخراج زكاة الفطر نقدا وهي لاتملك نقودا، ولا تصكّ النقود، ولا تستخرجها من خزينها، والكمية القليلة والنّادرة جدّا هي نقود مستوردة لدول أجنبية عدوة كالروم والفرس.
إذن عدم فرض زكاة الفطر -بداية- نقدا، هو عدم إرهاق المجتمع الناشئ، والدولة حديثة العهد بالاستيراد، لأنّها لم تكن تصكّ النقود، ولا تتحكّم في كميتها، وتوزيعها، وضبطها، والتحكّم في مسارها.
للتذكير، ليس من غايات المقال، التطرّق لـ: هل تخرج زكاة الفطر نقدا أم شعيرا؟
الخاتم المحلي وليس المستود
حين أراد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مراسلة كسرى الفرس، وهرقل الروم، والنجاشي ملك الحبشة، ومقوقس مصر، وملك البحرين وغيرهم، طلب منه أسيادنا الصحابة أن يتّخذ لنفسه خاتما، لأنّ الملوك لاتقرأ رسالة غير مختومة، فامتثل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لطلب أصحابه، ووضع خاتما في يديه، يختم به رسائله للملوك.
قد يقول قائل: هذه فكرة مستوردة، وأنت قلت أعلاه أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان ضدّ الاستيراد. كيف توفّق بينهما؟
أجيب: سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، رفض استيراد الوسائل التي ترهق المجتمع النّاشئ، وليس في مقدوره إنتاجها، وتسييرها، والتحكّم فيها، كالناقوس بالنسبة للآذان، فإنّ المجتمع حينها لم يكن بمقدوره إنتاجه، لأنّه لم يكن مجتمع صناعي، بالإضافة إلى كونه فقير، وضعيف، ومحتاج للصّغيرة والكبيرة. واستيراد الناقوس في هذه الحالة، ومع الوضع المادي المزري، سيقضي على المجتمع وهو في بدايات نشأته.
والخاتم الإداري الذي يمضي به سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرسائل، والمعاهدات الدولية، وإن كان مستوردا من حيث الفكرة، إلاّ أنّ توفره، والسهولة في صنعه، والحصول عليه لم يكن يهدّد الدولة النّاشئة، ولا يمسّ المجتمع الجديد في أمنه وسلامته.
معلومة إضافية:
ولذلك يعتبر وضع الخاتم في اليد بالنسبة للرجل ليس من السنن، لأنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، طلب منه أن يضع الخاتم في يديه الشريفتين، لأسباب إدارية دولية، فرضها المجتمع الدولي يومها، والمتمثّل في إبرام العهود، والمواثيق الدولية، وختم الرسائل الخارجية عبر الخاتم، ولم يتّخذ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخاتم سنّة، ولا زينة. وليس هذا من مقاصد المقال.
حفر بالأيادي المحلية وليس استيراد آلات
تدعيما لمثال الخاتم، فإنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة الخندق، أخذ برأي سيّدنا سلمان الفارسي، رحمة الله ورضوان الله عليه، في حفر الخندق. والعرب لاتعرف الخندق، ولذلك تفاجأت قريش ومن معها من الحلفاء من العرب واليهود بالخندق.
السؤال: لماذا سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل بفكرة الخندق وجسّدها بنجاح، رغم أنّها مستوردة؟
الإجابة: فعلا، الخندق فكرة مستوردة لاتعرفها العرب، لكن تنفيذها بوسائل محلية، وبسيطة، وفاعلة، ودائمة، ومضمونة، ومحلية، وغير مكلّفة، ولذلك تبناها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
لو كان حفر الخندق يعتمد على وسائل مادية مستوردة، لايطيق صنعها المجتمع يومها، وترهقه، وتكلّفه مالا يقدر عليه، لرفضها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولما قبلها من سيّدنا سلمان الفارسي.
إذن المسألة ليست في استيراد أفكار، يمكن تجسيدها بإمكانات محلية، ذات فاعلية، وغير مكلّفة، وفي مقدور المجتمع أن يسيطر عليها، ويسيّرها. إنّما المسألة تتعلّق بمنع استيراد وسائل مادية، يصعب على المجتمع أن ينتجها، ويتحكّم فيها، ويسيّرها بنفسه، وتكلّفه وقتا وجهدا ومالا في غير فائدة وفوق مايطيق، وتهدّد أمن وسلامة المجتمع. وهذا هو المنهى عنه في بناء الدول والمجتمعات والحضارات، لأنّه يهدّد أمنها واستقرارها وسلامتها.
—
الشلف – الجزائر
معمر حبار