أخبارثقافةدراسات و تحقيقات

شخصيات محلمة جلجامش

تتحدث الملحمة عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك او «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، و التي كانت والدته آلهة خالدة و والده بشريا عاديا و فانيا.
و قد قيل بأنّ ثلثيه اله و الثلث الباقي بشر مما جعله يسعى مستميتا لمعرفة سرّ الحياة الخالدة . أي البحث عن “اكسير الحياة” الذي لن يُبقيه فانيا بعد ذلك .
و كتب عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، واحتملت الكثير من النقد و المعالجة و التمحيص من قبل المؤرخين و علماء الاثار أيضا. و نعتقد أن السّر في هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى أن هذه الملحمة متشبّعة بشكل قويّ بالاحداث الخيالية و المثيرة و التي تأسر القلوب و تُمثّل تمثيلا بارعا ذلك الصراع الازليّ بين الحياة و الموت.
و تبقى من الاساطير الخالدة التي شُغلت بفكرة او موضوع اساسي و هو البرهان على حتمية الموت , حتى بالنسبة لكائن “هجين” مثل البطل جلجامش ثلثاه من مادّة الهية خالدة و الثلث الاخر بشري.
فهي تتمحور حول السؤال الوجودي الذي طالما شغل البشر في كل زمان و مكان و هو : ما الغاية من الحياة؟! ولماذا نموت بعد أن جئنا إلى هذه الحياة ؟! وهذه الأسئلة لا إجابة قاطعة حولها.
و زيادة على هذه القضايا الانسانية الكبرى سيجد القارئ ان ملحمة جلجامش تزخر بصور رائعة لمواضيع ازلية انسانية و حساسة, فهناك الصداقة و البغض و الحبّ و الامنيات و الحنين الى الذكريات و البطولة و الحرب و المغامرات و الرثاء.
و لعلّ اروع رثاء في تاريخ الأدب هو رثاء جلجامش المؤثّر لصديقه و خِلّه “انكيدو” و بكاؤه عليه.
لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مزخرفة بالحكمة، وخيالها مُفعم بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان و حياته و موته، وهي رمزية لأن أحداثها خيالية و ذات دلالات عميقة، و قصّتها ذات فكرة عميقة.
و في هذا الخصوص يقول الدكتور علي القاسمي: “جَزَعُ جلجامش بعد موت صديقه الحميم أنكيدو، هو شعور ينتاب كل إنسان لدى فقدان عزيز عليه.. أما إطاحة جلجامش للأسوار الحصينة، ونزاله مع الثور السماوي الهائج، وصراعه مع الجنّي «خمبابا» الذي اعترض طريقه في غابة الأرز، إنمّا ترمز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين الخير والشر”
هذه الملحمة السومريّة الشعريّة المكتوبة بالخط المسماري على اثني عشر لوحًا طينيًا اكتشفت بالصدفة لأول مرة في العام 1853 م في موقع أثري.
وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق، ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة الى اليوم في المتحف البريطاني. و هي مكتوبة باللغة الأكادية تحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي تم اعتبارها أقدم قصة كتبها الإنسان او أولها على الاطلاق ، وطبعت ونشرت ببغداد في ثمانينيات القرن العشرين بترجمة الآثاري طه باقر.
بداية الملحمة:
تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش، ملك أورك – الوركاء الذي كانت والدته الهة خالدة ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بأن ثلثيه إله والثلث الباقي بشر. وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا.
يظهرجلجامش في الملحمة ملكا غير محبوب من قبل سكان أورك؛ حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أورك العظيمة.
ابتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات، واسمها أرورو، بخلق رجل من الطين يغطي الشعر الكثيف جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات؛ أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش.
ويرى بعض المحللين أن هذين الشخصيتين يرمزان إلى الصراع بين البرية و الحضارة او حياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليها تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.
كان أنكيدو يخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد، فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش؛ فأمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغواء أنكيدو ليمارس العلاقة الحميمية معها؛ وبهذا تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروَّضا ومدنيا.
حالف النجاح خطة الملك جلجامش، وبدأت خادمة معبد الالهة عشتار-وكان اسمها شمخات – بتعليم أنكيدو الحياة المدنية؛ ككيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ، ثم تبدأ بإخبار أنكيدو عن قوة و بطش جلجامش وكيف أنه يدخل بالنساء قبل أن يدخل بهن أزواجهن. ولما عرف أنكيدو بهذا قرر أن يتحدى جلجامش في مصارعة ليجبره على ترك تلك العادة.
يتصارع الاثنان بشراسة؛ فهما متقاربان في القوة، ولكن الغلبة في النهاية كانت لجلجامش، حيث اعترف أنكيدو بقوة جلجامش، وبعد هذه الحادثة يصبح الاثنان صديقين حميمين.
يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز؛ فيقطع جميع أشجارها، وليحقق هذا عليه القضاء أولا على حارس الغابة، وهو مخلوق ضخم وقبيح اسمه خومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كانت المكان الذي تعيش فيه الآلهة ومن المؤرخين من يزعم أن المكان المقصود هو غابات أرز لبنان.
الصراع في غابة الأرز:
يبدأ جلجامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الإله الذي نشاهده في حكاية حمورابي المشهورة وهو الذي يناول الشرائع إلى الملك حمورابي.
وأثناء الرحلة يرى جلجامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدو الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل حارس الغابة يطمئن جلجامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة.
عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة خومبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لجلجامش وأنكيدو حيث يقع خومبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الاثنان على خومبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب الهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الآلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة لخومبابا.
بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم جلجامش بالانتشار وتعلو شهرته الآفاق فتحاول الآلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج ولكن جلجامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الإمساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله.
بعد مقتل الثور المقدس تعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فيقررون قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته , فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.
رحلة جلجامش في بحثه عن الخلود:
بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات.
وبالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة.
بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكن لكي يجد سر الخلود عليه أن يجد الإنسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا ان لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام.
وأثناء بحث جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الالهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى الطَوَّافٌ أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح، وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود.
بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا، إذا تمكن جلجامش من البقاء مستيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و7 ليالي فإنه سيحقق الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود.
تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود، يغوص جلجامش في أعماق البحر في أرض الخلود دلمون (البحرين حاليا) ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.
عودة جلجامش إلى أورك:
بعد حصول جلجامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أورك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت جلجامش وحزن أورك على وفاته.
ملحمة جلجامش , و يمكن ايضا ان نسميها اوديسة العراق القديم يضعها الباحثون و المؤرخون في شوامخ الادب العالمي. فهي أقدم نوع من أدب الملاحم البطوليّ في تاريخ جميع الحضارات , كما أنها أطول و أكمل ملحمة عرفها التاريخ.
و الحديث يطول عن اهمية و روعة هذه التحفة الادبية فعشرات المقالات و الدراسات لن تغني عن قراءتها و التعمق في معانيها كلٌّ من زاويته.
من المرجع الإلكتروني:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى