صناعة الفقر

عمرو إمام عمر

”الحكم بالمال المنظم خطر بنفس قدر خطورة الحكم بالغوغاء المنظمين“
فرانكلين د. روزفلت

العلوم الاجتماعية فى عمومها لا يمكن أخراجها خارج الأطر الأيديولوجية ، و اليوم بعد أربعة قرون تقريبا من بدايات الفكر البرجوازى و نشوء الرأسمالية إلى وقتنا الحالى حيث وصلت فيه إلى أقصى مداها ، نجد أن السواد الأعظم من البشر فى حال من السوء أكثر بكثير عما كانوا من قبل ، و سأحاول فى السطور التالية ألقاء الضوء من خلال سياق تاريخى و منطقى مفهوم الفقر و كيف تتم صناعته و تأثير العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية الناتجة عنها فى تكوين الثراء و الفقر …

للأسف الشديد إن العملية التى تتم من خلالها صناعة الفقر و الغنى تدور خارج وعى معظم الناس بسبب تعقدها و صعوبة رصدها للعامة ، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية التى تتبعها المؤسسات الرأسمالية فى تغيب الوعى لدى الشعوب ، إلا إن تلك المتاهة لا تستطيع الصمود أمام تفجر قنبلة التناقضات بين الغنى و الفقر ، كذلك هشاشة المؤسسات التى تدير العملية الاقتصادية و السياسية ، و بالتالى أصبح تقسيم المجتمع إلى فقراء و أثرياء جزء أساسى من المنظومة الاجتماعية البرجوازية ، لذا لابد من إعادة صياغة فكر العامة و وعيهم لقبول تلك التقسيمات ، فاستخدم هؤلاء المفكرين مفهوم ”الندرة“ أى أنه لا يوجد من الموارد ما يكفى كافة البشر ، فمن ندرة الطعام إلى ندرة الموارد الطبيعية إلى ندرة النقـود ، سلسلة متماسكة لتبرير الجوع و الفقر و التشرد و الأمية و غياب الرعاية الصحية ، و فى جانب آخر يتم استخدام الدين لما له من قبول كبير لدى العامة من خلال نشر الفكرة الساذجة ”الرزق من عند الله“ إلا إن الحقيقة مغايرة لذلك …

ما معنى أن تكون فقيرا ؟
واحدة من المشكلات التى تواجه الدارسين هو تعريف ”الفقر“ ، فعادة ما ينجرف فكر الإنسان نحو الجانب المادى متجاهلا المعنى الرمزى و بالتالى الجوانب السوسيولوجيا و الانثربولوجيا الاجتماعية التى تشكل البنى الثقافية للفقر ، و التى تنعكس فى نمط التفكير الفردى و المجتمعى ، كذلك يختلف الفقر تبعا للتوزيع الجغرافى ، ففقير المدينة قد يشعر بالفقر أكثر بكثير من فقير المجتمعات الريفية هذا على المستوى المادى ، أما على المستوى المعرفى أو التعليمى فيعانى فقير الريف بشكل أكثر وضوحا ، و هذا يأخذنا إلى أنواع الفقر : –
• الفقر الموقفى : هو نتيجة أزمة أو خسارة مفاجئة و هى فى غالبها تكون مؤقتة
• الفقر المتوارث : و يحدث فى الأسر التى يولد أفرادها عبر جيلين فى فقر ، تلك الأسر فى غالبها غير مؤهلة للحراك خارج ظروف حياتها و لا تمتلك أدوات هذا الحراك
• الفقر النسبى : و هو يشير إلى الحالة الاقتصادية للأسر التى لا يكفى دخلها متطلبات متوسطة من مستوى المعيشة
• الفقر المدنى : يتركز هذا النوع من الفقر فى المدن الكبرى التى لا يقل عدد سكانها عن 500 ألف نسمة ، هذا النوع من الفقر عبارة عن جماع مركب و معقد من الضغوط الحادة و المزمنة ، تبدأ بالزحام و الضوضاء و حوادث العنف إلى الفقر المادى و عدم توافر متطلبات المعيشة الأساسية بالإضافة إلى الفقر المعرفى و التعليمى ، و هؤلاء عادة يسكنون فى أطراف المدن فى مناطق أقرب إلى العشوائية مما يشكل عملية التوزيع المكانى للأفراد …
• الفقر فى الريف : يتواجد هذا الشكل من الفقر فى المناطق الريفية التى يقل عدد سكانها عن 50 ألف نسمة ، و عادة الأسر فى تلك المناطق تعتمد على عائل واحد ، و تعانى من ندرة الخدمات الأساسية و عدم وجود فرص للتعليم ، و قلة فرص العمل ، لذا تتزايد بشكل كبير مستويات الفقر فى تلك المناطق

هنا يجب علينا طرح تساؤل آخر ”ما هى الأسباب و السياسات الاقتصادية و الاجتماعية التى تولد الفقر ؟“ ، على الرغم من الاهتمام الكبير الذى نراه فى المنظمات الدولية مثل برامج ”التنمية الإنسانية“ التى تتبناها الأمم المتحدة ، و ”المنهج القائم على الحقوق“ منظمة اليونيسيف ، و ”منهج سبل المعيشة“ ، وزارة التنمية الدولية بالمملكة المتحدة ، ”الاستبعاد الإجتماعى“ الاتحاد الأوروبى و منظمة العمل الدولية ، و العديد من البرامج الأخرى التى يتبناها صندوق النقد الدولى و البنك الدولى للإنماء و مؤسسات أخرى إلا أننا لم نرى أى تغيير فى مستويات الدخل أو عدالة فى التوزيع بل على العكس ازدادت معدلات الفقر فى العالم ، و تخبرنا الإحصاءات المنشورة حديثا من تلك المنظمات أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر وصل إلى 23% من عدد سكان العالم(1) أى ما يوازى أكثر من مليار و نصف يعيشون بأقل من 3 دولار يوميا ، بينما من يعيشون على خط الفقر نفسه أكثر من ذلك بكثير(2) ، فالأخفاقات التنموية خاصة فى دول العالم الثالث من ثمانينات القرن الماضى الذين يمثلون اليوم حوالى 6 مليار نسمة يشكلون 78% من أجمالى سكان العالم أصبحت مزمنة خاصة مع انتصار المعسكر الغربى الرأسمالى و تبنى مفاهيم أقتصاد العولمة و السوق المفتوح …

لفهم طبيعة العملية الاقتصادية و دورها فى صناعة الفقر سأحاول من خلال تلك السلسلة من المقالات التعرف على العناصر المؤثرة فى العملية الاقتصادية داخليا و خارجيا و التجارب الاشتراكية فى كل من الاتحاد السوفيتى و يوغسلافيا و بعض دول الكتلة الاشتراكية و نقاط القوة و الضعف فيها ، كذلك المرور على أمثلة من التجارب العربية بالأخص فى مصر و سوريا و العراق و علاقات القوة الداخلية و الخارجية المؤثرة و أثر سياسة العولمة على المنظومة الاقتصادية و ذلك للتعرف على التحولات و أثرها الاجتماعى و السياسى ، كذلك تاريخ الرأسمالية الغربية و كيف استطاعت تشكيل التراكم الأولى و استثماره لصنع نهضة صناعية و اقتصادية و علمية تبهر العيون و تأخذ بعقول الكثيرين ، و بالتأكيد دورها فى صناعة الفقر فى بلادنا أو فى أى مكان على ظهر هذا الكوكب …

ماهية الاقتصاد السياسى
من الصعوبة وضع تعريف محدد للاقتصاد السياسى و للنظم الاقتصادية السياسية ، وذلك بسبب ارتباطها بعوامل كثيرة تؤثر عليها و ترتبط معها ، فهناك عوامل سياسية و أجتماعية و ثقافية و علمية ، حتى الجوانب الروحية لها تأثير لا يمكن تجنبه ، لذا فالعلاقات ترابطية فى العملية الاقتصادية بين الأساس النظرى أو الفكرى و الجوانب التطبيقية ، أى أن على الجانب الفكرى أن يقوم بإيجاد أسس العلاقة الترابطية الخاصة بعملية تنظيم و تنسيق الوحدات الاقتصادية الإنتاجية و الخدمية من خلال دراسة مجموعة المتغيرات الأساسية فى أنماط الملكية و الإنتاج و ذلك لمتابعة الحاجات البشرية المتعددة و المتطورة و توفير الحلول التى قد تثيرها عوامل الندرة أو مشاكل عمليات التشغيل المختلفة بما يضمن أستمرار عمليات النمو و التنمية …

لا يجب أن ننسى إن القوى الإنتاجية تعبر عن علاقات الناس بالأشياء و الطبيعة ، فمن خلال الإنتاج يتحدد مدى تأثير الناس على الطبيعة و مدى تأثيرها عليهم ، كذلك مدى تأثيرها فى علاقتهم بعضهم ببعض ، فالعلاقات الاجتماعية تتشكل من طبيعة علاقات الإنتاج التى تتحدد من خلال طبيعة الملكية و وسائل الإنتاج من ارض و موارد طبيعية مستخرجة منها ، و المياه و توزيعها ، و سهولة الحصول على المواد الأولية ، أدوات الإنتاج ، وسائل النقل و المواصلات … الخ ، و هنا إما أن تكون الملكية فردية فينتج عنها تقسيم طبقى بين ملاك و شغيلة لتتحدد طبيعة العلاقة هنا فى المجتمعات الإقطاعية لتكون على شكل الإقطاعى و القن ، و فى النظم البرجوازية لتشكل كيفية أستغلال لقوة عمل الشغيلة ، أو تكون الملكية جماعية مجتمعية هدفها تلبية الحاجات المادية و الثقافية و الروحية للأفراد و المجتمع ككل ، فشكل الملكية هو الذى يحدد البناء الطبقى للمجتمع و علاقاته …

الشغل الشاغل لعلماء الاقتصاد هو دراسة قوانين الإنتاج الاجتماعى و أسلوب توزيع الناتج و ذلك فى مختلف مراحل تطور المجتمع البشرى ، فالإنسان هو حيوان منتج بطبيعته ، فلكى يستطيع العيش يجب عليه توفير الغذاء و الكساء و المسكن … الخ ، و لكى يستطيع إنتاج أحتياجاته وجب عليه أن يناضل ضد الطبيعة فى أحيان و أن يحاول ترويضها فى أحيان أخرى ، كما وجد أن عمله لكى يكون مؤثرا و ذو نفع و كافى لأحتياجاته يجب أن يكون بصورة جماعية ، لذا أصبحت العملية الإنتاجية شكلاً من أشكال التفاعل الإجتماعى و تخلق نوعا من الترابط بين الأفراد ، و الإنتاج لا يمكن أن يستقر و يستمر بدون تحديد شكل الملكية و كيفية توزيع الناتج كما أشرت من قبل من هذا نستطيع توضيح السمات الأساسية للاقتصاد السياسى فى نقاط ثلاث …

• الملكية و هى السمة التى تحدد حقوق التصرف ، الاستعمال ، الاستخدام و الانتفاع ، و تتمثل فى ملكية وسائل الإنتاج و حق الانتفاع من الناتج سواء كان ريعاً أو إنتاجاً …
• الآلية و هى مجموعة العمليات و العلاقات التى بموجبها يتم تنظيم عملية التداول فى الأسواق و البناء المجتمعى ، فعلاقات الإنتاج فى النظام الرأسمالى تتميز بوجود عدد من التناقضات ما بين المزاحمة و المنافسة بين أصحاب رأس المال أنفسهم للحصول على أكبر ربح ممكن ، و البناء الطبقى الذى يتشكل فى ظل سيطرة الملكية الفردية على أدوات وسائل الإنتاج مما يشكل تناقضات و نزاع بين الشغيلة و الرأسماليين ، أما فى ظل المنظومة الاشتراكية فتسيطر الملكية الجماعية على وسائل الإنتاج التى تأخذ إما شكل ملكية الدولة ”أى ملكية الشعب كله لوسائل الإنتاج“ ، أو شكل الملكية التعاونية مما ينفى كافة أشكال النزاعات و التناقضات سواء التنافسية أو أستغلال الإنسان للإنسان ، فالشغيلة يعملون لأنفسهم و لمجتمعاتهم و تتميز العلاقات بالتعاون و المساعدة المتبادلة …
• الهدف فى ظل النظم الرأسمالية هو الربح فلا صوت يعلوا فوق صوت رنين الذهب و المال ، فتحقيق الأرباح يمثل السمة الأساسية للنظام ككل بغض النظر عن ما يقدمه هذا العمل للمجتمع ، فالهدف هنا فردى الغرض منه إثراء الفرد المالك المستثمر و هو الحافز الأساسى و الوحيد له ، على العكس فى النظم الاشتراكية فالهدف هنا اجتماعى الغرض منه زيادة رفاهية الشغيلة (الشعب) و رفع مستواهم الثقافى و المادى ، فعمليات توزيع الإنتاج و التبادل و الاستهلاك مختلفة عن المنظومة الرأسمالية فهى موجهة لتقوم بدور فعال فى العملية الإنتاجية من إزالة كافة المعوقات و العمل على تطويره …
▪ النمو الاقتصادى … و هو هدف رئيسى يتمثل فى زيادة الإنتاج و بالتالى زيادة حصة الفرد من الناتج العام و السلع و الخدمات بما يؤدى إلى تحسين معيشته و زيادة مستوى الرفاه فى المجتمع و القضاء على الفقر أو
الإقلال منه لأقصى درجة ممكنة ، و هذا يرتبط بالتخطيط العام للعملية الإنتاجية و تكلفتها و ظروف و شروط العامل و كيفية توزيع الإنتاج بين الاستهلاك و الاستثمار ، و تنمية الموارد و كيفية استخدامها …
▪ الكفاءة … و هى تعنى هنا بفاعلية العملية الاقتصادية ككل من خلال عمليات المتابعة المستمرة و التطوير لآليات العمل الاقتصادى للتغلب على أى معوقات قد تطرأ ، و هنا نعنى بالكفاءة الحركية للعملية الاقتصادية و
التخطيط لها …
▪ العدالة … لا معنى لأى نمو أقتصادى بدون عدالة فى توزيع الناتج العام ، و يحاول مروجى فكرة الاقتصاد الرأسمالى أقناعنا أنها تتحقق من خلال التوازن بين الجهـد المبذول أو النشاط المرتبط بالعملية الإنتاجية و العائد
الذى يحصل عليه المنتج ، إلا أنهم يغفلون العامل الاجتماعى الذى يتضمن تحقيق مستويات عادلة فى العيش و نوعية الحياة و الرفاهية

تاريخ و تطور نمط و فكر الاقتصاد السياسى
من الصعوبة التعرف على الاقتصاد بدون أن نعرج على تاريخه لأدراك الحقائق التى ارتكز عليها و تطورها ، فالعملية الاقتصادية فى مجملها هى نتاج للعوامل الزمنية و المكانية و عوامل التغيير الناتجة بالمجتمعات ، لذا لا نستطيع تطبيق نفس الخطوات الإجرائية قد تكون حدثت فى مكان و زمان ما و حققت نجاح لنعيد تكررها فى مكان آخر أو فى زمن آخر ، فلكل مكان طبيعته و شخصيته الخاصة و لكل زمان أدواته ، لذا فعلم الاقتصاد السياسى يرتكز على دراسة البشر و كيفية ممارستهم لحياتهم اليومية و العلاقات الناتجة عنها ، فدراسة السلوك البشرى و متغيراته عامل أساسى فى علم الاقتصاد السياسى ، كذلك العلاقات الناتجة عن هذا السلوك تؤثر بشكل كبير فى نمط الإنتاج و توزيع حصص هذا النشاط فى كل من الأجور و الأرباح و فائدة راس المال ، خلال تلك المقالات لن أتطرق فقط للأبحاث و النظريات التى طرحها المنظرين و الباحثين و لكن سأركز على الجانب التاريخى خاصة السلوك البشرى بالإضافة إلى العوامل الجيوبلوتيكية التى شكلت العالم اليوم بين عالم أول و عالم ثالث …

يقول كارل ماركس فى كتابه أسس الاقتصاد السياسى(3) Grundrisse ”إن رأس المال ليس كما يعتقد علماء الاقتصاد ، الشكل المطلق لتطور قوى الإنتاج ، أنه نظام مفروض عليها يصبح زائدا و مرهقا عند مستوى معين من تطوره“ ، بمعنى إن التطور الإعجازى لقوى الاقتصاد لا يفصل حاضره عن سابقه ؛ إن التطور فى القوى الإنتاجية الرأسمالية ظل يتمحور حول مظهرين أساسيين هما اللامساواة الاجتماعية ، و الاستغلال ، فالتقدم الإعجازى الذى نراه حاليا فى القوى الإنتاجية ، كذلك فرص مضاعفة الإثراء الناتجة عنه تميزت بشكل أساسى فى استغلال الإنسان على مستويات متعددة بداية من توفر و ظروف العمل مروراً بعملية التسليع الاجتماعى إلى أدوات تغييب الوعى الاستهلاكى للمجتمعات و قبل كل هذا النزعة الاستعمارية التى شكلت الفارق الكبير بين الدول المُستعمرة و الدول المستعمِرة ، كذلك هذا التطور فى القوى الرأسمالية أدى إلى نشوء الصراع الطبقى و تعدد مستويات الصراع ، و هذا يتم وفق خطوط متشابكة تشكلها أنماط التوزيع اللامستاوى و عملية أحتكار السلطة السياسية و فرضها من قبل الرأسمالية …

من أكثر المشكلات التى تواجه بلداننا المتخلفة عن الركب العالمى – الغربى بالتحديد – هو فى تعدد الأنماط الإنتاجية و عدم إندماجها فى تشكيلة أجتماعية و أقتصادية واحدة ، كذلك عدم الاستغلال الجيد لمصادر الثروة الطبيعية من معادن و تربة و مياه سواء كانت عذبة أو مالحة ، و بالتالى اثرها فى العملية الإنتاجية ، و الأنشطة الاقتصادية الخدمية المكملة لها من أعمال بنكية و تمويل كعنصر متحكم فى عمليات الإنتاج والاستهلاك ، من هنا جاء علم الجغرافيا الاقتصادية ، فمهمة هذا العلم هو دراسة العلاقات بين الاقتصاد و المكان الجغرافى من أشكال و مميزات للسعى للوصول إلى أفضل صيغ استغلال الطبيعة المكانية و تنظيم الأشكال الوظيفية للتركيبة الاقتصادية ، لذا فالجغرافيا الاقتصادية تسعى إلى دراسة و تحليل النقاط التالية : –

  1. كيفية استغلال الإنسان لمصادر الثروة الطبيعية من تربة و مياه و معادن
  2. إنتاج السلع فى كافة أشكالها الزراعية و الحيوانية و المعدنية ، كذلك السلع المصنعة
  3. دراسة عمليات نقل المواد الخام أو السلع المصنعة و سهولتها
  4. الجوانب الخدمية من أعمال بنكية و تمويل كعناصر متحكمة فى عمليات الإنتاج و أنماط الاستهلاك

لقد مر علم الجغرافيا الاقتصادية بمرحلتين أساسيتين ففى البداية أهتم بعمليات توزيع الإنتاج و أطلق عليه الجغرافيا التجارية و ارتبط هذا بالفترة المركنتيلية(1) و أهتم بتقسيم العالم و توزيع أنتاجه توزيعاً محصولياً ، و مع بداية عصر الانقلاب الصناعى بدأ يهتم بمبدأ السببية و على ضوئه بدأ تفسير ازدهار الصناعة فى بلد ما ارتباطاً بوجود مصادر للثروة المعدنية و الطاقة المحركة و إنتاجه من المحاصيل الزراعية ، و لكن مع زيادة وتيرة التطور العملى و التكنولوجى خاصة مع بدايات القرن العشرين أنتقل علم الجغرافيا الاقتصادية إلى مبدأ اكبر و اشمل هو التفاعل المتبادل بين المكان و طبيعته و الإنسان و دراسة مدى تأثير هذا التفاعل ، وقد ظهر فى تلك الفترة مصطلح ”الأقاليم الاقتصادية“ على أساس تقسيم المناطق الجغرافية بحسب تقدمها الاقتصادى ، كما تم تقسيم مراحل التطور الاقتصادى تاريخياً إلى الشكل التالى : مرحلة الصيد و الجمع ، مرحلة استخراج المعادن ، مرحلة الرعى البدائى و المتقدم ، مرحلة الزراعة ، مرحلة الصناعة ، و أخيرا مرحلة التجارة و الخدمات ، و قد أهتمت المدرسة الحديثة فى الجغرافيا الاقتصادية بدراسة العلاقة بين العمليات الاقتصادية و المكان ، من خلال تقسيم سطح الأرض إلى أقاليم اقتصادية لدراسة أشكال و مميزات تلك الأقاليم …

الإنتاج و تحولات الأنماط الحياتية
كما ذكرت فى الحلقة الأولى فالاقتصاد السياسى يهتم بالأساس بدراسة القوانين الاجتماعية التى تؤثر على العملية الإنتاجية ، فالإنسان فى حاجة دائمة لإشباع احتياجاته حتى يستطيع العيش ، و هنا قد تكون حاجات الإنسان فردية أو جماعية ، و تنقسم أيضا بين حاجات مادية و معنوية ، فالأشياء المادية مثل المنتجات الزراعية و المنتجات المصنعة ضرورية لإشباع حاجات الإنسان الحياتية و أطلق عليها مصطلح ”السلع“ ، و لإنتاج تلك السلع وجب على الإنسان أن يتعامل مع الطبيعة وأن يحاول ترويضها حتى يستطيع إنتاج ما يحتاج من المنتجات ، ليظهر مصطلح آخر و هو ”العمل“ ، فأصبح على الإنسان لكى يحصل على أحتياجاته من السلع أن يعمل ، و عن طريق هذا العمل يتفاعل الإنسان مع الطبيعة التى يعيش فيها ، و من هنا أصبح على الإنسان أن يشكل أدواته التى يعمل بها حتى يستطيع ترويض الطبيعة التى يعيش فيها لينتج من خلالها أحتياجاته ، و عملية الإنتاج هى عملية اجتماعية ، على الرغم إن الإنسان الأول بدأ حياته منفرداً تقريبا إلا أنه سرعان ما بدأ ينتظم فى مجموعات و بدأ حينها تنظيم عملية الإنتاج الجماعى و ابتكار الأدوات التى تعينه على الصيد ثم الزراعة ، كذلك عملية تنظيم توزيع المنتج -Distribution – ، و من قبل هذا عملية تقسيم العمل – Division of Labour – .

ملكية وسائل الإنتاج و العلاقات الناشئة عنها
لن نستطيع فهم العلاقات الاجتماعية التى تنشأ عن العملية الإنتاجية و تأتى ملكية وسائل الإنتاج كأحد العلاقات المهيمنة التى يقوم على أساسها مجموع العلاقات الإنسانية الناشئة عن العملية الإنتاجية برمتها ، فالملكية هى التى تحدد شكل تقسيم العمل ، و طرق استخدام وسائل الإنتاج ، و بالتأكيد ملكية المنتج و الأهم هو كيفية توزيعه ، لذا فهى المبدأ المنظم لكافة العلاقات الناشئة عن العملية الإنتاجية ، فإذا كانت الملكية ”ملكية مجتمعية“ أى تشاركية لجميع أعضاء المجتمع تتشكل هنا بيئة أجتماعية لها خصوصيتها و تصبح المسئولية تشاركية تعزز مفهوم التعاون و يصبح نصيب كل مشارك يوازى مساهمته فى العملية الإنتاجية بما يتوافق عليه المجتمع ، أما أن تكون ”الملكية فردية“ أو أن تكون مملوكة لمجموعة من الأفراد كعائلة مثلا ، أو تتخذ شكلاً وسطياً من أشكال الملكية مثل الملكية التعاونية -Cooperative – التى تضم جزء من أعضاء المجتمع …

الأنماط الإنتاجية و أشكال ملكية

إن دراسة تطور المجتمع البشرى ميزت بين خمسة أنماط للعملية الإنتاجية مرت بها مراحل تطور التاريخ الإنسانى و هى كالتالى

١) مرحلة المجتمع البدائى Primitive Community فى تلك المرحلة سيطر مفهوم الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج و الأرض
٢) مرحلة المجتمع العبودى Slave Society حيث بدأت تتشكل الملكية الخاصة و هى كانت إما فردية ، هى حيث يمتلك فرد ما الأرض بما فيها من بشر ، أو ملكية الدولة أو الملك
٣) المجتمع الإقطاعى Feudal Society و فى هذا النمط يكون العاملون من المزارعين مرتبطين بالأرض كأقنان Serfs لا يستطيعون مغادرتها ، و يخصص المالك قطعاً من الأرض لاستعمالهم الشخصى تكفى لأحتياجاتهم على أن يلتزموا بزراعة باقى الأرض لصالح المالك
٤) المجتمع الرأسمالى Capitalist Mode of Production و تعود الملكية هنا للرأسماليين و لا يملك باقى المجتمع و هم الأكثرية وسائل الإنتاج الخاصة بهم ، لذا فهم يعملون لصالح الرأسمالى نظير أجر يحدده صاحب العمل ، و ملكية وسائل الإنتاج هنا إما تكون فردية أو تضامنية أى على شكل شركات ، و يتميز هذا النوع بالإنتاج الكبير Mass Productions حيث المصانع و المزارع الكبيرة ، يستحوذ الرأسمالى على عائدات الإنتاج لتلبية حاجاته و رفاهيته الخاصة و لا يبقى للعاملين سوى الأجر الذى يتم الاتفاق عليه و فى الأغلب يكفى تلبية متطلباتهم الأساسية
٥) أخيرا المجتمع الاشتراكى Socialist Society فى تلك الحالة تعود ملكية وسائل الإنتاج إلى المجتمع ككل من خلال المنظمات التعاونية أو المجتمعات الريفية بالنسبة للزراعة و يقوم المجتمع فى تلك الحالة بتخطيط و توجيه عملية الإنتاج و توزيع الناتج بما يخدم إشباع حاجات و متطلبات المجتمع و رفاهيته

إن كل مرحلة من تلك المراحل نمت فى حقبة تاريخية معينة من تاريخ التطور الحضارى للإنسان ، تحمل سماتها الخاصة ، و لم يكن الفكر الاقتصادى قد حظى باهتمام إلا مع نهايات الحقبة الإقطاعية و بدايات المرحلة الرأسمالية ليصل إلى ذروته مع بدايات القرن السابع عشر مع أنتشار التجارة بشكل كبير و خاصة التجارة الدولية ، فقبل ذلك لم يكن الفكر الاقتصادى يحظى بنصيب حتى لدى المفكرين الإغريق على الرغم من الصحوة الفكرية فى تلك الفترة فى علوم مثل الفلسفة و المنطق و الرياضيات و السياسة ، و ذلك بسبب ظروف الإنتاج السائدة و التى كانت تكفى لمتطلبات الإنسان البسيطة ، كذلك لم تكن للتجارة ثّقل كبير فى حياة الناس إلا فى حدود ضيقة ، فهى اعتمدت على المقايضة البسيطة بين السلع أو الخدمات ، و لم نرصد إشارات للمنظومات الاقتصادية إلا ما كتبه أفلاطون فى كتابه المعروف الجمهورية – The Republic – و الذى تناول فيه كيفية نشأة الدولة و حاجة الأفراد بعضهم إلى بعض ، و كيف دعا إلى تقسيم العمل بين أفراد المجتمع ، و أشاراته إلى عدم سلامة الجمع بين أكثر من مهنة ، و قد قسم أفلاطون النظام الطبقى إلى ثلاث طبقات ، المزارعين و العمال ، المحاربين ، و أخيرا طبقة الحكام ، و نلاحظ أن أفلاطون قد تجاهل طبقة العبيد الذى كانوا جزء كبير من المنظومة الإغريقية ، ثم أتى أرسطو و قد تناول بعض المسائل الاقتصادية فى كتابه السياسة – Politics – ، و اختلف أرسطو عن ما سبقه أفلاطون ، فهو لم يرجع نشأة الدولة إلى أسباب أقتصادية بل ذهب إلى أن الإنسان مدنى بطبعه و ذو غريزة سياسية ، كذلك عارض أفكار أفلاطون التى طرحها فى كتابه المدينة الفاضلة و التى نادى فيها بشيوعية الملكية(2) ، فقد دافع أرسطو عن الملكية الفردية و اعتبارها الحافز الأساسى للإنسان فى العمل ، و نلاحظ إن أرسطو حاول أن يضع بعض التفسيرات ن فقد أعطى تعريفاً للثروة أنها مجموعة السلع و الأدوات التى يستخدمها الفرد أو الدولة لتحقيق أسباب الحياة الطيبة ، كما فرق بين القيمة الاستعمالية و القيمة التبادلية ، كما أعطى لكل سلعة قيمة على أساس المنفعة ، كما تناول أرسطو قضية النقود و شرح كيف نشأت لتلبية مطالب التجارة و التبادل ، ثم أتى بعد ذلك المفكر كسينوفون Xenphon ، و يعتبر أول من كتب عن الاقتصاد بشكل أساسى فى كتابه المحاورات الاقتصادية – Oeconomicus Socrates – و قد ميز كسينوفون بين الثروة و النقود ، فالثروة تقوم على إشباع حاجات الفرد و بغير تلك الصفة لا تكون ثروة ، كما شدد على الاهتمام بالزراعة و اعتبرها مصدر غنى المجتمعات و يعتبره الكثير من المؤرخين الاقتصاديين رائداً للمدرسة الطبيعية ”فيزيوقراط“ التى ظهرت بفرنسا فى القرن الثامن عشر ، كما كتب بحثاً عن زيادة إيرادات أثينا و استعرض فيه السياسات التى يجب أتباعها لانتعاش المدينة و زيادة إيراداتها …

أما فى الحضارة الرومانية على الرغم من التراث القانونى الكبير و نظم الحكم إلا إن ذلك لا يمكن قياسه بالحضارة الإغريقية و ينعكس هذا على فكرهم الاقتصادى الذى لم يكن تحليلا للواقع و لكنه كان انعكاس للقيم المجتمعية السائدة فى المجتمع الرومانى ، و هذا ما نراه فى كتابات شيشرون و سنكا ، و بلينى ، فقد اعطوا للزراعة مكانة الصدارة فى العملية الاقتصادية و إن انتعاشها يعتبر الدعامة الأساسية التى تقوم عليها السلطة السياسية ، أما الصناعة و التجارة فكانت بالنسبة لهم من الحرف غير النبيلة و النقود مصدرا للبلاء خاصة فى معاملات الإقراض و الربا ، و قد أعتبر سنكا أن أى نظام طبيعى صالح و منسجم مع حياة البشر ، بينما كلما هو مصطنع عكس ذلك و مصدرا للبلاء …


هوامش

1) الإتجارية – Mercantilism – هى مذهب سياسى/اقتصادى ساد أوروبا بين القرن السادس عشر و منتصف القرن الثامن عشر . كانت الإتجارية فكرة شائعة كشيوع الرأسمالية فى عصرنا الحالى ، و إذا كانت النظريات الاقتصادية الحالية تقوم على فكرة أن الأسواق تنمو باستمرار ، فإن الإتجارية على العكس ترى أن الأسواق ثابتة ، مما يعنى بأن لزيادة حصتك فى السوق ، ينبغى أن تأخذ هذه الحصة من حصة شخص آخر ، وقد نشأ النظام المركنتلى التجارى من خلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة و زيادة ملكيتها من الذهب و الفضة من خلال التنظيم الحكومى الصادر لكامل الاقتصاد الوطنى و انتهاج سياسات تهدف إلى تطوير الزراعة و الصناعة و إنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية.

2) شيوعية الملكية التى نادى بها أفلاطون لا تطبق إلا على أفراد الطبقة الحاكمة و لا تصل إلى سائر أفراد الشعب ، وقد تأثر كثيرا الاشتراكيين الأوائل بأفكار أفلاطون

المصـادر

• روبرت سى آلان – التاريخ الاقتصادى العالمى (مقدمة قصيرة جدا) ، ترجمة محمد سعد طنطاوى ، مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – الطبعة الأولى 2014

• جون كينيث جالبرت – تاريخ الفكر الاقتصادى (الماضى صورة الحاضر) ، ترجمة أحمد فؤاد بلبع ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطنى للثقافة و الفنون العـدد 261 ،سبتمبر 2000

• جوزيف أ. شوميتر- تاريخ التحليل الاقتصادى (المجلد الأول) ، ترجمة حسن عبد الله بدر ، المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الأولى 2005

• أرسطاطليس – السياسة ، ترجمة أحمد لطفى السيد ، منشورات الجمل ، الطبعة الأولى 2009

• أفلاطون – جمهورية أفلاطون ، ترجمة حنا خباز ، مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – الطبعة الأولى 2017

• فرناند بروديل – تاريخ و قواعد الحضارات ، ترجمة دكتور حسين شريف ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الأولى 1966

• ف. دياكوف ، س. كوفاليف – الحضارات القديمة (الجزء الأول) ، ترجمة نسيم واكيم اليازجى – دار علاء الدين دمشق ، الطبعة الأولى 2000

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى