ثقافة

أسود الرافدين .. تاريخ الاسود في العراق

المركز العربي الألماني
برلين
 
 
 
ضرغام الدباغ
استناداً إلى الكثير جداً من المصادر الدقيقة، أن الأسد كان موجودا في العراق حتى بعد 1920، وقد قرأت في مصادري عن تاريخ العراق القريب، أن الجنود الإنكليز قد شاهدوا الأسد خلال حملة احتلالهم للعراق، وبالتحديد بالقرب من مدينة الناصرية، ويروي سكان منطقة الفرات الأوسط والجنوب، قصصاً وحكايات عن الأسد، ويطلق عليه تسمية ” أبو خميس ” وبنقل عنه أنه الأسد يحترم المرأة ولا يهاجمها. ويحكى أن الأسد شاهد إمرأة تسبح في نهر الفرات فأحترم عريها وغض بصره وأنصرف.
والأسد في عالم الحيوان يعتبر ملك الغابة ” ملك الحيوانات “، وهذا متعارف علية في الأدب العالمي وفي شتى المجتمعات. ومن المؤكد أن هذا لا يحدث دون أسباباً منطقية، متفق عليها. فالأسد في عالم الحيوان له شخصية مهابة بسبب قوته العضلية وليس بسبب شراسته. والأسد يعيش في مجاميع أسرية، ومن المعروف عن الأسد أنه لا يخرج لصيد حيوانات ضعيفة وسهلة، بل يدع الإناث تقوم بهذا العمل، ولكنه ينهض لقتال الحيوانات الشرسة الصعبة، كالجاموس والنمر. والأسد يأكل طعامه من الغنيمة ولا يشاركه أحد، وبعد الفراغ من طعامه ينسحب لتأتي الإناث والأشبال .والأسد لا يصطاد إلا حين يكون جائعاً … ولا يأكل من الجيف. وهو ليس بقاتل أو مغتصب، إذن للأسد أخلاق الفرسان.
قرأت مرة أن البشر لهم طباع الحيوانات التي تعيش في جوارهم أو مألوفة في مجتمعاتهم. والبشر أذكى من الحيوانات قطعاً، لذلك يربى الكلاب لمزاياها في الشجاعة والوفاء، والبشر يحذرون من العقارب ويطلقون عليها بالخبث، فيما البشر يعلمون أن الأفعى لا تتحرش بالبشر إلا إذا لقت منها الأذى ,,.!
إذا كانت أخلاق الحيوانات تشابه مع أخلاقَ الإنسان، مشابهةً وثيقة في بعض الأحيان مع اختلاف قابلياتهما العقلية كثيرًا، فالإنسان، وإن كان يختلف عن الحيوانات اختلافًا عظيمًا في ميدان العقل، يَقْرُب منها في ميدان العاطفة والحياة.
يشاهد المتتبع ويقرأ الكثير في مصادر تاريخ العراق، أو تلك الأخبار التي ترد في مذكرات الشخصيات العراقية والأجنبية، وحتى في صور وتماثيل وجداريات في المتاحف الوطنية أو الأجنبية، ما يفيد أن الأسود كانت منتشرة بصورة كثيفة في العراق من شماله حتى جنوبه. فلدينا تماثيل كثيرة وجداريات تدل على وجود الأسود في شمال العراق في مناطق عاصمة الآشوريين، وكذلك في مناطق وسط العراق والجنوب حتى الناصرية وربما البصرة، في حين لم نسمع بوجود الأسود في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
في عام 1957، كان والدي يشغل منصب مدير شرطة لواء الموصل، وقد صادف أصدقاء للوالد نمراً مرقطاً بالغاً كبير الحجم في الجبال القريبة من منطقة قضاء عقرة. وقام الوالد بتكليف بعض المختصين بتحنيطه وتعبئته بالتبن وربما أقمشة، وأتقنوا صنعه، ثم جيء بنمر آخر صغير الحجم، ولكن لم يحسنوا تحنيطه كالأول فتلف خلال بضعة سنين . ثم أن ضابطاً صديقا لي أخبرني أنه شاهد بنفسه نمراً مرقطاً خلال عمله في منطقة دربندخان / محافظة السليمانية في أعوام السبعينات.
الأمر يكتسب بعض الغرابة حين نلاحظ أن الأسود لم تكن معروفة في البلاد العربية، شبه الجزيرة، وسورية الكبرى، وحتى تركبا. النمور بأنواعها من القط الوحشي إلى الفهد، إلى النمر المرقط كانت متوفرة حتى في شبه الجزيرة العربية وجبال عمان، والعراق وإيران وربما تركيا.
وعدا اللوحات الكثيرة، والجداريات، فهناك الأخبار الموثوقة والمصورة المعاصرة. شاهدت مرة لوحة لأحد ولاة بغداد يصطاد أسداً في ضواحي مدينة بغداد وكانت عاصمة ولاية العراق.
فقد قرأت في مذكرات الضابط والشخصية السياسية العراقية، اللواء الركن إبراهيم الراوي، أنه كان مرة في سفرة من بغداد لأسطنبول حيث الكلية العسكرية التي التحق إليها والمسير بقوافل من بغداد إلى الفلوجة بمحاذاة نهر الفرات عبر سورية إلى تركيا، يقول خرجنا من بغداد صباحاً وقبيل الظهر وصلنا إلى منطقة عكركوف، ويبدو أنها كانت تبعد عن بغداد التي كانت تنتهي في ضاحيتها علاوي الحلة … يقول في عكركوف توقفت القافلة وسمعنا صياحاً وهرجا ومرجاً، ونظرنا فإذا بأسدين من الذكور على درجة كبيرة من ضخامة الجثة يتقاتلان بشراسة .. وتوقفت القافلة وأستعد حراسها ورجالها للموقف، إلا أن القتال بين الأسدين انتهى وواصلت القافلة سيرها إلى سوريا ثم إلى اسطنبول.
ويستمتع زوار متحف برلين بمشاهد النسخة الأصلية لبوابة عشتار الشارع (شارع الموكب) الذي تنتشر على جانبية جداريات الأسود، في متحف بيرغامون (Pergamon) وإلى جانب المنظر المهيب للشارع الموكب والإنجازية الرائعة للجداريات، يتساءل زوار المتحف، كيف حافظت هذه اللوحات على ألوانها وأصباغها بعد ألاف السنين … (5 ـ 6 ألاف سنة). وفي هذه عبقرية أخرى للفنان العراقي.
(الصورة: أحد الولاة العثمانيين يصطاد اسداً بالقرب من بغداد)
(بواية عشتار الأصلية في متحف بيرغامون ببرلين / ألمانيا)
ثمة تمثال مبهر لملك آشوري يربي شبلاً، والتمثال يتصدر مدخل جامعة أمريكيو وأعتقد أنها جامعة شيكاغو … والتمثال رائع ويزخر بالمعاني وما ترمز إليه. والملك الآشوري يمسك بيده اليسرى الأسد، وبيده اليمنى بالكتاب .. وهو دليل نحن نمتلك القوة، ولكن مع الحكمة …! فيا لها من عبرة بليغة.
(الصورة: مدخل جامعة أمريكية: ملك أشوري بيده شبل أسد)
وثمة جدارية أخرى موجودة في متحف لندن، ذات قيمة فنية عالية، تمثل ملكا آشوريا يصطاد الأسد باستخدام السهام، ولاحظ العربة القتالية ودواليبها.
نصل إلى العبرة من هذا العرض، هو أن الأسد لعب دورا في حياة العراقيين، فهم كانوا يصطادونه، ويتشبهون بقوته العضلية، ويتغلبون عليه، وهذا كان مبعث فخرهم
يحكى أن الخليفة العباسي المعتصم (ولد سنة 179 هجري وتوفي بمدينة سامراء في 18 من ربيع الأول سنة 227 هجرية.4 من فبراير سنة 842 ميلادي) وهو أبن الخليفة الرشيد، تولى الخلافة بعد أخوه المأمون، كان شجاعاً قوياً يربي في بستان بيته الأسود، وذات يوم افلت أسد من قفصه، وهاجم الخليفة، فكان له حارس شجاع، وجه ضربة هائلة لرأس الأسد جعلته يخر على الأرض مغشيا عليه .. فما كان من الخليفة إلا وأن قرب هذا الضابط الشجاع.
(الصورة: ملك آشوري يصطاد الأسود، جارية في متحف لندن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى