ثقافة

هل كان راسكولنيكوف مختلا ؟

.. ما يسهل ملاحظته عند الشروع في قراءة ” الجريمة و العقاب ” ، أن دستويفسكي يدخل مباشرة ودون اي مقدمات في التعريف بشخصة البطل و محاولة شرح وضعه العقلي وحالته للنفسية للقارئ ، تحديدا في الفترة التي سبقت إرتكابه لجريمته … وكأن دستويفسكي يحاول بهذا أن يبدد كل فكرة قد تتبلور في ذهن القارئ تقوده بعدها للتشكيك في السلامة العقلية لراسكولنيكوف .. ولا أحد يعرف أفضل من دستويفسكي الى أي حد سيفقد عمله وقصته القيمة الواقعية والفلسفية والفكرية إذا ما تم إثبات الإختلال العقلي على بطله راسكولنيكوف .
_ فراسكولنيكوف حسب دستويفسكي هو الطالب الجامعي الذي يعاني فقرا مدقعا ، تميل شخصيته الى حب العزلة والإنزواء ، شديد الشعور بالتوتر والقلق تجاه التعامل مع الناس ، يعاني من غضب داخلي شديد تجاه وضعه ووضع أمه وأخته المزري ، شخص مثقف وذكي ، جميل إلى حد ما رغم ما يمتاز به من مظهر غريب لافت ، وقد جعلنا أيضا نعرف عن بطله مدى درجة قدرته على التفاعل والتعاطف مع المعانات الإنسانية عن طريق وصف سلوك ومشاعر راسكولنيكوف مع معاناة من حوله ، وأيضا أظهرت لنا شخصية راسكولنيكوف إمتلاكها لضمير حي ومرجع أخلاقي سليم ، كانا السبب الرئيسي لكل ماعاناه راسكولنيكوف من قلق وشكوك وتأنيب للضمير على صحة ما يفكر في القيام به ، وكان لهذا التناقض والصراع النفسي الداخلي السبب الأهم في حالة اللآمبالات التامة التي دخل فيها لدرجة انه أصبح لا يبالي بنفسه ولا يهتم بشؤونه ، فحتى فقره وبؤسه أصبحا لا يثقلان عليه ، فما يثقل عليه الأن ويتعب أعصابه هو ما يفكر ويخطط للقيام به مستقبلا مع تلك العجوز المرابية !
لقد كانت أول التلميحات من الكاتب على سلامة راسكولنيكوف العقلية هي اظهار قدرته على #إستنتاجاتعقليةمنطقية لا تصدر الا عن انسان عاقل ، وقد أظهر راسكولنيكوف هذا في مواضع عديدة من بينها إسنتاجه ان تفصيل بسيط كقبعته اللافتة للنظر تلك يمكن ان يكون له نتائج سيئة مستقبلا تؤدي لكشفه ، وغيرها ..
و من المعروف أيضا أن شعور الانسان ب #الخوف من تبعات شيئ لم يقدم على فعله بعد ، يعتبر ردة فعل استباقية و من اكبر الأدلة على سلامته العقلية ، وهذا ما أظهره حديث راسكولنيكوف مع نفسه ساخرا منها على خوفها من أمر تافه كالإلتقاء بصاحبة المنزل ، رغم خطورة الأمر الذي كان على وشك الإقدام لفعله .

التخطيط المسبق للجريمة هو أيضا من بين أهم ما أظهره دستويفسكي في الوصف ، والذي يدل بدوره على السلامة العقلية لراسكولنيكوف ، لأنه من البديهيات المعروفة عن المختلين عقليا ضعف القدرة على التخطيط المسبق ، وضف القدرة على توقع النتائج الناتجة مستقبلا عن تلك الأفعال التي تم التخطيط للقيام بها ، فغالبا تكون افعالهم تلقائية وغير مبررة وغير مدروسة ولا مفهومة .

التردد و #والهلع ، كانا باديان جدا في المقدمة على شخصية راسكولنيكوف فإذا آعتبرنا أن التردد لا يربط السلامة العقلية فإن الهلع المنطقي المرتبط بمخاوف واقعية ، يحتاج لسلامة العقل وأي خلل عقلي لو كان يتصف به راسكولنيكوف لكان فاقدا لردة فعل الهلع المسبق او ربما كان هناك هلع لكن إرتباطاته تكون خيالية ووهمية من انتاج عقله المجنون

الضميرالحي و #المرجعالأخلاقي كان من بين ما يلاحظ القارئ تميز شخصية راسكولنيكوف به ، فحاول دستويفسكي ان يظهر بكل وضوح أن لهذا القاتل المحتمل ضمير حي ومرجع اخلاقي سليم ، وهذا ما يدل على سلامة راسكولنيكوف العقلية و الأخلاقية .. اذ يقول دستويفسكي عن راسكولنيكوف عند خروجه من بيت العجوز المرابية بعد ان قام بزيارة تجريبية تمهيدا لزيارة اخرى لقتلها : (( خرج راسكولنيكوف وهو فريسة اضطراب عميق ما ينفك يزداد حتى توقف عدة مرات مذهولا أثناء هبوطه السلم فلما صار في الشارع آخر الآمر هتف يقول : آه … رباه ! ما أبشع هذا كله !هل يمكنني ، هل يمكنني حقا أن … لا هذه حماقة ، هذه سخافة ، هل يمكن حقا أن تكون فكرة شيطانية كهذه الفكرة قد ساورت ذهني ؟ ما أقذر إذا ما في قلبي من وحل ! ثم إن هذا كله وسخ جدا ، مقزز جدا ، قذر جدا ! كيف أمكنني خلال شهر كامل أن … ))

التفاعلالعاطفيالسليم وهذا ما اظهره تعاطفه مع الموظف السكير #مارميلادوف ، وبعدها مع وضعيته ووضعية أسرته وخاصة مع إبنته البريئة #صونيا التي إظطرها الفقر والبؤس أن تبيع جسدها لتطعم اخوتها الصغار وعائلتها ، وهذا التفاعل العاطفي السوي لا يتقنه من كان به خلل عقلي او خلل نفسي حاد .

راسكولنيكوف لم يكن مختلا وعقله كان سليما تماما والوصف الصحيح لحالته هو كما قال دستويفسكي في موضع ما ، انه يعاني من #حالةنفسيةخاصة مدفوعا بالغضب العارم تجاه وضعيته ووضعية امه واخته المزري ، وكانت العجوز المرابية تعتبر بالنسبة له اختزالا لكل ما كان يشعر بانه السبب في حالته ، لهذا وضع نفسه تحت سيطرة فكرة قتلها لتخليص المجتمع منها وسرقة كل ما تملك رغم انه ليس لصا ولا قاتلا ولا مختلا !

ألكسندر بتروفتش جوريانتشيكوف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى