عام التراجع الاقتصادي والنزاعات الكبرى
بقلم: غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
كان العام ٢٠٢٢ مليئاً بالمفاجآت والتناقضات والنهايات غير المكتملة وخيبات الامل
والانتكاسات. لقد كان ٢٠٢٢، قبل كل شيء، عام النزاعات الكبرى التي ايقظت مشاعر القلق
والتوتر والمخاوف المجهولة المتمددة على جغرافية العالم بأكمله، بكل دوله ومجتمعاته
وشعوبه.
جاءنا العام ٢.٢٢، محمّلاً بموروث مثقل بالفيروسات، وعلى رأسها كورونا الذي حدّد في
فترات متقطعة خلال الاعوام الماضية، اقامة كل البشرية داخل البيوت، وأخلى المصانع
والشوارع والمؤسسات من الحياة وعطّل عجلة الانتاج وحوّل الانسان إلى كائن يستهلك ولا
ينتج، مهدّد في حياته، خائف على مستقبله. وتوهمنا ان ٢٠٢٢ هو عام الخلاص، وفوجئنا
بأنفسنا عاجزين عن الخلاص الكامل منها وقد بدأت تزورنا بشكل موسمي.
شکلت جائحة کورونا اكبر انتكاسة لجهود الحد من الفقر في العالم منذ عقود، وكان التعافي
متفاوتاً الى حد كبير. وبنهاية العام 2022، يمكن ان يعيش ما يصل إلى ٦٨٥ مليون شخص
في فقر مدقع، مما يجعله، بعد العام 2020، ثاني اسوأ عام على مستوى جهود الحد من الفقر
في العقدين الماضيين، ومن المتوقع ان 7% من سكان العالم، اي نحو ٥٧٤ مليون نسمة،
سيظلون يعانون من الفقر المدقع حتى العام ٢٠٣٠، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
شهد العام الماضي اشتداد أزمة الديون التي تواجهها البلدان النامية، حيث ارتفعت مستويات
الديون العامة للبلدان النامية على مدى العقد الماضي، اذ أن 60% من اشد بلدان العالم فقراً،
اما انها في حالة مديونية حرجة او معرّضة لمخاطر ذلك، وهي لا تستطيع القيام باستثمارات
حساسة في مجالات الاصلاح الاقتصادي او الصحة أو العمل المناخي او التعليم في اطار
اولويات التنمية الرئيسية الاخرى، وقد وصلت الديون الى اكثر من 9 تريليونات دولار
أميركي.
ومن الصعوبات الاضافية التي تواجهها اكثر البلدان فقراً، إنها تنفق الآن اكثر من 10% من
دخلها السنوي من الصادرات لسداد ديونها، وهو أعلى مستوى منذ بداية الالفية الثالثة. كما
تغيرت تركيبة دائني البلدان النامية بشكل كبير، اذ بعدما كانت الديون حتى فترة قصيرة
وبشكل كبير، بأيدي الدول الاعضاء في نادي باريس، باتت الآن، بشكل رئيسي بأيدي القطاع
الخاص بنسبة ٦١ في المئة; كما شهدت الكثير من الدول غير الاعضاء في نادي باريس،
وعلى رأسها الصين والهند وبعض دول الخليج، زيادة في حصتها، بحيث باتت الصين وحدها
تمثل في بعض الاحيان نصف القروض من دولة الى اخرى. ومن المعروف ان تعدد الجهات
يؤدي الى زيادة تكاليف الاقتراض للبلدان المعنية ويزيد من صعوبات اعادة هيكلة ديونها قبل
ان تخرج عن السيطرة، كما كان الحال مؤخراً في سريلنكا مع عواقب وخيمة في كثير من
الأحيان على الدول المعنية.
ازمة الديون تزامنت مع تقديرات تشير الى ان اقتصاد العالم يواجه اسوأ عام له منذ ثلاثة
عقود بسبب استمرار صدمات اسعار الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية- الاوكرانية، حيث
تشير التوقعات الى نمو عالمي لا يتعدى الـ٣,٢ في المئة العام 2022 مع تراجع الى نحو
2.4 في المئة العام 2023، ليكون بذلك اقل معدل نمو منذ ۱۹۹۳، باستثناء عام ٢٠٠٩ الذي
شهد ذروة الازمة المالية العالمية.
في الوقت نفسه، من المحتمل ان يخفي الرقم المتوقع لنمو الاقتصاد العالمي خلال العام
الجاري تباينات كبيرة بين مختلف مناطق العالم، حيث من المتوقع دخول اقتصاد منطقة اليورو
مرحلة الركود، في حين سيكون الاقتصاد الاميركي انهى العام 2022 في حالة ركود أيضاً.
في المقابل من المتوقع نمو الاقتصاد الصيني، ثاني اكبر اقتصاد في العالم، باكثر من 5 في
المئة من اجمالي الناتج المحلي، بفضل انهاء سياسة صفر اصابات بفیروس کورونا المستجد
باسرع من المتوقع ودعم القطاع العقاري الصيني الذي يعاني ازمة قاسية جداً.
الاختلافات ستظهر أيضاً عندما يتعلق الامر بالسياسة النقدية بعد عام شهد اندفاع البنوك
المركزية نحو تشديد السياسة النقدية لاحتواء التضخم الذي وصل لمستويات قياسية في العديد
من المناطق والدول، ففي الولايات المتحدة الاميركية توقعات باستمرار ارتفاع الفائدة الى 5
في المئة والابقاء عليها حتى نهاية العام. وفي منطقة اليورو يعني التراجع السريع لمعدل
التضخم خفضاً لسعر الفائدة نهاية العام .
عندما نتحدث عن النزاعات الكبرى، فان الانظار تتجه مباشرة إلى الحرب الروسية-
الأوكرانية التي انطلقت كنزاع اقليمي بين دولتين، لكنها توسعت كثيراً وباتت تنفتح اكثر فأكثر
على احتمالات تحولها الى حرب نووية مدمرة. لقد فاقم استمرار الحرب في اوكرانيا من حدة
الازمات القائمة اصلاً في مجالات الطاقة والغذاء، وعززت المخاوف من وقوع شعوب
باكملها ضحية للجوع ونقص الغذاء.
لقد اصبح هذا النزاع الكبير محور التحركات السياسية والدبلوماسية على مستوى العالم،
وتضاءلت تبعاً لذلك كل الاهتمامات بمشاكل العالم الأخرى ومعاناة الشعوب الفقيرة الرازحة
تحت وطأة النزاعات الاقليمية وفوضى السياسة والفرص المتلاشية للاستقرار والتطور،
وباتت احتیاجات التنمية والاستقرار والسلام في انحاء العالم الاخرى قضايا جانبية تقبع في
عالم النسيان .
مع تفجّر الحرب الروسية- الأوكرانية شهد العالم ارتفاعاً حاداً فى انعدام الامن الغذائي، وقد
تجمعت عوامل الحرب وارتفاع معدلات التضخم وتعطل سلاسل الامداد وتراجع النشاط
الاقتصادي العالمي، لتدفع الى زيادات كبيرة في اسعار العديد من المنتجات الزراعية
والمستلزمات مثل الاسمدة والقمح والذرة …
وفي تطور مواكب للازمات الدولية والحرب الروسية- الاوكرانية، بدأت فكرة “عالم بلا
حدود” تتراجع، وعادت الدول تفرض قيوداً على عدد من عمليات الاستيراد والتصدير. منظمة
التجارة العالمية قالت في تقرير لها “ان الدول تفرض قيوداً تجارية بوتيرة متزايدة، خصوصاً
على الاغذية وعلى الماشية والاسمدة وعدد من اشباه الموصلات العالية التقنية” واضافت “من
اصل ٧٨ اجراء لتقييد صادرات الاغذية والعلف والاسمدة فُرض منذ بداية الحرب في اواخر
شهر شباط/ فبرایر 2022، مازال 57 ساریاً، تغطي اجمالاً نحو 56.6 ملیار دولار تقريباً
من التجارة”. مع الاشارة هنا إلى ان هذه الارقام تزايدت في الاشهر الاخيرة من العام، وهو ما
ينبغي ان يكون سبباً للقلق، لا سيما بعد الانفتاح في التجارة العالمية خلال الاعوام الماضية وما
سببته من نمو وانتعاش وتقارب بين الامم والدول والشعوب.
النصف الاول فى العام 2022 شهد واحدة من اكبر الصدمات التي شهدها العالم في اسواق
الطاقة العالمية منذ عقود، حيث زادت الاسعار زيادة كبيرة، مما ادى الى تفاقم نقص الطاقة
والمخاوف المتعلقة بأمن الطاقة، وزيادة التباطؤ في حصول الجميع على مصادر طاقة حديثة
ميسورة التكلفة وموثوقة ومستدامة.
لقد تطرف المناخ بشكل لا سابق له خلال العام 2022، وبرزت مشاهد المشردين بسبب
الفيضانات العنيفة والزلازل المدمرة وحرائق الغابات وموجات الحر التي بلغت معدلات غير
مسبوقة في التاريخ خصوصاً في اوروبا، اما افريقيا والمنطقة العربية فقد اصاب الجفاف
ونقص المیاه او انعدامها تماماً في مناطق واسعة في دول شرق القارة وفي العراق وبعض
اجزاء دول شمال افريقيا ومصر، واصبح التهديد للحياة وشيكاً ومتعاظماً. ولقد جاء انعقاد
مؤتمر كوب ٢٧ في مدينة شرم الشيخ- مصر يؤكد على تلك المخاوف ويسعى جاهداً لتوفير
الحلول لها… وهو كان موضوع مقالنا السابق.
طوى العام 2022 آخر صفحاته وبدأت روزنامة العام 2023، تتوالى.
نأمل ان يحمل العام الجديد السلام والامن والاستقرار وبدء مسيرة التعافي الاقتصادي
العالمي… بما يشكل صورة معاكسة لعام مضى.
وكل عام وانتم بخير