إسلامثقافة

بومدين بوزيد يكتب ..ابن خلدون وأحمد المغيلي (أنزجمير) رحلة المشيخة والاعتزاز بالانتماء

رحلة الشيخ أحمد المغيلي صاحب مدرسة أنزجمير بتوات إلى القاهرة والتي وثّقها صورة وحركة مريده والمخلص له الشّيخ زهير قزان، الشّاب الفقيه المالكي الذي جَسّر توات والجزائر بمصر، وإذا كان في تاريخ الشّعوب الإسلاميّة والآسيوية طريق الحرير في التّجارة والاقتصاد والسياسة فإنّ خليل ين إسحاق المصري صاحب “المختصر” الزمردة الخضراء التي تنافس في نيلها المصريون والمغاربة والأفارقة عبّد طريقاً في الفقه المالكي، فقد رَحل “مختصره” إلى الجزائر وتبارى كبارُ العلماء في شرحه، وحفظته الصّدور وعاد إلى المصريين شُروحات أشبه بجواهر نفيسة، وكانت الإجازات متبادلة وارتقى بعض الجزائريين في الأزهر أعلاماً كالنّجوم تضاهي المشارقة وقد تفوقهم، فقد اعتمد الأزهريون أقوال الشيخ محمد مصطفى الرّماصي (ت 1724) (دفين رماصة-ولاية معسكر) ويستشهدون به بصيغة اسمية رخيمة وفيها الدلع (قال طفى … اي مصطفى )، تتلمذ على الخرشي والزرقاني وفاقهما واشتهر بحاشيته الكبرى على التتائي في شرح مختصر الشيخ خليل، وكان معتداً بعلمه واجتهاده، فأجاب يوماً تلميذاً معجباً فقط بآراء المشارقة (مثل الذين يتمشرقون اليوم في معرفتهم الدّينية) “وأراك أيّها السّائل تحتفل بكلام عبدالباقي الزرقاني، وذلك بمعزل عن التحقيق، لأنّ شرحه وشرح الخرشي لا نكترث بهما في بلادنا، لعدم تحقيقهما، وعمدتهما كلام علي الأجهوري وهو كثير الخطأ”•
عبارة (في بلادنا) فيها الاعتداد بعلمائنا والخصوصية والتميّز، لقد كان زامر الحيّ يُطرب، وبنفس الرّوح (أنا الشّمس في الأفق منيرةٌ) كان الشيخ بوراس الناصري الذي كان له مختصر خليل مثل “اللقمة في الفَم” وهي دعوة وليّ له وهو في طريقه نحو “مازونة –ولاية غليزان” التي كانت بعبارتنا اليوم “كلية عالمية في الفقه” وكان القضاء لا يتولاه في شرق المغرب الأقصى إلا من تكوّن في مازونة، وكان لقب “المازوني” لقباً علمياً فخرياً مثل قولنا “فلان أزهري” أو “زيتوني”، أبوراس سوف يتحدّث عن نِعم الله عليه (سيرته الذاتية)، عن رحلته إلى مصر وكيف أجاز من طلبها في الفقه المالكي بل في مذاهب فقهية أخرى فقد كان فقيه المذاهب الأربعة.
تذكّرنا لمحاً خفيفة ونحن نتابع رحلة شيخٍ من كبار شيوخ المالكية اليوم في الجزائر، كان الاحتفاء به أعراساً وتحفاً علمية ومجالس روحانيةـ، فيها الاعتراف والاحترام والتقدير وكانت عبارة “أجَزتُك” شهادات علمية إنسانية لا تحتاج إلى مظاهر متكلّفة أو مجاملات زائفة، وهو في ذلك المغيلي يحيي خُطى الجدّ الطّيني والرّوحي والقلبي الإمام محمد بن عبدالكريم المغيلي الذي جالس المصريين واعترف لهم واعترفوا له ولم يسلَم من قوّة حجته جلال الدين السّيوطي الذي كان يَعتبر نفسه مجدّد القرن وأقحمه بالمنطق والبرهان، رَحلت معه جواهر علومنا الدينية وسَبحة شيخه عبد الرحمان الثعالبي وأوراد عبدالقادر الجيلاني نحو بلاد التّكرور والسودان ونيجريا وغرب إفريقيا.
في رحلتي مغيلي القرن الخامس عشر ميلادي ومغيلي القرن الواحد والعشرين أشواقٌ ومجالسٌ ومناظرات وإجازات وآثار وتثاقف لكن ما يميّز هذه الرحلات قِيمٌ نفتقدها اليوم في مدراسنا وجامعاتنا “الاعتراف” و”تقدير المشيخة” و “النِّديّة” في العلم والمعرفة، وما يُبهر أكثر اللباس الجزائري، وقد رفض ابن خلدون حين استقر بالقاهرة وعُين قاضياً أن يلبس اللباس الرسمي للقضاء واستمرّ لابساً برنوسه المغاربي، وفي مصر قرأ عليه المقريزي وابن عمار وابن حَجَر العسقلاني وهم ثلاثة نجوم في العلم.
كانت عودة الشيخ المغيلي إلى توات المواتِية للعلم واطمئنان الرّوح، مُبهرة في استقبال من مريديه وأحبابه في صفوف هادئة حفاة يمشون على رمل فيها الصّفاء والطُّهر ورمزيّة المطلق ولكن على يمينهم يُسلِّمون أولاً على شيخ شيوخهم الشيخ الحسان الأنصاري –قدّس الله سرّه- ونحن نؤمن بما نقول ولا نبتغي وصولاً دنيوياً- ثم بخطوتين إلى الأمام على يسارهم الخليل العائد من مصر الشيخ أحمد المغيلي مُقبِّلين اليد التي أنعمت عليهم بالمعرفة والسّر، وتقبيل يد الوالدين والشيوخ في بعض مناطقنا تقليدٌ قديم، كما هو تقبيل الرؤوس في جهات أخرى، إنها “رحْلة سيْر روحي فيها المشيخة والاعتراف والاعتزاز بالمذهب والانتماء، هكذا صاحب “المختصر” يعيش أزمنة وفي أمكنة لم يبرحها رغم تلاطم المذاهب والأهواء والنِّحل، ويسكن أرواح شيوخ يجدّدون عهْد المشيخة واحترام أصولها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى