أحوال عربية

في سبعينية ثورة 23 تموز يوليو التي غيرت وجه مصر والعالم العربي

محمد النوباني


تحل اليوم الذكرى السبعين لانتصار ثورة ٢٣ تموز يوليو ١٩٥٢ الخالدة التي فجرها ضباط مصر الاحرار بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي استطاع خلال ثمانية عشرة عاما من حكمه إستكمال تحرير مصر من الاستعمار البريطاني والقيام بتحولات اقتصادية واجتماعية عميقة لمصلحة فقراء وكادحي ارض الكنانة، وتحويل مصر من دولة هامشية الى دولة ومؤثرة في السياسات الإقليمية والدولية.
لقد كانت ثورة جمال عبد الناصر ثورة وطنية على نظام الملك فاروق الذي ساهم مع غيره من الحكام العرب في صنع النكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨ و ثورة اجتماعية بامتياز لانها صفت بقايا الاقطاع ووزعت الاراضي على الفلاحين وبنت الاف المصانع، واممت قناة السويس،
ووفرت التعليم والعلاج المجاني لابناء الفقراء، وحررت الاقتصاد المصري من التبعية للاجنبي .
وعلى نفس المستوى فقد كانت ثورة ٢٣ تموز يوليو ثورة ذو بعد قومي لان قائدها الذي شارك في حرب 1948 وحوصر في مدينة الفالوجة الفلسطينية استطاع ان يدرك منذ البداية انه بدون استكمال تحرير مصر من الاحتلال البريطاني ومحاربة المشروع الصهيوني في فلسطين ، ودعم الشعوب العربية في نضالها من اجل التحرر من الاستعمار، لا يمكن لثورة مصر ان توطد انتصارها وهذا ما كان.
وعندما نتحدث اليوم عن ثورة 23 يوليو وانجازاتها العظيمة في ذكراها السبعين لا بد أن نشير إلى حقيقة مهمة وهي أن الذين تعاقبوا على حكم مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر في ٢٨ ايلول عام ١٩٧٠ وفي مقدمتهم الهالك انور السادات ثم حسني مبارك وعبد الفتاح السي هم الذين دمروا تباعاً إنجازات ثورة ٢٣ تموز يوليو في مصر واعادوها إلى دولة عالمثالثية ضعيفة بعد أن تركها عبد الناصر عام ١٩٧٠ بمستوى كوريا الجنوبية كان يرد اليها الخبراء من الدول النامية لدراسة تجربتها النهضوية وتعميمها على بلدانهم.
ولذلك فإن حديثنا اليوم عن ثورة ٢٣ تموز في ذكراها السبعين ليس ترفاً فكريا بقدر ما هو ضرورة ماسة، لأن نفس القوى التي تآمرت على عبد الناصر , على المستوى المحلي المصري وعلى المستويين الاقليمي والدولي واجهضت تجربته النهضوية لا زالت هي ذاتها التي تتآمر على قضية فلسطين وسورياواليمن والعراق وكافة اقطار العرب وتعرقل نضال الشعوب العربية من اجل استكمال تحررها من السيطرة الاستعمارية وبناء الغد المشرق .
ولكي نتحدث بالملموس فان ثورة 23 يوليو ، وبصرف النظر عن بعض الاخطاء التي وقعت فيها ، الا انها دخلت التاريخ كأول محاولة نهضوية عربية للحقاق بركب العصر على قاعدة التمرد على قانون احتجاز التطور الامبريالي وانجاز مشروع الوحدة العربية.
فبفعل وضوح المنهج والرؤية للقائد جمال عبد الناصر فقد تم في عهده بناء القاعدة المادية التكنيكية للدولة المصرية الحديثة والتي تمثلت في بناء المصانع وتدشين السد العالي ، الذي حمى مصر من خطر الفيضان ووفر المياه الضرورية للزراعة والطاقة الكهربائية ، واسس مع تيتو ونهرو وغاندي وسكارنو مجموعة دول حركة عدم الانحياز عام ١٩٥٥،وتمكن في عام ١٩٥٨من توحيد مصر وسوريا في اطار الجمهورية العربية المتحدة والتي انهارت في عام 1961 بفعل التآمر عليها من قبل القوى الرجعية في داخل سوريا ومن الانظمة العربية الرجعية بقيادة السعودية مدعومة بقوى الاستعمار والصهيونية من الخارج .
وسيسجل التاريخ باحرف من نور ان جمال عبد الناصر لعب دورا اساسيا وحاسما في دعم الثورة الجزائرية التي لولا تضحيات شعبها العظيم اولا و دعمه لها ثانيا لما إنتصرت على فرنسا الظالمة كما قال الرئيس الجزائري الراحل هواري ابو مدين رحمه الله.
كما دعم الثورة اليمنية التي تآمرت عليه وعليها السعودية , مما اضطره الى ارسال قوات مصرية كبيرة لنصرة الشعب اليمني ، وقعت في شرك حرب عصابات ارهقت الجيش المصري واوقعت به خسائر مادية وبشرية فادحة،وكانت من ضمن احد اهم الاسباب التي ادت الى تسهيل مهمة إسرائيل في ضرب الجيش المصري في حرب الخامس من حزيران عام ١٩٦٧.
كما يجب ان لا ننسى ايضا ان عبد الناصر قد ساهم في ابراز الهوية الفلسطينية في قطاع غزة الذي كان تحت الادارة المصرية منذ نكبة ١٩٤٨ اثناء فترة حكمه ، ووفر للطلبة الفلسطينيين امكانية التحصيل العلمي المجاني في الجامعات المصرية اسوة بالطلبة المصريين .
وهو ايضا الذي لعب الدور المحوري في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في اعقاب مؤتمر القمة العربي الذي عقد في القاهرة عام ١٩٤٨ والتي اصبحت فيما بعد ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني قبل أن تدخل نفق آوسلو المظلم. وكان لعبدالناصر دورا بارزا ايضا في دعم الثورة الفلسطينية المعاصرة وتحديدا بعد حرب حزيران ١٩٦٧، حيث زودها بالمال والسلاح وعمل على توطيد علاقاتها مع قوى الثورة العالمية آنذاك حيث اصطحب الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات في احدى زياراته الى الاتحاد السوفييتي السابق مما اسس لعلاقات فلسطينية سوفياتية كان لها تأثير كبير في مسيرة الكفاح الفلسطيني لاحقاً.
كما سيسجل التاريخ لعبد الناصر انه وفور نكسة العام ١٩٦٧ خاض حرب الاستنزاف التي دامت لمدة ثلاث سنوات ضد إسرائيل.
وقد اوقعت تلك الحرب الذي جمع الجيش المصري فيها بين اسلوب الجيوش النظامية وأسلوب حرب العصابات خسائر بشرية ومادية كبيرة بالجيش الاسرائيلي.
ومن الحقائق التاريخية المعروفة ايضا ان عبد الناصر هو الذي اعد الجيش المصري لحرب الثأر التي وقعت في السادس من اكتوبر عام ١٩٧٣ حيث وافق عام ١٩٧٠ على مبادرة وزير الخارجية الاسبق وليم روجرز لوقف حرب الاستنزاف على ضفتي قناة السويس ليس من قبيل المراهنة على تسوية الصراع مع اسرائيل سلماً أو لانه اراد التخلي عن القضية الفلسطينية كما اعتقدت بعض المنظمات الفلسطينية اليسارية المسلحة آنذاك وانما لاستكمال بناء حائط صواريخ نظام سام السوفييتي المضاد للطائرات وإستكمال بقية الاستعدادات اللوجستية اللازمة للإنتصار في معركة الثأر التي كان يعد لها العدة ضد إسرائيل في مدة أقصاها عام١٩٧١ ، لولا انه فارق الحياة في ٢٨ ايلول ١٩٧٠ , مما ادى الى خوض تلك الحرب تحت قيادة انور السادات التي حولها الى حرب تحريكية واجهض نتائجها بثغرة “الدفرسوار” وحولها من نصر مؤزر الى هزيمة ابتداء من إتفاق الخيمة رقم ١٠١ مروراً باتفاقية فصل القوات وسلسلة التنازلات الميدانية والسياسة المجانية التي قدمها لعزيزه كيسنجر وصولاً الى اتفاقات كامب ديفيد عام ١٩٧٨ التي اخرجت مصر من الصراع العربي الاسرائيلي.
ولعل من اهم ما يجب تذكره لكي تستفيد منه الاجيال العربية الحالية والقادمة ان قائد ثورة ٢٣ تموز يوليو جمال عبد الناصر لم يرضخ يوما للاجنبي وهو الذي قال بعد بعد انتصار الثورة “ارفع راسك يا اخي فقد مضى عصر العبودية والاستعمار وانطلق ركب الحرية والاحرار ليرفع راية الكرامة ويعلي من شان السيادة والعزة ”.
لقد رفض عبد الناصر عام ١٩٥٦ الانذار الفرنسي – البريطاني واصر على تاميم قناة السويس , شركة مساهمة مصرية ، وجابه في تشرين اول “اكتوبر ” من ذلك العام قوى العدوان بقوة وصلابة ، رغم اختلال موازين القوى ، وخرج من تلك المعركة منتصرا ومعبودا للجماهير العربية من المحيط الى الخليج.
ورغم الهزيمة القاسية التي لحقت بالقوات المسلحة المصرية وبالجيشين العربيين السوري والاردني في حرب الخامس من حزيران عام ١٩٦٧ على يد القوات الاسرائيلية , بدعم امريكي مباشر , الا انه ابى التنازل او الاستسلام , ورفض اكثر من عرض اسرائيلي , لاسترجاع كل الاراضي المصرية المحتلة دون قيد او شرط مقابل التنازل عن الحق العربي في فلسطين على عكس ما فعل السادات الذي وافق على استعادة سيناء من خلال اتفاقية كامب ديفيد وهي منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح ومحظور على الجيش المصري الدخول اليها الا بقوات رمزية وباسلحة خفيفة مما ادى الى سيطرة شبه كاملة للمجموعات الارهابية المسلحة عليها والحاق خسائر بشرية ومادية كبيرة بالجيش المصري الذي لا يستطيع اليوم استخدام السلاح الثقيل بما في ذلك الطيران الا في اضيق نطاق خوفا من اسرائيل.
ومن الضرورة بمكان ايضا الاشارة الى ان عبد الناصر كان مثالا للحاكم الذي لم ينهب اموال شعبه ولم يبددها على الملفات والليالي الحمراء وبناء القصور كما يفعل بعض الحكام العرب اليوم.
ومن الامثلة الدالة على زهد وطهارة ونظافة يد هذا الزعيم الخالد انه رفض العيش في القصر وبقي يقطن في بيته المتواضع في حي منشية البكري إلى ان إنتقل إلى الرفيق الأعلى، ورغم أن خزائن مصر كانت تحت تصرفه إلا انه اضطر لاستلاف عشرة الاف جنيه مصري من البنك لاتمام مراسم عرس ابنته، بنفس الضمانات والشروط التي تطلب من اي مواطن مصري عادي وسددها بعد ذلك من راتبه السخصي.
ويكفي عبد الناصر فخرا انه لم يترك لزوجته وابنائه بعد وفاته سوى بضع عشرات من الجنيهات وراتب تقاعدي متواضع فيما لم يجعل من زوجته الفاضلة السيدة تحية رحمها الله ، سيدة مصر الاولى كما فعل من خلفوه بالحكم.
واخيرا وليس آخرا فان التاريخ سوف يسجل لعبد الناصر بانه الزعيم العربي الوحيد الذي تحمل بجراة وشجاعة المسؤولية الكاملة عن هزيمة حزيران ١٩٦٧ واعلن عن استقالته من منصبه لولا ان جماهير الشعب المصري المليونية خرجت الى الشوارع يومي يومي ٩و١٠ يونيو١٩٦٧ اعادته الى موقع المسؤولية رغما عنه.
لقد عاش عبد الناصر بسيطا كالحقيقة وامضى حياته مناضلا مدافعا عن حقوق الامة , ومارس السياسة انطلاقا من صلابة مبدئية لم تعرف الحدود , ولم يرضخ يوما للاجنبي بذريعة موازين القوى غير المتكافئة كما فعل ويفعل الكثير من المسؤولين العرب اليوم ، بل خاض معارك كبرى واسقط الاحلاف الاستعمارية مثل حلف بغداد والحلف الاسلامي في ظل موازين قوى مختلة لصالح الاعداء لانه كان على قناعة بان الموت هو افضل مليون مرة من الاستسلام والخضوع للارادة الاجنبية وبان الزعماء الذين يخلدهم التاريخ هم اولئك الذين يعبرون عن نبض شعوبهم ويحملون الامانة ويصونونها بشرف ولا ينحنون لغير الله مهما بلغت قوة وجبروت الخصم .
لقد دمر حكام مصر ابتداءا من السادات ومرورا بحسني مبارك ووصولا إلى السيسي انجازات عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية واوصلوا مصر الى مستوى دولة افريقية فقيرة جدا مثل ” بوركينو فاسو”، بعد ان كانت في عهده أكثر تطورا من الهند وبحكم إقتصاد يضاهي إقتصاد كوريا الجنوبية ، تستجدي وتتوسل المساعدات من الخارج وتبيع جزرها مثل تيران وصنافير والوراق للسعودية لكي يصبح للاخيرة حدودا مع إسرائيل، من اجل تدفئة جيوب حكامها بعيدا عن كل القيم والمبادىء التي عاش واستشهد من اجلها جمال عبد الناصر .
ولكننا على ثقة بإن شعب مصر العظيم المحفورة انجازات هذا الزعيم الخالد في ضميره ووجدانه لن يرضى في النهاية بهذه المهزلة التي حولت مصر الى دولة هامشية في الوطن العربي والعالم بعد ان كانت زعيمة العالم العربي بلا منازع وسيصحح هذه الأوضاع الاستثنائية العابرة.
اما نحن الفلسطينيين الذين تاتي علينا الذكرى السعين لانتصار ثورة ٢٣ يوليو ، الخالدة ونحن نواجه الهجمة الاسرائيلية على الوجود الفلسطيني وعلى المقدسات الإسلامية والمسيحية فان ذكرى هذه الثورة ستبقى نبراسا لنا من اجل تصحيح البوصلة واعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للشعوب العربية كما اوصى قائدها الخالد جمال عبد الناصر.
ولن ننسى بان عبد الناصر كان على يقين بان الشعب الفلسطيني سيكون في طليعة شعوب الامة العربية من اجل تحقيق طموحاتها حيث قال وكانه يقرا صفحة المستقبل “إن مصر تعتقد ان الشعب الفلسطيني هو العصب الحساس في النضال العربي المعاصر كله وبان المقاومة الفلسطينية هي تجسيد حي لوجود هذا الشعب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى