أخبار العالمأمن وإستراتيجيةفي الواجهة

تراجيديا السياسات الأميركية .. الاستعداد الدائم للحرب

سعيد مضيه

عدو الولايات المتحدة، مصاص حيويتها، يقبع داخلها
كريس هيجز، أحد أبرز صحفيي التقصي بالولايات المتحدة واكثرهم جذرية . يكشف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقاقية مما يخقيه النهج الرسمي بالولايات المتحدة ؛ يتعمق في النبش ولا يتحفظ في كشف الفضائح فيلقي الأضواء على الانحياز الطبقي لسلطات الحكم. عمل مراسلا في الشرق الأوسط ودول البلقان لصحيفة نيويورك تايمز؛ صرف من الخدمة حين بادر بكتابة تقرير ضد غزو العراق وأقصي عن صحافة التيار الرئيس. يقدم برنامج ” تقرير كريس هيدجز”على منبر محدود الانتشار وله موقع إليكتروني ينشر عليه –شير بوست .نال جائزة بوليتزر للتفوق الصحفي. في هذا التقرير يكشف النقاب عن نهم الصناعات العسكرية -الأمنية بالولايات المتحدة ، استعبدت السياسيين الأميركيين وأخضعت مجمل السياسات وانشطة الكونغرس لمصالحها المناقضة لمصالح الشعب الأميركي والبشرية جمعاء. يستهل تقريره بوصف لبؤس الديمقراطية الأميركية المزعومة، ولعله يستصرخ لنجدتها:
السلطة التنفيذية بالولايات المتحدة شكل حكومي يهيمن عليه العسكر ؛ بدهي يوجد اتفاق بين الحزبين الحاكمين بوجوب التهيؤ الدائم للحرب. مقدسة هي الموازنات الضخمة لآلة الحرب؛ يجري تجاهل تبديد مليارات الدولارات وما يرافق ذلك من خدع ؛ انتكاساتها في جنوب شرقي آسيا ، في الشرق الأوسط ومناطق أخرى ، كلها توارت، إذ افتقدت الذاكرة التاريخية بسبب مرض دماغي .
فقدان الذاكرة هذا ، ويعني غياب تام للمحاسبة ، يصرح لآلة الحرب ان تنزع أحشاء البلاد اقتصاديا ودفع الامبراطورية في اشتباك يهزم الذات مرة بعد أخرى ؛.العسكريون هم الذين يربحون الانتخابات كل مرة ؛ ولا يمكن هزيمتهم؛ من المستحيل التصويت ضدهم؛ دولة الحرب هي “غوترداميرونغ” [بدون إله] كما كتب دوايت ماكدونالد .
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية انفقت الحكومة الفيدرالية أكثر من نصف دولارات الضرائب على العمليات الحربية بالماضي والحاضر والمستقبل.الحرب أضخم نشاط مفرد مستدام للحكومة؛ انظمة الحرب تباع قبل إنتاجها بضمانات تغطية التكاليف الضخمة للتجاوزات.
المساعدة الخارجية مشروطة بشراء الأسلحة الأميركية؛ مصر التي تتلقى قرابة 1.3 مليار دولار مساعدات مالية ، يطلب منها تكريس المبلغ لشراء نظم الأسلحة الأميركية وصيانتها. تلقت إسرائيل منذ العام 1948 مبالغ مجموعها 158 مليار دولار معونات من الولايات المتحدة، كلها تقريبا كانت ابتداءً من عام 1971 تقدم على شكل معونات عسكرية ، معظمها انفقت على شراء الأسلحة من صناع الأسلحة الأميركيين.
ابتكار نظم الأسلحة المطورة، الأبحاث والتطوير والإنتاج، تمولها الخزانة العامة الأميركية، ثم تشتري الخزانة نفس نظم الأسلحة لحساب الحكومات الأجنبية. نظام دائري لرفاه الشركات الكبرى.
ما بين اكتوبر 2021 وسبتمبر 2022 انفقت الولايات المتحدة 877 مليار دولار على التسلح، اي ازيد من عشر دول تليها من حيث الإنفاق الحربي، بمن فيها الصين وفرنسا وروسيا والمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة.
هذا الإنفاق الحربي الضخم ، الى جانب ارتفاع تكاليف نظام الرعاية الصحية الموجهة لكسب الأرباح، قد رفعت الدين الأميركي لما يزيد على 31 تريليون دولار، اي بما يزيد عن الإنتاج المحلي السنوي الأميركي بخمسة تريليونات دولار. [ رفع سقف الدين بعد تسجيل التقرير]اختلال التوازن بالموازنة الأميركية غير قابل للاستمرار، خاصة وأن الدولار مهدد بان لا يكون العملة الاحتياطي في العالم؛ في يناير 2023 انفقت الولايات المتحدة 213 مليار دولار خدمة الدين المترتبة عليها.
استغفال الجمهور
الجمهور ، إذ تسلط عليه قذائف الحرب الإعلامية، يبتهج وهو يضحي بالذات، يثلج صدره الجمال التافه للشجاعة الحربية الأميركية ؛ يتحدث بكليشيهات تسد على التفكير تندقع بكثافة وقوة من ثقافة جمعية وميديا جمعية؛ يتشرب أوهام المنعة ويتمرغ في اعجاب بالذات .
التسمم بالحرب بمثابة وباء؛ يعصف بانفعالية طاغية تسد المنافذ على المنطق والعقل والحقيقة . ما من شعب محصن من طغيان الانفعالية .
أخطر الأخطاء بدرت عن الاشتراكيين الأوروبيين عشية الحرب العالمية الأولى.. ثقتهم ان الطبقة العاملة في فرنسا والمانيا وإيطاليا والامبراطورية النمساوية – الهنغارية وروسيا وبريطانيا عصية على الانقسام الى قبائل متناحرة بسبب الخلافات بين حكوماتها الامبريالية.
سوف لن يضعوا توقيعاتهم على قرارات تمويل مذابح انتحارية لملايين العمال في خنادق الحرب ، واطمانّ قادة الاشتراكيين؛ بدلا من ذلك كل زعيم اشتركي تقريبا خرج من منبر الاشتراكيين المناهض للحرب كي يدعم دخول دولته في الحرب: والأقلية التي رفضت الموافقة على الاشتراك في الحرب ، مثل روزا لوكسمبورغ، وضعوا بالسجون.[ يغفل لينين وحزبه رفض الحرب ووجه السلاح نحو برجوازيته وفجر ثورة اكتوبر .]مجتمع مشوه
ان مجتمعا يهيمن عليه العسكر يشوه مؤسساته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ، إذ يحيلها في خدمة مصالح صناعة الحرب.
جوهر العسكرية مقنّع بالخدع: استخدام العسكر في تنفيذ مهمات إغاثة إنسانية ،إخلاء المدنيين في حالات الخطر، كما نرى في السودان (قبل نشوب الاقتتال)، تعريف العدوان العسكري “تدخلا إنسانيا” أو أسلوبا لحماية الديمقراطية والحرية أو تمويه العسكرية بأداء مهمات مدنية حيوية ، كأن تعلّم المجندين الشباب القيادة ، المسئولية ـ، الأخلاق والمهارات . اما الوجه الحقيقي للعسكرية – مسلخ.- فيتم حجبه .
تقسيم العالم
الشعار الرئيس للدولة المعسكرة هو الأمن القومي؛ وإذا بدأ كل بحث بسؤال الأمن القومي فكل جواب يتضمن القوة او التهديدة بالقوة. ان الانشغال بالتهديدات الداخلية والخارجية يقسم العالم الى أصدقاء وأعداء ، طيبين وشريرين.
المجتمعات المعسكرة أراض خصبة للمهرجين، والعسكريون مثل المهرجين، يرون الدول والثقافات الأخرى بالصورة التي يرتأونها ، تهدد بالمخاطر وعدوانية . وفي الحقيقة لا ينشدون سوى الهيمنة.
لم يكن في مصلحتنا الوطنية شن حرب طوال عقدين متتاليين بالشرق الأوسط ؛ وليس في مصلحتنا الوطنية الاشتباك في حرب مع روسيا او الصين ؛ لكن العسكريين يحتاجون الحرب بنفس استدعاء الهامة للدم.
نموذج البيزنيس الناجح
اثر انهيار الاتحاد السوفييتي مارس غورباتشيف ومن بعده بوتين الضغوط لكي يندمج بالاقتصاد الغربي والتحالفات العسكرية الغربية؛ إن ائتلافا يشمل روسيا من شأنه أن يشطب على الدعوات لتوسيع الناتو- حيث الولايات المتحدة قد وعدت بأن لا توسعه خارج حدود ألمانيا الموحدة – وبذا يغدو من المستحيل إقناع بلدان في وسط وشرقي اوروبا إنفاق البلايين على أسلحة أميركية.
قوبلت محاولات روسيا بالصد، إذ نُصٍّبت هي العدو ، سواء أرادت ذلك ام لم ترد؛ وما من شيء من هذا القبيل جلب الأمن للولايات المتحدة؛ وبتدخل واشنطون في شئون اكرانيا الداخلية ، حيث دعمت الانقلاب على الإدارة المنتخبة عام 2014 فقد سحبت زناد حرب أهلية وغزو روسي لاحق .
غير انه فيما يتعلق بمن يربحون من الحروب واستعداء روسيا ، ومثلها استعداء الصين فالحرب نموذج للبيزنيس الجيد. احتكاران في صناعة الأسحة ، نورثروب غرومان ولوكهيد مارتين وجدا ارتفاعا في أسعارأرصدتهما بالبورصة بنسبة 40 بالمائة و37 بالمائة على التوالي، نتيجة لاندلاع النزاع في أكرانيا.
ماذا ستجلب الحرب مع الصين؟
غدت الحرب مع الصين عملاقا للصناعة، من شانه ان يشيع الخلل بسلسلة التوريد العالمي بنتائج مدمرة باقتصاد الولايات المتحدة والعالم كله؛ تنتج شركة آبل تسعين بالمائة من إنتاجها بالصين، والتجارة الأميركية مع الصين بلغت في العام الماضي مقدار 690.6 مليار دولار.
في العام 2004 كان الإنتاج الوطني بالولايات المتجدة ضعف نظيره الصيني؛ والأن بات حجم الإنتاج القومي بالصين الضعف تقريبا لنظيره بالولايات المتحدة .تنتج الصين حاليا أضخم عدد من السفن والفولاذ والاجهزة الذكية بالعالم .
تهيمن الصين على الإنتاج العالمي بالكيميائيات والمعادن ومعدات الصناعة الثقيلة والإليكترونيات ؛ وهي أضخم مصدّر للمعادن النادرة المستخرجة من الأرض، ولديها أضخم احتياطي، وهي المسئولة عن 80 بالمائة من تكريرها على صعيد العالم.
المعادن النادرة اساسية في صناعة شرائح الكمبيوتر والأجهزة الذكية وشاشات التلفزة والمعدات الطبية وأضواء الفلورسينت والسيارات وتوربينات الريح والقذائف الذكية والطائرات العسكرية المقاتلة واتصالات الأقمار الصناعية.
الحرب مع الصين من شأنها ان تسفر عن شح في تنوع كبير من السلع والموارد الأولية ؛ وبعضها ضروري ضرورة ماسة للصناعات الحربية، تشل البيزنيس بالولايات المتحدة؛ من شان التضخم والبطالة ان ترتفع عاليا، وسيحل في البلاد تقتيرفي توزيع السلع الاستهلاكية . اما بورصة اسهم الشركات ، على الأقل على المدى القصير ، سوف تغلق، وتطلق تداعيات كساد عالمي عظيم.
إذا استطاع الأسطول الأميركي إغلاق نقل النفط الى الصين عبر الممرات البحرية فالنزاع يحتمل ان يتحول نوويا.
في اكتوبر 2022 قدم الجنرال مايك مينيهان، رئيس قيادة حراك الطيران الحربي، “بيان الحركة” للطيران الحربي لمؤتمر عسكري . جاء في االخطبة المسجلة غير المفصلة الناشرة للمخاوف، إذا لم تصعد الولايات المتحدة بصورة درامية استعداداتها للحرب مع الصين فإن أطفال أميركا سوف يجدون انفسهم “خدما مطواعين لنظام قائم على قوانين لا تفيد سوى بلد واحد [الصين]”
نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز تجري وحدات المارينز تدريبات لكل من الهجومات ، حيث يعتقد البنتاغون ان المعارك الأولى مع الصين قد تحدث عبر ” اولى سلاسل الجزر “، وتشمل تايوان حتى مالاييزيا…
وفي “حلف الطلسي لعام 2030: موحدون من أجل حقبة جديدة”، يرى التحالف العسكري المستقبل معركة للهيمنة ضد دول منافسة ، خاصة الصين؛ وهذه دعوة لاعداد “اوكيناوا وتايوان حتى مالاييزيا وكذلك بحر الصين الجنوبي والجزر المختلف عليها في سبراتليز و بارا سيلز”.
ييستنزف العسكريون مخصصات البرامج الاجتماعية والبنى التحتية ؛ يصبون المال في أبحاث وتطوير نظم أسلحة ويهملون تكنولوجيا الطاقة المحدثة، ويتركون الجسور ، الطرق ، الكهرباء والسدود تنهار، والمدرس تتداعى، والصناعة المحلية تتدهور ، والجمهور في حالة فقر شديد.
الأشكال القاسية الفظة للتحكم، حيث العسكريون يختبرون ويكملون خارج الولايات المتحدة تهاجر جهودهم راجعة الى الولايات المتحدة ؛ عسكرة الشرطة ، طائرات مسيرة معسكرة ، مراقبة ، مجمعات سجون شاسعة / تعليق الحريات المدنية الأساس ومراقبة المطبوعات.
اما اولائك من شاكلة جوليان أسانغ، ممن يتحدون السلطوية ويكشفون جرائمها وحماقة الانتحار ، فيضطهدون بلا رحمة ؛ غير ان دولة الحرب تؤوي بدخلها بذور فنائها ، تقرض من الأمة الى ان تنهار.
قبل ان يحين ذلك الزمن سوف تلتهم دولة العسكر كل ما تصادفه مثل سايكلوب فقئت عينه، تسعى لاستعادة قوتها المتلاشية من خلال مذابح بدون تمييز . لا تكمن التراجيديا في كون حالة الحرب بالولايات المتحدة سوف ترتد دمارا على الذات ، التراجيديا انها ستطيح معها بالكثير من الأبرياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى