أحوال عربيةإقتصادفي الواجهة

تأثير الأزمة المالية على البنوك و المصارف الاسلامية

قراءة في سطور الأزمة المالية وتأثيرها على المصارف الإسلامية

إخلاص باقر النجار

تُعرّف الأزمة بأنها مرحلة حرجة تواجه المنظومة المالية ، ينجم عنها عدم استقرار في النظام الأساسي لهذه المنظومة بسبب الإنخفاض الحاد في أسعار الأصول ، والأصول أما مادية تستخدم في العملية الإنتاجية مثل الآلات والمعدات والعقارات، وأما مالية أي حقوق ملكية مثل الأوراق المالية للأصول المالية ،ومنها العقود المستقبلية للنفط أو للعملات الأجنبية مثلاً، ثم يتبعها إنهيار في المؤسسات ومؤشرات أدائها لتمتد إلى القطاعات الاقتصادية كافة ، وإذا كانت الأزمة المالية لا تتعلق في بداية الأمر إلا بالأسواق المالية ، فإن تفاقمها يؤدي إلى آثار ضارة بالاقتصاد الحقيقي كتضييق الإئتمان وانخفاض الاستثمار،وبهذا فالأزمة تشير إلى مجموعة الاختلالات الأساسية في الأسواق المالية التي تتميز بالانخفاض الحاد في أسعار الموجودات للعديد من المنشآت المالية وغير المالية ، كما أنها تؤدي الى زيادة مخاطر عدم السداد لتعدد إصدار وتداول الأصول المالية المتعددة دون إرتباط بينها وبين الاقتصاد الحقيقي ، أما من الناحية الإقتصادية فتعرف الأزمة بنتائجها ومظاهرها في انهيار البورصة وحدوث مضاربات نقدية كبيرة ومتقاربة وبطالة دائمة ، وفشل عدد كبير من المؤسسات المالية وغير المالية مع انكماش حاد في النشاط الاقتصادي الكلي نتيجة إنفجار فقاعة سعرية ، أي بيع وشراء كميات كبيرة من الأصول المالية أو المادية كالأسهم أو العقارات بأسعار تفوق الأسعار الحقيقية ، كما وقد تحدث الأزمة بسبب تدفق مفاجئ لرؤوس أموال ضخمة للداخل يرافقها توسع مفرط وسريع في الإقراض دون التأكد من الملاءة الائتمانية للمقترضين وهناك فرق ما بين الأزمة الاقتصادية والأزمة المالية، فالإقتصادية تبدأ من جراء انهيار لأسواق المال وترافقها ظاهرة تدهور في النشاط الاقتصادي تتميز بالبطالة والإفلاس وإنخفاض القدرة الشرائية ، أما المالية فتعني أزمة تمس أسواق المال وأسواق الائتمان، وقد تنتشر لتتحول إلى أزمة إقليمية وعالمية تضر بالاقتصاد الحقيقي وتضيق الائتمان وتخفض الاستثمار .
وإن المتتبع للأدلة الشرعية المرتبطة بإدارة المال وتنميته وحفظه يجدها في قول الله تعالى : {{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴿٣٩﴾ }} سورة فاطر،وقوله تعالى : {{ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿٧﴾ }} سورة الحديد،وقوله تعالى : {{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (33) }} سورة النور ، وإن الله تعالى خلق الإنسان وتكفل برزقه قال الله تعالى : {{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿٦﴾ }} سورة هود ، وقال تعالى : {{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ إسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٢٩﴾ }} سورة البقرة ، ولما كان خلق بعض هذه الأشياء فوق طاقة البشر للتعامل معها والإستفادة منها فإن الله تعالى إتبع سنة الخلق بسنة التسخير ، قال تعالى : {{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿١٣﴾ }} سورة الجاثية ، وبعد خلق الأشياء وتسخيرها طلب من الإنسان السعي لإجتذاب الرزق والإستفادة من سنتي الخلق والتسخير ، قال تعالى : {{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴿١٥﴾}} سورة الملك ،وإن المتتبع لمجريات الإمور على وفق تلك السنن سيلاحظ أن الله تعالى وضع سننا في الكون لإجتذاب الأرزاق وأن من أخذ بهذه السنن حصل على حظ وافر في الرزق ، ومن تكاسل وعجز ولم يأخذ بها ، بقي الفقر رفيقا له ، فالفقر ينجم عن عدم القيام بإستغلال الموارد الإقتصادية ، والإبتلاء كان بسبب مخالفة تلك السنن ، قال تعالى : {{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴿٤١﴾ }} سورة الروم،والمتأمل في مجريات الأزمات سيجد ذلك في قوله تعالى:{{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٦٣﴾ }} سورة النور ، وإن تعاطي الربا وممارسة الغرر هي من قبيل المخالفة لأمر الله تعالى ، ذلك لأن الربا يمثل الزيادة في المال بدون عوض والذي يأخذه المرابون من إقراضهم للناس قد ذمه الله تعالى ومحقه ، ومن ثم فإن التعاملات الربوية تنتهي بالمحق والزوال ، وهي سنة من سنن الله تعالى في الكون .
وتتمثل الأزمة المالية في الأزمات المصرفية التي يجابه فيها المصرف زيادة كبيرة في طلب سحب الودائع التي تكون فيها الإلتزامات الموجودة في المؤسسات المالية تفوق قيمة الأصول المقابلة لها لدرجة أن يكون دخل النظام المصرفي غير كافي لتغطية نفقاته ، بمعنى إنه لا يملك الأصول الكافية لمواجهة طلبات المودعين في لحظة ما ، وتسمى هذه الحالة في الأدبيات المصرفية بأزمة السيولة ، فضلا عن أزمة سعر الصرف المتمثلة في تغير أسعار الصرف بحيث تؤثر على مقدرة العملة على أداء مهمتها كوسيط للتبادل أو مخزن للقيمة ،وتحدث تلك الأزمات عندما تتخذ السلطات النقدية قراراً بتخفيض سعر العملة نتيجة لعمليات المضاربة والمثال الواضح في هذا السياق هو أزمة شرق أسيا ، وقد تحدث العديد من الأزمات في أسواق المال نتيجة ما يعرف اقتصادياً بظاهرة الفقاعة ، التي قد تنشأ عندما تصب أموال أكثر مما تبرره عوائدها كما يحدث في عملية المضاربة ، عندما يتم بيع وشراء الأصول بحثاً عن الربح المتوقع وليس بناء العائد المنتظم لتلك الأصول ، تستمر بالتضخم في حجمها مع تزايد أرباح أصل معين نتيجة سعره وليس نتيجة قدرته في توليد الدخل وفي هذه الحالة يصبح انهيار سعر الأصل ، مسألة وقت عندما يكون هناك اتجاه قوي لبيع ذلك الأصل فتنهار الأسعار في نفس القطاع أو في قطاعات أخرى ، وأخيرا أزمة الديون التي تعد من الأزمات الكبيرة التي تؤدي إلى التأثير في القطاع المصرفي بخاصة والقطاعات الاقتصادية بعامة ، وترتبط أزمة الديون بتوقف المقترض عن سداد إلتزاماته مما يؤدي إلى هبوط حاد في تدفق رأس المال إلى الداخل .
أما عن الجانب الإقتصادي فقد نظمه الإسلام تنظيماً دقيقاً فعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى المدينة المنورة شكا إليه أصحابه جور اليهود في التعامل مع العرب والمسلمين في السوق الذي كان يقع في حي لليهود ، فقالوا له : يا رسول الله إن اليهود يفرضون علينا الإتاوات في سوقهم ، فأخذهم إلى أرض خارج المدينة المنورة ، وضرب برجله على الأرض وقال : ( هذا سوقكم فلا تسامون فيه ولا تفرض عليكم الإتاوات ) ، وعندما بدأ بتشكيل هيكل الدولة في المدينة المنورة ، بدأت تنزل آيات الأحكام ، وقد وضعت مجموعة من الأحكام في الجانب الإقتصادي كوضع نظام الحسبة أي مراقبة السوق وهو نظام المواصفات والمقاييس وهو نظام يقوم على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم بيوع الربا ، والإحتكار وبيوع الغرر، وإن الفرق الأساسي بين عمل المصارف التقليدية والإسلامية هو إن التقليدية تعتمد على المتاجرة بالنقود بينما تعتمد الإسلامية على المتاجرة بالسلع ويترتب على ذلك إن النقود لا تلد نقوداً، بينما السلع تلد سلعاً ، كما يترتب على ذلك إن المتاجرة بالنقود تدخل في الإقتصاد الوهمي ، بينما تدخل المتاجرة بالسلع في الاقتصاد الحقيقي،وإن الذي جنب المصارف الإسلامية التأثر المباشر بالأزمة هو عدم تعاملها بالربا والغرر بينما نجد إن المصارف التقليدية أغلب عملياتها تتم عن طريق الإقراض المباشر للنقود مقابل الفائدة ، كما أنها تتعامل بالغرر في المشتقات المالية والبيوع الآجلة وبيع الرهونات العقارية وبيع الديون أي بيع الكالئ بالكالئ ، وهي العمليات التي كانت أساس حدوث الأزمة الإقتصادية العالمية ، وتُعدُّ المشتقات المالية والبيوع الآجلة أساس الإضطراب في البورصات ، فالمشتقات المالية والبيوع الآجلة تنطوي على غرر فاحش من وجهة نظر الشريعة الإسلامية .
وان من أبرز دواعي الأزمة المالية أزمة الرهون العقارية المتمثلة في شراء الأفراد للعقارات باستخدام القروض ، وعندما تزداد أسعار العقارات يحصل مالك العقار على قرض ثاني جديد مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية،وعندما تتجمع لدى المصرف محفظة كبيرة من الرهون العقارية يلجأ إلى استخدامها لإصدار أوراق مالية جديدة يقترض بموجبها من المؤسسات المالية بضمان المحفظة،وتستمر العملية بحيث يولد العقار الواحد طبقات متتالية من الإقراض فيزداد الخاطر ، وقد ساهمت عملية التوريق والتعاملات المستقبلية في خلق ما يسمى بـفقاعة الإسكان ، فضلا عن التوسع في إصدار الأصول المالية وزيادة حجم المديونية ، ولهذا توسع الاقراض في الولايات المتحدة لأكثر من ستين ضعفاً من حجم رؤوس الأموال،والزيادة في الإقراض تعني مزيداً من الأرباح والمخاطر في نفس الوقت،وقد أدى التوسع في الإقراض إلى ظهور المشتقات المالية التي يمكن عن طريقها توليد موجات متتالية من الأصول المالية،كما أن ضعف الرقابة والإشراف لمصارف الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية والرقابة على المشتقات المالية والرقابة على الهيئات المالية التي تصدر شهادات الجدارة الائتمانية،تشجع المستثمرين على الإقبال على الأوراق المالية،وأن توسع وانتشار صناديق التحوط خلق سيولة نقدية ومكاسب هائلة،ولا تخضع هذه الصناديق للرقابة وتعمل على الاقتراض من مؤسسات مالية بأسعار فائدة منخفضة ثم تستثمر هذه الأموال مقابل فوائد مرتفعة وبذلك تحقق أرباحاً من الفروقات وهذا ما يسمى بالرفع المالي،وهو بمثابة استثمار في الأوراق المالية وعملية تحويل القروض إلى سندات يمكن تداولها في الأسواق المالية ، وهكذا نرى بأن ضعف الرقابة والإشراف يمثل العامل الآخر الذي شجع على التوسع في المديونية .
وصفوة القول هو أننا نرى مؤشرات المصارف العالمية ما زالت تصعد وتهبط وما يكسبه المستثمر في الصباح يخسره في المساء وفي أحسن الأحوال تبقى مستقرة دون تغيير، وقد أثبتت نتائج الأزمة المالية العالمية أن المصارف الإسلامية كانت أقل تأثراً بالأزمة من المصارف التقليدية لعدم تعاملها بالفائدة،بالرغم من أن المصارف الإسلامية تزيد عليها في تقديم الخدمات الإجتماعية بتجميع الزكاة وتوزيعها والقرض الحسن،وقد ضبطت الشريعة الإسلامية عمليات التعامل بالمال وعدته مال الله تعالى وأن الإنسان مستخلف فيه، وأجرت على هذا المال الأحكام الشرعية المتمثلة بقاعدة الحلال والحرام،والكراهية والإستحسان والوجوب،كما جعل حفظ المال من مقاصد الشريعة الخمسة في حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل،حيث يفرض الإسلام العمل على القادر لتوفير حاجاته الضرورية،والمعونة لغير القادر على العمل ، وحرم حصر الأموال في يد فئة محددة وحرم كنزها، وأوجب تداولها بين الناس لكي تصل إلى شرائح المجتمع كافة،كما وفرض الإسلام انموذجاً محدداً من الشركات المضاربة والمفاوضة والأبدان والوجوه مانعاً الجهالة بين الشركاء كما هو الحال في الشركات المساهمة، محرماً على التاجر بيع ما لا يملك وحرم الربا والغرر والاحتكار،ويخضع الجميع في هذا الإطار لرقابة مؤسسات الدولة عبر ولاية الحسبة والقضاء والمظالم والدواوين المختلفة ذات العلاقة،وبالتالي فأنّ الأزمة الاقتصادية العالمية تكمن في نظرة الرأسمالية للاقتصاد ومن قبل للإنسان نفسه، ولذلك فإنّ إيقاف دورة الأزمات الناتجة عن الرأسمالية لن يتحقق ما لم يتم تغييرها بشكل جذري وكامل.

أ.د.إخـــلاص باقـــر هـاشـم النجـــــار
العراق / جامعة البصرة / الإدارة والإقتصاد
قسم العلوم المالية والمصرفية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى