خريطة الفقر العالمية
أحمد إبريهي علي
نشر البنك الدولي تحديثا لمؤشرات الفقر نهاية نيسان، عام 2018، لنسب الفقراء من مجموع السكان واعدادهم في العالم ومناطقه الجغرافية الكبرى. وفي وقت سابق ، عام 2013، اعتمدت هذه التقارير للفرد بالمعدل في اليوم 1.9 دولار امريكي متعادل القوة الشرائية عالميا PPPوباسعار عام 2011 عتبة للفقر، ويسمى خط الفقر الدولي. وتبين ان 10.7 بالمائة من سكان العالم يعيشون تحت هذا الخط، عددهم 783 مليون نسمة، حسب احدث البيانات المتوفرة. ويتركز هؤلاء الفقراء في افريقيا جنوب الصحراء بنسبة 42.3 بالمائة من السكان هناك وجنوب آسيا 15.1 بالمائة من مجموع سكانها وتضم هاتين المنطقتين 658 مليون نسمة من فقراء العالم، في وقتنا هذا، بموجب التعريف آنف الذكر.
ولألقاء المزيد من الضوء على الوضع المعيشي لسكان العالم بين التقرير ان 28.6 بالمائة من البشر تعيش دون 3.2 دولار للفرد في اليوم وعددهم في العالم 2044 مليون نسمة. ومن هؤلاء الفقراء 52.6 بالمائة من الناس في جنوب آسيا ، و67.5 بالمائة من شعوب افريقيا جنوب الصحراء. وعندما ترتفع عتبة الفقر الى 5.5 دولار في اليوم نجد ان 48.7 بالمائة من سكان العالم تعيش تحت هذا الخط. وبتعبير آخر إذا تجاوز متوسط الدخل الشخصي ( الأسري) للفرد في السنة 2008 دولار من الدولارات متعادلة القوة الشرائية باسعار عام 2011 ينتقل الى النصف الأعلى دخلا من سكان العالم، ونفس الشي يقال لعائلة حجمها ستة افراد يتجاوز دخلها السنوي 12045 دولار. آخذين بالأعتبار ان الدخل المحسوب ياسعار الصرف الأعتيادية في الدول النامية ادنى من مستوى تعادل القوة الشرائية المبين اعلاه وفي اسيا الجنوبية وافريقيا جنوب الصحراء ادنى بكثير.
ونستفيد من بيانات تقريرآخر حول التفاوت في توزيع الدخل صدر عن البنك الدولي عام 2016 Taking on Inequality ان 80 بالمائة من السكان دون خط الفقر الدولي يعيشون في الأرياف، وحوالي 44 بالمائة منهم في سن 14 سنة فما دون، و64 بالمائة من اولئك الفقراء يكتسبون من الزراعة وسائل عيشهم المرير.
ومما يدعو للتفاؤل انخفاض نسبة الفقراء، بمقياس 1.9 دولار دولي للفرد في اليوم من 35 بالمائة من سكان العالم عام 1990 الى 10.9 بالمائة المبينة آنفا عام 2018. لكن تعريف الفقر باقل من 2 دولار في اليوم للفرد ربما هو السبب في اظهار هذا الأنخفاض، إذ يفترض ان ربع قرن يكفي على الأقل لمضاعفة متوسط الدخل للفرد وحتى على فرض عدم التحسن في توزيع الدخل لا بد ان يتجاوز السكان هذا المقدار البائس من الدخل. وهذا ما حصل فعلا ، في الغالب، بيد ان عددا من الدول التي يقل فيها متوسط الدخل للفرد عن 1000 دولار باسعار الصرف الاعتيادية قد اخفقت في تحسين متوسط الدخل للفرد .
وقد شدد الاهتمام بالفقراء على توزيع الدخل متجاهلا مجموع الأمكانية الأقتصادية الوطنية، بينما يتركز فقراء العالم في الدول واطئة الدخل. ولذا فأن اعادة الأعتبار للتنمية الأقتصادية وعلى اساس التصنيع بالذات هو ما ينفع الفقراء. وتفيد البيانات ان دخل 40 بالمائة من السكان ذوي الدخل الأوطا ينمو بمعدل مقارب لنمو مجموع الدخل اواعلى منه في عدد لا بأس به من الدول، أي ان توزيع الدخل يتحسن او يبقى على حاله في الأقل، وفي دول اخرى يزداد التفاوت. وفي جميع الأحوال تبقى المصلحة العليا لشعوب البلدان النامية في التنمية الأقتصادية، ولا تنفع الدعوات لأعادة توزيع الدخل لوحدها في الأستجابة للمطالب المشروعة للفقراء.
وبعض البلدان النامية انتهجت سياسات، جهلا او عمدا، تجاري مخاوف الدول الغنية والمتقدمة من النهضة الصناعية في العالم النامي، وتشاطر الغرب القلق بشأن التلوث والأستدامة البيئية. بينما على الجزء الغني والمتقدم في العالم تحمل اعباء استدامة البيئة بحكم انتفاعهم من الطبيعة ولمدة طويلة من الزمن اضعاف البلدان النامية.
ولا يخفى على المتابعين كيف دأبت مؤسسات اوربية وامريكية واخرى دولية على صرف الأذهان عن النمو الأقتصادي منذ انهيار الأتحاد السوفيتي بحجة العناية الشاملة بالانسان ، ومن نتائج تلك السياسات الدولية تراجع حماس الكثير من حكومات البلدان النامية للتصنيع. فلقد طغت شعارات الحوكمة والمشاركة والشراكة والترويج لمثل الليبرالية الغربية بواجهة الحقوق المدنية والسياسية والدفاع عن المرأة والطفل …. الى جانب اقتراح المشاريع المايكروية والصغيرة، وكأن البلدان المتخلفة لا يعوزها سوى المزيد من الدكاكين والبسطات بحجج شتى، والعراق اخذ حصتة وأكثر من هذا الصخب .
ان مجموع قيمة الناتج من السلع والخدمات النهائية، والذي يسمى الدخل العالمي ، يتولد باشتغال الجهد البشري على الطبيعة: نظام الطبيعة وقوانينها الموضوعية ومواردها من ارض ومياه وهواء وما في باطنها. وهذه الطبيعة بمجموعها لا يمكن تجزئتها ، كما ان النطاق الطبيعي لعملية الأنتاج هو العالم باسره لأن الحدود الجغرافية – السياسية للدول هي ليست حدودا لنظام الأنتاج . وفي نفس الوقت ان الطبيعة هبة الله سبحانه وتعالى للبشر اجمعين ، لكن البشر تغالبوا وتحاربوا وتظالموا وكان الضعغاء منهم ضحية الشراسة والعدوان. ان ضمان المستوى المعيشي اللائق للضعفاء ليس منة عليهم من احد انما هو حقهم الذي لا ينازع وليس من العدالة ان يقال لهم انتم لا تعملون او لا تستطيعون كما نحن.
والفقراء لا يتمكنون لوحدهم الافلات من شرنقة موقعهم في النظام الأقتصادي واستلابهم في التوزيع الأولي للدخل، يتوزعون على مهن واطئة الأجر او انشطة تبخسها بنية الأسعار النسبية. وتنتظمهم بنية من العلاقات الاجتماعية والسياسية والقيم تحبسهم في وضعهم. وهم ايضا ينتشر في اوساطهم العوق البدني بالولادة او الامراض الوراثية …وسواها. ولا تعترف الادبيات التي تناولت الفقر والحرمان بالتفاوت بين القدرات البشرية التكوينية او في النشاة الأولى كي لا توظفها النزعات الفاشية والعنصرية لأهداف اخرى، فنجد التركيز يدور حول المهارات القابلة للأكتساب بالتعليم والتدريب، او تفسير الفقر في نظام الملكية والسوق والسياسات الأقتصادية للدولة … وهذه جميعها تسهم في صناعة الحرمان لا شك في ذلك. وخلاصة الأمر ان الأفراد يوظفون قوتهم بجميع عناصرها وهي متفاوتة كثيرا في التدافع على الأنتفاع من نتائج تفاعل الجهد البشري مع الطبيعة دون ما يكفي من الضوابط التي تنطلق من شراكتهم اصلا في خيرات الأرض.
ومن المعلوم ان البطالة ليست هي السبب الوحيد للفقر فكثير من الفقراء يعملون بمشقة بدنية ونفسية ولا يكسبون ما يكفي لمعيشتهم واطفالهم، لأن الدخل لا يتوزع حسب الجهد بل تبعا لآليات معقدة تنخرط ضمنها مهارة الأنتزاع ومختلف اساليب القوة الناعمة والخشنة خاصة في البلدان النامية.
ان البؤس والشقاء كان في القرون الماضية يطال اغلب الناس إلا قليلا منهم ولقد ساعد التقدم التقني والاقتصادي كثيرا في التخفيف من عناء البشر، لكن مئات الملايين لا زالت حياتها عذاب. وربما اصبحنا على مشارف نهضة اخلاقية لتبدا البشرية تاريخا آخر. ان مما يؤخر ولادة العالم الجديد الثقافة النخبوية الموروثة، والتي مهما تملقت الجماهير تبقى في ضميرها لا تؤمن بالمساواة بين الناس في حق الحياة والعيش الكريم، بل تصنفهم طبقات، وتغسل ادمغة المضطهدين والبؤساء ليتغنّوا بامجاد ألأسياد المتخمين.