حقيقة القدرة على تحريك عجلة الاقتصاد بالتركيز على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

 
مجدى عبد الهادى
 
يتعلق الغريق بقشة تنقذه من الغرق ، ويلهث العطشان التائه خلف سراب يلوح لناظريه الموهومة بالماء المُرتجى ، وهكذا تفعل الأمم المأزومة والدول التائهة في معارج الزمن العاجزة عن مواجهة تحديات الواقع ، تحسب كل لائحةً في سماوات الوهم أملاً ينقذها من مأساتها ويقيلها من عثرتها .
وكم هى كثيرة تلك الأوهام التي تصدّرها المنظمات الرأسمالية الدولية للدول التي يسمونها نامية تأدباً ، المتخلفة حقيقةً ، والتي للآسف لم يتعلم أغلبها حتى اليوم من تجاربه الأليمة مع تلك المنظمات ، رغم أكثر من أربعة عقود من التجارب الفاشلة والتوصيات الحمقاء والأزمات الأليمة !
وإحدى التوصيات الرائجة هذه الأيام ، والتي تتداولها الكتابات الاقتصادية العلمية كما الصحفية ، هى التوصيات بدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة كقاطرة للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ومكافحة الفقر ، مُستندةً لمبررات ساذجة أساسها النسبة العددية لتلك المنشآت ضمن إجمالي عدد المنشآت الصناعية ، ومساهمتها في إجمالي العمالة الصناعية ، فحسب بيانات  دراسة تقنية بنكية مثلاً تشكّل المشروعات الصغيرة والمتوسطة على مستوى العالم حوالي 90 % من إجمالي عدد المنشآت الصناعية ، وتسهم في التوظف بما يتراوح بين 50 و 60 % من القوى العاملة . .
ولا ننكر بالطبع أهمية أي نشاط إنتاجي ، خصوصاً إذا كان نشاطاً صناعياً سلعياً في اقتصاد سيطرت الأنشطة الخدمية على أكثر من نصف ناتجه المحلي الإجمالي ، إلا أن هذا لا يعني التسامح مع ترويج الأوهام حول إمكانية أن تكون تلك النوعية من المشروعات بذاتها “قاطرةً” للنمو والتوظف ومكافحة الفقر ، أي المحرك الرئيسي القائد ، كما تزعم المنظمات الدولية التي لا تشير التجربة التاريخية معها أنها ترجوا لنا خيراً !
وأول المآخذ على هذه الرؤية هو “شكلانيتها الساذجة” ، فإضفاء أهمية كبيرة على هذا النوع من المشروعات لمجرد نسبته العددية ضمن إجمالي المنشآت هو نوع من الحماقة الرقمية ؛ فبداهةً من الطبيعي والمنطقي رياضياً أن تكون الكيانات الصغيرة أكثر عدداً بكثير من الكيانات الضخمة والعملاقة ، فهذه بداهة إحصائية أكثر منها ظاهرة اقتصادية ذات معنى في ذاتها ؛ ما يجعلها مسألة طبيعية بغض النظر عن مستوى تطور الاقتصاد نفسه ، بل إن منطق تطور الاقتصاد إنما يعمل في الحقيقة ضد هذه الظاهرة ؛ فالتغيّر الهيكلي الذي يمثل الوجه الكيّفي للنمو الاقتصادي يفترض الاتجاه للكيانات الضخمة ولهيمنتها على مُجمل الاقتصاد في سياق تعمق عمليتي التركّز والتمركّز الرأسمالي ، التي يجمع علي ضرورتها قطبي علم الاقتصاد ، من يمين كلاسيكي ويسار ماركسي !
ثاني المآخذ هو “افتراض استقلالية تلك المشروعات فيما تحققه من ناتج وعمالة” ، فكونها تساهم بنسبة غير هيّنة في كلٍ منهما لا يعطيها أهمية في ذاتها ؛ بحيث يمكن التخطيط لتنميتها في استقلال عن نمو المنشآت الصناعية الضخمة ؛ لأن غالبها الأعظم في الحقيقة إنما تعمل في خدمة / ولتغذية / وبتمويل تلك المشروعات الضخمة ، فإذا تعثرت الأخيرة أو لم تنم بالدرجة الملائمة ؛ فإن تلك المشروعات الصغيرة غالباً ما تخسر وتتقلص ؛ وهو ما يعني أن ما تحققه تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من ناتج وعمالة ليس نتاجاً مستقلاً لها تحققه بمعزل عن المشروعات الضخمة ، بل هو يتحقق كنتاج لنشاط الأخير وفي ارتباطه بها ؛ ما يكشف وهم أن تكون قاطرةً ، أي محركاً مستقلاً ، لأي شئ في الاقتصاد !
مآخذ ثالث يتمثل في “خطأ قياس اقتصادات متخلفة كالاقتصاد المصري على اقتصادات متقدمة كالاقتصاد الياباني أو حتى الصيني” ، انطلاقاً من الانخداع بمعيار شكلي كحجم المنشأة عمالياً ، والوقوع في فخ تجاهل مستوى تطور الاقتصاد بمُجمله وتلك المنشآت نفسها ؛ فلا وجه للمقارنة ولا سبيل للقياس بين منشآت صغيرة ذات طابع حرفي متخلف ، أي غير رأسمالي أساساً ، ومنشآت رأسمالية صغيرة متطورة أساس صغر حجمها عمالياً هو كثافتها الرأسمالية واعتمادها للتكنولوجيات المتطورة !
أما المأخذ الرابع فجوهره تجاهل أن “الاعتماد على تلك المنشآت إنما يعبر عن اليأس من التنمية لا السعي لها” ؛ فالتنمية بمعناها الحديث إنما تتحقق بالتعبئة المُمركزة لرأس المال ، والتراكم المُستمر له ؛ لتحقيق أعلى نتاج مُتنامي ممكن ؛ بما يوسع جانبيّ السوق من عرض (سلع وخدمات) وطلب (استهلاك واستثمار) ؛ وهو ما لن تقوده سوى المشروعات الرأسمالية الضخمة ، لا الصناعات الصغيرة الحرفية ولا المتوسطة مُنتجة السلع الوسيطة في الغالب ، وهكذا فالتركيز على الأخيرة إنما يدفعه السعي للتوفير الإجرائي العاجل لفرص عمل ، عجز النظام الاقتصادي القائم عن توفيرها ؛ نتيجة لنموه المُشوه العاجز عن تحقيق التنمية الاقتصادية بنمط تطورها الطبيعي ، الذي يشمل تراكماً كمياً لرأس المال في إطار تغيّر كيفي في التنظيمات الإنتاجية ، يجمعهما الاتجاه للتركّز والتمركز الرأسمالي ؛ بما يرفع الإنتاجية والكفاءة ، ويحقق التوظف كنتيجة طبيعية بشكل مباشر أو غير مباشر .
يرتبط بما سبق مأخذ خامس ، هو “تصوّر إمكانية مكافحة الفقر بمعزل عن معالجة قضية الإنتاجية” ؛ فواحدة من أكبر مشكلات الاقتصاد المصري هى ضعف الإنتاجية به ؛ نتيجة – مع أسباب أخرى – لغلبة المنشآت المتوسطة والصغيرة الحرفية عليه ، بما تتميز به من ضعف رأسمالي مادي وبشري ؛ وهو ما يعني أن ما ستوفره تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من فرص عمل ستكون فرص عمل رديئة منخفضة الإنتاجية والأجر .
أما سادس المآخذ فهو “تجاهل مسألة التخطيط الضرورية لأي إستراتيجية تنمية جادة” ، والذي يصعب ويكاد يستحيل لاعتبارات إدارية واقتصادية عديدة مع ذلك التوجه نحو تسييد ذلك النمط القزمي من المنشآت الصناعية ، فإذا كانت الحكومة المصرية عاجزة عن توجيه بضعة منشآت ضخمة احتكارية – وهذه قضية أخرى – ولو بتخطيط تأشيري لما فيه صالح الاقتصاد القومي ، فهل تستطيع توجيه وإدارة مئات آلاف وحتى ملايين المنشآت المتوسطة والصغيرة ؟!
المأخذ السابع والأخير هو “التعامي عن أن الطريق الوحيد لنجاح تلك الإستراتيجية هو تعميق التبعية للمنشآت الرأسمالية الدولية” ؛ فالإمكانية الوحيدة لتوفير طلب حقيقي على منتجات تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة هو الارتباط الذليل باحتياجات الشركات متعدية الجنسيات ، والذي يغدو بحد ذاته حلماً لا يتحقق سوى برفع مستوى كفاءة وتأهيل تلك المشروعات ؛ ليصبح السعي للتبعية – الشر الأعظم بالنسبة لأي اقتصاد – منتهى أملنا ومبلغ سعينا !
وهكذا لا تعدو إستراتيجية دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة أن تكون سراباً يحسبه الظمآن ماءً ، فيما هو سراب ووهم لن نجني من ورائه سوى مزيد من الفقر والمذلة محلياً ودولياً !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى