قصة الانسان مع الزراعة
الإنسان والزراعة، من طوّر الآخر؟
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
لأزيَد من مائتي ألف عام، عاش البشر (الهومو سابينس) على الصيد وجني الثمار، وبعضهم كان رمّياً، ضمن ظروف بدائية بالغة القسوة. وقبل اثني عشر ألف عام، وبعد أن انتهت عصور الكفاح ضد الجليد والبرد، بدأت تلك المجموعات البشرية تهتدي للزراعة وتدجين بعض الحيوانات الأليفة، وصار ممكناً بل ضرورياً لتلك المجموعات أن تستقر.
فقد اكتشفوا حينها سراً خطيراً سيغيّر مجرى التاريخ وللأبد، سراً في منتهى البساطة: عرفوا حينها أن الثمار تخبئ في جوفها بذوراً، وما عليهم سوى نثر تلك البذور، ثم انتظار المطر، ليحصدوا بعدها خيراً وفيراً. ثم سيكتشفون سراً آخر لا يقل أهمية: أن بإمكانهم تحسين نوعية النباتات التي اعتادوا على زراعتها. في تلك البدايات الواعدة انتقوا نباتات بعينها استساغوا طعمها، ثم تعلموا تهجين تلك الأنواع ليحصلوا على نباتات أفضل، أي بقول آخر: حسّن الإنسان زراعته، فحسنت حياته، وهكذا تطور الإنسان والزراعة بموازاة بعضهما البعض، وأفاد كل طرف الآخر، بل إن الاعتماد بينهما كان متبادلاً وكلياً.
في كتابه “العاقل” يقول نوح هراري: “بدأ التحول إلى الزراعة في المنطقة المحصورة ما بين جنوب تركيا، وغرب إيران، وشرق المتوسط، وشمال الجزيرة العربية، كانت البدايات بطيئة، زُرع القمح ودُجّن الماعز في الألف التاسعة قبل الميلاد، وزرعت البازيلاء والعدس وأنواع أخرى من البقوليات في الألف الثامنة ق.م، أما الزيتون والتين فزُرعا في الألف الخامسة ق.م، والعنب في منتصف الألفية الرابعة ق.م، أما الخيول فدُجّنت في الألف الرابعة ق.م. والجمال في مرحلة متأخرة”.
في تلك الحقبة الزمنية كان عدد سكان الأرض تقريباً عشرة ملايين إنسان، يعيشون حياة المشاع. ولكن هذا المجتمع البدائي سرعان ما تطور، وانتقل من حياة الصيد إلى المجتمعات الزراعية، فبعد انقضاء العصر الجليدي الأخير اكتست الأرض بحلّة خضراء، وظهر حينها نوع من القمح في منطقة أريحا على ضفاف نهر الأردن، وقد عرف سكان تلك المنطقة كيفية حصاده وطحنه قبل أن يعرفوا سر زراعته. وكان هذا إيذاناً بتدشين عصر الثورة الزراعية. وقد وجَد حينها كل من النبات والإنسان ضالته في الآخر، بل إن كلاً منهما اعتقد أنه خُلق لخدمة الآخر، فصار بمقدور الإنسان أن يعدّل ويطوّر من نوعية غذائه عن طريق الزراعة، وصار بمقدور النباتات أن تتكاثر، وأن تنوّع أصنافها وتحسّنها بوساطة الإنسان.
ويقول هراري: إن الثورة الزراعية أثرت على الإنسان بشكل كبير، وأعادت صياغته ثقافياً وبيولوجياً بشكل جديد، وإلى الأبد؛ في مرحلة الصيد والجمع كان الطعام متنوعاً، ويلبي حاجات الجسم (المغذيات الكبرى والصغرى)، وكان الإنسان أكثر حركة ونشاطاً. في مرحلة الزراعة صار الغذاء محدوداً من حيث النوعية، ويفتقر لبعض العناصر الغذائية المهمّة، لكنه أكثر وفرة، بيد أن شبح المجاعات صار أكثر شيوعاً، فإذا تلف المحصول لأي سبب، أو انقطع المطر تحدث مجاعة. كما كان الإنسان الصياد أكثر قدرة على التكيف مع الكوارث الطبيعية، بسبب سهولة تنقله، خلافاً للإنسان المزارع المستقر في منطقة محددة. وبسبب هذا الاستقرار والتجمع عانى المزارعون من الأوبئة والأمراض المعدية، بما فيها الأمراض المنقولة من الحيوانات المدجنة، والأمراض التي تسببها الجراثيم التي وجدت بيئة ممتازة في مياه الري.
لكن هذه النقلة أمّنت لهم في المقابل بعض الأمان والألفة والدفء والراحة مقارنة بمجتمع الصيادين الأكثر قسوة وضراوة. ومن جهة ثانية، فإن أنماط الحياة الزراعية الجديدة (الحراثة، التعشيب، إزالة الحجارة، القطاف)، وهي أعمال تتطلب وضعيات مختلفة وصعبة أرهقت الهيكل العظمي، وتسببت ببعض أمراض المفاصل. تماماً كما سبق وأن أحدث المشي والانتصاب تغييرات في عظام الحوض كان أثرها سلبياً على النساء، حيث تضيّق مجرى الولادة، وبالتالي صارت الولادة أصعب وأشد ألماً، وزادت معها نسبة وفيات الأمهات والرضع، والتغير الأهم كان تقصير فترة الحمل، والولادة المبكرة أي قبل أن يتضخم حجم الرأس أكثر، وهذه كله خلافاً للثدييات الأخرى التي ظلت تمشي على أربع.
وفي تلك الفترة أيضاً، طرأ أهم تغيّر على حياة الإنسان، وهو نشوء الأسرة، فلم يكن بمقدور الفرد مواجهة قسوة البيئة لوحده، لذا احتاج العائلة ثم العشيرة. وقد نشأت الأسرة باعتبارها أفضل حل يلبي حاجات الإنسان، وهي العناية بالأطفال لفترة طويلة نسبياً، والحصول على الطعام، من خلال توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة، وتعاونهما. ولم يكن ممكناً تطور “العائلة” في غياب صفة مميزة للإنسان، وهي تحكمه وسيطرة عقله الواعي على شهوته الجنسية، وعلى أنانيته، ونزعته العدوانية الميالة للعنف.
وحتى ذلك الوقت لم يعرف البشر الملكية الفردية بمعناها الحالي، فكان يسود حياتهم نوع من التضامن والمشاعية البدائية. وبسبب ضآلة الإنتاج وبساطته ومحدوديته، لم يكن هناك استغلال لعمل الآخرين وجهدهم؛ لأن العمل كان كله موجهاً نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة. إلى أن حدثت النقلة التالية بنشوء المجتمعات والنظام الطبقي، والتي أفضت إلى نشوء نظام الرق، ثم الإقطاع، وهكذا.
إذاً، كانت الزراعة سبباً لاستقرار الإنسان، ومن ثم سبباً لتنازع المُلكية ونشوء مناطق النفوذ، لكن الزراعة واستئناس الحيوانات سيتطلبان بالضرورة ابتكار بعض الأدوات كالمعول والمنجل والسرج، أي بعبارة أخرى، ستقود الثورة الزراعية إلى أولى الخطوات البدائية نحو الثورة الصناعية.
وفي الجهة المقابلة، إذا كانت النباتات تتطور ذاتياً ضمن آليات التكيف والانتخاب الطبيعي والطفرات الجينية، فإن الإنسان سرّع من آليات التطور، من خلال العناية بمزروعاته أولاً (سقاية وحراثة وتسميد) وعبر تقنيات الانتقاء والتهجين والتطعيم، وصولاً إلى الهندسة الوراثية، والأغذية المعدلة جينياً.
قديماً، كانت لكل منطقة أشجارها ومحاصيلها الحقلية الخاصة، وكانت تلك المناطق معزولة ومتباعدة. ومع تطور وسائل النقل والمواصلات، وانفتاح الشعوب على بعضها، بدأت تلك الأشجار والمحاصيل تغادر أوطانها، وتنتشر في ربوع المعمورة، وأخذ النوع الواحد يولد مئات الأصناف، وبأحسن المواصفات، واستبعاد الأصناف الأقل جودة. ومع تطور العلوم الزراعية بشتى حقولها، لم تعد الزراعة لتوفير الغذاء الأساسي فحسب، بل صارت فناً، وصناعة، واقتصاداً كاملاً. وصار إنتاج الورود مثلاً (التي لم يحفل بها الإنسان قديماً) من أهم دعائم الاقتصاد للكثير من الدول، بل إن الورود باتت من ركائز العلاقات العاطفية، وأجمل هدية تقدمها للحبيب/ة.