ثقافة

حُكُومَة زَانْ زَانْ .. وْ زِيدْ لْمٍيزَانْ!


ولد دانتي اليغييري في فلورنس حوالي سنة 1265 م، وترعرع فيها، وتعلم اللاتينية والعلوم الاخرى في البيت أو في مدرسة تعود الى إحدى الكنائس أو الآديرة. وكان في شبابه مهتمًا بتوحيد أيطاليا، ودافع بسيفه وقلمه عن البلد الذي ولد فيه.

كان دانتي يميل الى تحديد سلطة البابا وايجاد إمبراطور يوحد الدويلات الايطالية ويقودها نحو العز والافتخار. ولكن المناوئون لآرائه تسلموا السلطة في فلورنس وحكموا عليه في سنة 1302م بالنفي من فلورنس وبالاعدام اذا سولت له نفسه بالرجوع اليها في المستقبل، بالاضافة الى مصادرة جميع أمواله وممتلكاته. وكان للبابا في ذلك الزمن قدسية هائلة، وسلطة مطلقة في الامور الدينية والدنيوية. كل ذلك أثر في نفسية دانتي ولم يكنْ للبابا بونيفاس الثامن إلا الاحتقار والكراهية.

عندما بلغ دانتي الثانية عشرة من عمره، في سنة 1277م، تزوج جيما دوناتي وكان له منها عدة ابناء. وكان هذا الزواج المبكر أمرًا عاديًا في زمانه.

وعندما كان دانتي في السنة التاسعة من عمره رأى بيتريس بورتناري، الفتاة الجميلة في الحارة التي يسكنها، فوقع في حبها ولم يكلمها بعد وكان ذلك حبه الاول والاخير، هو الحب المطلق من أول نظره . وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره أخذ يحييها عن بعد ولم تكن بينهما صلة مهمة ولا معرفة حقيقية. ولكنها، في مخيلة دانتي، بقيت الملاك الذي سيطرعلى لبه وفكره. وكانت الاساس لكل أشعاره حتى بعد زواجها من رجل آخر. ولم يكن حبه لبيتريس بورتناري عذريًا فقط، إنما هو الحب من أجل الحب، لاغيره. وبقيت هذه الفتاة تقوده في حياته، وتوحي له جل أشعاره، حتى بعد وفاتها في سنة 1290م. نعم، كتب عنها ولها أشعارًا كثيرة ولم يكتب حرفًا واحدًا في زوجته أو في أية امرأة أخرى. من الطبيعي أن يحزن دانتي لوفاة بيتريس ولكنه بقي على حبه المطلق لها إلى أن جاءته المنية في سنة 1321م. وهذا الحب النادر يشبه الى حد ما اعتقاد الشعراء العرب القدماء بوجود جني بالذات يفتح لهم قريحتهم ويلهمهم شعرهم.

وكانت القاعدة في ذلك الزمن ان الشاعر أو الكاتب يجب أن يتبع خطوات القدماء في الكتابة والشعر ولا يحيد عن ذلك قيد أنملة. وفي العصور الوسطى كانت “الالياذة” و”الاوديسة” لهوميروس هما ما ينبغي للشعراء أن يحذوا حذوهما. وكانوا يعيبون على الشعراء الذين لم يتعلموا الاغريقية واللاتينية. وقد عاب بن جونسون على شكسبير انه يعرف قليلا من اللاتينية وأقل من ذلك من الاغريقية.

في شبابه، شكل دانتي مع آخرين من اقرانه من الشعراء الشباب الجدد حلقة للشعر الجديد سموها “حلاوة الاساليب الجديدة”. وكان ذلك من طلائع رفض الاساليب القديمة وباكورة البحث عن طرق جديدة في الكتابة لا علاقة لها بالماضي أو على الاقل انحراف عما مضى في الاسلوب، أو المعنى، أو التعبير.

هكذا ابتدأ دانتي في التخطيط لاروع كتاب شعري عرفته اوربا الى يومنا هذا وسماه “الكوميديا الالهية”. ويتبادر الى أذهاننا ما يلي: لماذا سماه ” كوميديا” ولا علاقة واضحة بين ما كتب دانتي والهزل أو التفكه؟ الجواب على ذلك يكاد أن يكون بسيطًا جدًا. فلقد مرت يين الكوميديات التي حررها الكاتب الاغريقي أرستوفونيز و”الكوميديا الالهبة” ما يقرب من سبعة عشر قرن. ولم تعد الكلمة الاغريقية “كوميديا” تعني نفس الشيء باللغة الايطالية. في زمن دانتي أصبحت الكلمة تعني: قصة، أو رواية، أو حكاية، أو سيرة. وهذا بالضبط ما أراد دانتي.

فالكوميديا الالهية، إذن، هي صعود دانتي من جهنم مرورًا بالمطهر حتى الوصول الى الفردوس. ولأن رحلته هذه تتطلب معرفة بالمواقع التي يمر بها وبمن يقطنها استعان دانتي بالشاعر الروماني فيرجل صاحب الملحمة اللاتينية المعروفة باسم “الانيادة” في اختراق “جهنم” واستعان بحبيبته وملاكه بيتريس في عبور “المطهر” والوصول الى “الفردوس”.
ابتدأ دانتي بالتفكير بكتابة كوميدياه في منتصف العمر كما قال في المقدمة وكان الاعتقاد الشائع بين المسيحيين حينئذٍ أن الانسان يعيش عادة سبعين سنة وهذا يعني أن دانتي بدأ في التفكير بالكوميديا الالهية عنما كان عمره خمس وثلاثين سنة، أي انه بدأها في عام 1300 م. وبقي يصقلها ويغير فيها الى أن جا ءته المنية في سنة 1321 م. وهذا يعني أنه قضى في كتابتها حوالي عشرين عامًا.

في هذا الزمن كانت اللغة الطاغية في الشعر هي اللاتينية ولكن دانتي رفض الكتابة باللغة الكنسية. وفضل أن يكتب باللغة الايطالية وهذا هو التحدي الثاني للقيم الادبية المتعارف عليها حين ذلك. وعندما بدأ يكتب كوميدياه كان يعرف جيدًا انه سيغيظ السلطة الحاكمة والسلطةالادبية المتعارف عليها فلذلك قرر أن يحرر كتابًا آ خر سماه بعنوان De vulgari eloquentia أي”جمالية العامية” يعني بذلك اللغة العامية الايطالية المتداولة حينئذٍ. ولم يكن متفرغًا بالكامل لهذا الكتاب وحين توفي كان الكتاب لا يزال ناقصًا. ويمكننا أن نلخص ما كتب دانتي في أربعة نقاط عامة.

أولا، يقول دانتي: لم يتصدَ أحد قبلي الى جمالية العامية فوقع عبء التصدي لها عليَّ لأن الجمالية في النطق ضروري للجميع حتى للنساء والاطفال أيضًا. وسأستعين بالكلمة التي تأتي من فوق لشرح ما أعني وليفهمني أولىك الناس الذين يمشون في الشوارع كأنهم عمي.

ثانيًا، لأن الامر يحتاج الى معاملة فكرية، أقول إن اللغة المتداولة هي تلك التي يستلمها الاطفال الذين يستقون الكلام من أباهئم أو مربياتهم والييئة التي يعيشون فيها من دون الذهاب الى مدرسة.

ثالثًا، هناك لغة أخرى، اسميها أنا “اللغة النحوية” التي يتقنها بعض الرومان والاغريق ولكن لا تعرفها الاكثرية الساحقة من البشرلانها تحتوي على قواعد واصوات لا يمكن الحصول عليها من دون الذهاب الى مراكز تعليمية.

رابعًا، هناك لغتان، والعامية هي الاكثر نبلا، وهي التي استعملتها البشرية والانسان الاول وهي التي يتفاهم بها الناس من دون دراسة أو تعليم.

وهذا هو التمرد الذي فتح الطريق في أوروبا للهجات لا حصر لها أن تنمو ويصبح لها شعر وأدب يمكن قراءته لكل من أراد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى