سياحة و سفر

المكان والسعادة

صوت الانتفاضة

“من جميع الأماكن التي اقمت فيها، ما من مكان جلب السعادة الحقيقية لنفسي وترك فيها اسف الحنين الى العودة اليه، الا جزيرة سان بيير” روسو.

لم نزر سويسرا يوما-ولا نظن اننا سنزورها ابدا-، لكن عندما تقرأ نصا كٌتب عام 1776 أي قبل أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان، فأن الخيال سيسرح بك بعيدا، تقول إذا كان ذلك المكان بتلك الروعة والجمال في ذلك الزمان، فيا ترى كيف سيكون منظره اليوم؟ روسو تنقل كثيرا بين المدن والبلدات الأوروبية، فقد كانت النزهات والمشي والاستكشاف هواياته المحببة له، لكنه توقف عند هذه الجزيرة، واصفا جمالها وروعتها، وما تركته في نفسه من أثر جميل.

تشاهد في بعض الأحيان فيديوهات تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يصور فيها امكنة مختلفة من العالم، تبرز فيها معالم الجمال والهدوء، بحيرات، انهار، جداول، شلالات، أراض خضراء، نظافة، ترتيب، تنظيم؛ تشعر ان الناس هناك سعيدين الى حد ما، فالمكان له خصوصية عند الانسان، دائما ما تجد إعلانات شركات السياحة يقول “نحن نعرف اين تجد سعادتك”، و “اين” هي من المقولات الأساسية التي تدل على المكان.

لا يمكن الجزم بشكل تام ان من يعيش في مكان جميل يكون سعيدا، فليس كل من يعيش في “جزر بالي” مثلا هو انسان سعيد، فهذه رؤية قاصرة جدا؛ لكن في مقابل ذلك تجد امكنة سيئة، او اسيء لها، امكنة تصحرت، تحولت الى بور، وامكنة يسودها الفوضى والخراب، تحكمها وتتقاتل عليها العصابات والمافيات والميليشيات، فحتما لا يمكن ان يكون الانسان فيها سعيدا، حتى لو كان ثريا؛ فهل من الممكن ان نتصور اليوم ان انسانا ما يسكن في “الجنينة” غرب دارفور يكون سعيدا، وهو يشاهد عمليات اغتصاب النساء والأطفال وعمليات القتل والنهب وناسا تموت من الجوع.

يقال ان مسؤولا عربيا زار العراق في تسعينات القرن الماضي، وعندما نزل من الطائرة كانت هناك سيارة فارهة بانتظاره، اقلته من المطار باتجاه فندق الرشيد، وعندما سٌئل كيف شاهدت بغداد قال: “كأني ازور سان فرانسيسكو”، لقد عبر عن سعادته، له كل الحق، فقد نزل في المطار، راكبا سيارة فخمة، سائرا في شوارع نظيفة، ثم الى ارقى فندق في بغداد، لكن لو ان الطريق الى الفندق يمر عبر حي المعامل والرشاد والشماعية والثورة وسبع قصور والعبيدي وحي الكوفة والغرير وجف تنك وحي طارق ومناطق خلف السدة، مناطق البؤس والشقاء، لكانت تعبيراته عن السعادة تختلف كثيرا.

روسو في الاعترافات كان يرى باريس وطرقاتها الجميلة، وتناسق صفوف بيوتها وقصورها من المرمر والذهب، لكنه عندما دخلها من طريق اخر، رأى منظرا مختلفا: “لم ار سوى شوارع صغيرة قذرة قميئة، وبيوت بشعة سوداء، وجو من الدنس والفقر. ومتسولين، وحوذيين، وتجار للثياب القديمة… كل ذلك صدمني” لم يشعر بالسعادة في باريس، لهذا هجرها، وتمنى عدم العودة اليها.

عندما يعلن ان “بغداد أسوأ مكان للعيش في العالم” فتلك حقيقة تامة، انها مكان موحش، فقدت كل جمالها ورونقها، لكن هذا الإعلان قاصر، ففي العراق هناك “امكنة” مدن واقضية ونواحي وقرى لا تعرف كيف تعيش الناس فيها.

اعتقد ان هناك شاعرة دنماركية لها ابيات شعر تقول فيها:

سأجلس في المقهى، لأتخذ قراراً حول حياتي
نعم حياتي أنا
لكن، بحق الشيطان
أهذه حياة
تستحق أن يؤخذ لها قرار

هذه الشاعرة تعيش في مكان اسمه “الدنمارك” وتكره حياتها، فماذا ستقول لو انها عاشت في السودان او اليمن او سوريا او العراق او فلسطين او ليبيا.
طارق فتحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى