ثقافة

من فلسفةِ الشعرِ الشعبيّ العراقي

وليد عبدالحسين جبر/ كاتب و حقوقيّ عراقي

يعتقد البعض أن الفلسفة و الفكر والأدب والفن و المعارف العالية مضامين حكرٌ على فصيح الشعر العربي لا المكتوب بلهجات البلدان المختلفة ، وقد اندلعت عبر التاريخ حروب كلامية في هذا الخضم لستُ بصدد التعرض لها ، غير أنني مع الشعر حيثما يكون سواء في منطقة فصيح اللغة أم بلهجتها الدارجة ، فليس كلُّ نظمٍ شعراً ولا كلُّ شعر حقيقي مكتوب بلغة فصيحة والعكس صحيح ، ذائقة الإنسان تميل وتنحاز حيث يكون هناك شعر حقيقي ولو كان مترجماً ، لذا أريدُ أن أشير بعض الإشارات لأبيات من قصيدة كتبت بلغة الشعر الشعبي العراقي للشاعر ” علاء آل ياسين ” و يمكنني تسميته بالفيلسوف مجازاً وهو من مدينة الناصرية العنقاء ، ولست في مقام المبالغة أو مدح الشاعر فأنا أصفه بالفلسفة لأن من يضغط على زر البحث في اليوتيوب و يستمع لقصائده جيدا ، سيفهم قولي و يتفق معي ، وإلاّ ماذا تسمي بداية قصيدته التي أتناولها في هذا المقال :
النظرة المعرفية يقودها الإدراك
رأساً تتجه للمستمر بالنور
النظرة المتحفية للقديم المات تتلاشى يقيناً من يمرّ عاشور

هنا الشاعر بفلسفته العميقة ميّز بين أن تنظر إلى قضية الحسين بن علي عليه السلام نظرة معرفية خالدة ومستمرة على مر العصور وبين أن تنظر إليها نظرة تاريخية بحتة كما يريد البعض و لا تعني الان شيئا سوى آثار قديمة مكانها المتاحف ، منذ بداية القصيدة يبدأ الشاعر وبقوة شاعريته المعهودة ليقول صراحة أننا يجب أن نتعامل وننظر إلى قضية كربلاء نظرة أوسع من أنها معركة آنية حصلت في يوم ما وانقضت ولا تعني لنا شيئا فهي نور مستمر عبر الأجيال .
ليبدأ بذكائه و يزاوج بين الوقائع التي حصلت أثناء معركة كربلاء وبين مدلولها المعرفي والتاريخي فيرى أن قيام العدو بتعطيش الحسين عليه السلام وعائلته وأصحابه لم يؤثر على خلودهم لأنهم أصحاب مبادئ سامية و طلب السلامة والابتعاد عن الحرب ومخاطرها لن يكتب لصاحبه العيش بكرامة أو خلود لذا:
اليعطش على المبدأ للخلود يروح
ماي الذلة سوّه شكثر ناس كبور

فمن تحمل العطش في سبيل مبدأ سامي يخلد ، أما من آثر الماء على حساب كرامته ومبادئه فلا يكون سوى ميت منسي ونقذ نفسه من الحرب .
ثم يكمل بفلسفته مناقشته لأمهات المسائل في قضية إنسانية مهمة مثل قضية معركة كربلاء التي حصلت في بدايات العصر الاسلامي ٦١ هجرية ، ليعود وترتيبا على ما بدأ به قصيدته فأنه يفّرق بين الثورات أيضاً تبعا لمبادئها و أهدافها فليست كل ثورة تكون ثورة ممدوحة وهادفة وخالدة :
ثورات المصالح بالمهد وتموت ثورات المبادئ بالزمان تدور

فالثورة التي تندلع لمصلحة حكم أو حصول على مناصب منذ ولادتها ميتة ولا يمكن أن تكتب لها الحياة ، عكس ثورة المبادئ التي تستمر عبر الأزمنة والأجيال و تدور معهم .
ليصدم القارئ والمستمع بمشكلة كتابة التاريخ وخاصة التاريخ العربي والإسلامي الذي اقرّ أغلب المحققون أن في حوادثه الكثير منها ما هو مكذوب ومنحول وموضوع ، مما جعلنا نسير في قضايا ملغومة و نحتاج دراسات ودراسات لنحصل على الحقيقة :
أقلام الحاشية من تكتب التاريخ
دوّر تلكى كل مخذول بيه منصور

فالشاعر يؤكد وجوب البحث طويلاً في التاريخ لنتعرف على أصحاب المبادئ و ثوراتهم ، فليس كل من لهج التاريخ بمدحه وتمجيده هو الذي انتصر بمبدأه وموقفه ، ربما هناك مغمور ومخذول في التاريخ هو الذي انتهج صحيح الطريق ووقف موقف مشرف .
فثورة المبدأ والمعرفة هي المعنى الحقيقي للثورة التي يجب أن يلتف حولها الثوار والمصلحون لذا فأن الحر الرياحي أحد قادة جيش العدو الذي انشق عنهم والتحق بجيش الحسين عليه السلام :
الحر صار حر من افتهم معناك
من شتّم حزبهم والتحق بالنور
أما قبل أن يلتحق بثورة المبادئ فهو عبد لمصالحه وتعاليم الأحزاب الانتهازية التي لن يكتب لها الخلود حتماً.
ليختتم قصيدته بتناول البعد السياسي لثورة عاشوراء معلناً رأياً واضحاً بأن :
الدستور عالفقرة سياج يصير
إذا لا مو سياج اشطب على الدستور

بالضبط هذا هو هدف الدستور الذي يمثل الشعب إذا لم يكن مانعاً من ظلم الشعوب و حافظاً لحقوقهم ومحققاً لمبادئ المساواة والعدالة بين الناس فما فائدته !
ثم يربط بين ماضي الثورة الحسينية وحاضر أنصارها مستخدماً اللغة الحديثة في تناول الموقف الحسيني :
بمنشورك كلت ابن المدعي مرفوض
أصحابك فقط علقوا عالمنشور

فهنا إيماءة إلى أهمية الفكر والمشاركة بالموقف الفكري فكأن الحسين عليه السلام كتب منشورا عبر صفحته في الفيس بوك رفض فيه أن يتولى زمام الأمور الشخص المتهتك الذي لا يملك الكفاءة والمهنية في الإدارة فأيده أصحابه بالتعليق على هذا المنشور و الاتفاق معه .ليصل شاعرنا الى نتيجة بحثه الفلسفي في القصيدة بعد كل ما تقدم :
هنانه الموقف بكل عنفوان يعيش والدنيا بكبرها تصيحلك مشكور
نعم موقف الحسين عليه السلام عاش طيلة القرون التي مرت وطيلة القرون القادمة و الأحرار الذين تعلموا منه الموقف في جميع الأمم قدموا له الشكر والودّ.
بربكم أليست هذه مقطوعة فلسفية مليئة بالأفكار والآراء العميقة كتبها شاعر عراقي كبير بلغة يمكن أن يفهمها الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية ، نعم إنها كُتبت بلغة الشعب فكانت شعرا شعبيا ، ساهمت في إيصال أعمق الأفكار والقراءات بأسهل لغة و لهذا الشاعر الفيلسوف قصائد فلسفية أخرى سنتعرض لها في مقالات أخرى إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى