ثقافة

الهرمسـية والغنوصية

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

يُعتبر «هرمس» أكثر الشخصيات غموضاً في التاريخ، وقد تنازعت أمم كثيرة على نسبه إليها، فهو عند المصريين «تهوت» إله الحكمة، وعند اليونان هو الإله «هرمس»، وعند اليهود والمسيحيين هو النبي «أخنوخ»، وعند المسلمين هو النبي «إدريس»، وعند المندائيين هو «بوذا سف»، وعند الفرس هو الإله «أهورامزدا». فيما يقول البعض: إنه شخصية أسطورية، وإن فلسفته تم تدوينها فيما بعد بوساطة كتاب وحكماء عديدين، بمعنى أن الهرمسية مثلت العقل الجمعي لشعوب العالم القديم.

والهرمسية مجموعة أفكار ومعتقدات ذات هيكل ميثولوجي، تجمع بين الدين، والفلسفة، والعلوم، يلخصها مثلث الحكمة الشهير المكون من الخيمياء (تحويل العناصر الرخيصة إلى ثمينة)، والسيمياء (طقوس تحضير الأرواح)، والتنجيم (تأثير حركة الكواكب على حياة البشر)، دُونت نصوصها بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وفيها يتحاور «هرمس» مع الإله الأعلى «بويمندرس»، الذي لا يحده وصف، ولا تدركه العقول (حسب هرمس)، وهو إله متعالٍ عن الكون، ولا يتدخل في شؤونه، وقد انبثق عنه عالم النور. ومع الإله الثاني، الصانع الذي خلق الإنسان والعالم المادي، ومنه نشأ عالم الظلام. وهنا يضع «هرمس» نفسه كوسيط بين الإله والبشر، ثم يتحدث عن الخلاص بتحرير الجسد من قيوده المادية، وتحرير الروح من سجنها الجسدي.

وقد أثرت الهرمسية على إطلاق النزعة العلمية في عصر النهضة في أوروبا، وعلى ظهور الحركات الباطنية والسرية مثل الماسونية. كما أثرت على التصوف الإسلامي (العرفاني)، وعلى فلسلفة إخوان الصفا.

وتبدو الهرمسية كمرحلة بين الأسطورة والفلسفة، وجوهرها يدور حول أصل النفس ومصيرها. ويلتقي التصوف الهرمسي مع التصوف البوذي، والاثنان يسعيان للوصول إلى الإله الموجود في الإنسان وليس في خارجه. حيث يتماهى الإنسان مع الإله، ويتحرر من جسده، ويعود غريباً إلى العالم بهدف إكمال ولادة الألوهة، فيولد من جديد، ويحوز جسداً خالداً، وهذا الكلام يتفق مع رسائل الرسول بولس. أو أن تعي النفس حقيقة أصلها وطبيعتها الإلهية بوصفها جزءاً من الإله الخالق، فيشعر الإنسان أن الله قد حل فيه، فيصبح هو نفسه «محراب الله» (روح الله ساكنة فيكم، الرسول بولس). أو كما قال الحلاج (أنا الحق)، وكذلك قول ابن عربي. حيث يصل الإنسان إلى مرحلة الكشف والإشراق (وقد سمّى التصوف الإسلامي هذه الحالة بوحدة الوجود)، وفي الهندوسية والبوذية يصل إلى مرحلة الاستنارة، أو «النيرفانا»، هي حالة وجود نظرية حيث يهرب الإنسان من المعاناة والألم، ويدرك وحدته مع الكون.
ويقول خزعل الماجدي أن الفلسفة الهرمسية أثرت على العصر الهلنستي بأكمله، وكانت الأساس الذي بُنيت عليه الغنوصية الأفلاطونية. حيث في العصر الهلنستي اختلطت ثقافات الغرب بتراث الشرق فظهرت الهرمسية من جديد، ويرى البعض أن كتابات فيلون السكندري، ونصوص زرادشت، وأفكار أفلوطين وفيثاغورس، المأخوذة عن مدونة هرمس ومثلث الحكمة قد مهدت لظهور الغنوصية كنظام روحي جديد سيكون له تأثيره الكبير في ظهور المسيحية. وحسب الماجدي، كان يوحنا المعمدان معلماً ونبياً معمدانياً خارجاً على اليهودية الكلاسيكية، يتزعم فرقة أسينية، وقد أثَّر على نمو الفكر الغنوصي. فظهرت الغنوصية المسيحية في بدايات القرن الأول الميلادي. ويتحدث فراس السواح عن مؤثرات غنوصية واضحة في تعاليم ورسائل القديس بولس.

والغنوصية كلمة يونانية، وتعني المعرفة، أو العلوم الخاصة بالأمور الروحية أو الإلهية. وهي خليط من الأفكار الفلسفية الدينية الهلينية، والثنائية الفارسية، واليهودية، والمسيحية.

والفرق بين الهرمسية والغنوصية هو شمول الهرمسية على الفلسفة والدين والعلم، بينما الغنوصية تقتصر على الفلسفة الدينية حصراً، والهرمسية ذات طابع نظري، أما الغنوصية فقد تحولت إلى ديانات ومذاهب.

وخلافاً للرأي السائد بأن الغنوصية نشأت مع بداية المسيحية، يقول الماجدي: إن الغنوصية كفكرة كانت موجودة في الأديان الشرقية القديمة. ففي الدين السومري هناك الإله «دموزي» الذي ينزل إلى العالم السفلي في الخريف والشتاء، ويصعد إلى الأرض في الربيع والصيف، وبدورته السماوية الأرضية هذه يشكّل صعود ونزول الروح، والتي انبثقت عنها فكرة البدء والميعاد الهرمسية، والتي شكلت أساس الفكر الغنوصي.

وفي الزرادشتية نجد تمظهرات أخرى للغنوصية تتمثل في إله الخير والنور (أهورامزدا)، أي الإله الأعلى، وإله الظلام والشر (أهريمان) وهو الإله الأسفل، المعادل للشيطان في الديانات الإبراهيمية، ويدور بينهما صراع حتى ينتصر إله النور، وهذه الثنائية ستؤسس للفكر الغنوصي لاحقاً.
وفي الشرق الأقصى شكلت فكرة بوذا مصدراً من مصادر الغنوصية. واستلهم سيرة بوذا كتّاب سيرة السيد المسيح في غنوصية واضحة. وكل هذه المصادر كانت خيوطاً متناثرة للغنوصية الوثنية القديمة، لكن الصياغة الأولى لهذه الغنوصية الوثنية الشرقية جاءت على يد أفلاطون.
بدأت الغنوصية المسيحية في القرن الأول الميلادي، وازدهرت وانتشرت في القرن الثاني، ومن آبائها: «فالنتينوس» السكندري، والسوري «باسيليدس»، و»ماركيون»، و»سيمون».

شرحت الغنوصية المسيحية أصل ومصير الروح، بإسقاطها على عالم المادة، واعتبارها سجينة الجسد، الأمر الذي أدى لتأثّر الإله الأعظم بسقوطها، فأرسل المخلّص لكي يخلصها من هذا السجن، واتخذ هذا المخلص مظهر إنسان، لأن الإله لا يمكن أن يتحد بالمادة المرئية، واستطاع بهذه الطريقة أن يعلن للعارفين (الغنوصيين) أصلهم السماوي.

وعلى الرغم من تنوع مذاهب الغنوصية، إلا إنها تشترك في أن المعرفة تأتي عن طريق الإلهام، وبهذه المعرفة فقط نستطيع الوصول إلى إدراك وفهم مَن نحن، وما هو مصدرنا وأصلنا، وما الغاية التي نسعى إليها. ونستطيع الوصول إلى الخلاص من الأشياء الحسية التي تربطنا بالمادة، وبالتالي لا يصل الإنسان إلى الخلاص عن طريق الإيمان الذي يمنحه الله إياه في المسيح، بل عن طريق المعرفة التي تنير وترشد إلى الطريق الحقيقي، فلا خلاص عن طريق الإيمان.

وتؤمن الغنوصية بثنائية الخير والشر، وبوجود مملكة النور، التي يحكمها الإله السامي الأعلى، وقد خرجت منه آلهة متفاوتة الدرجات، وآخرها إله اليهود «يهوة». ومملكة الظلام أو المادة، والتي يحكمها إبليس. كما رفضت الغنوصية عقيدة الصليب باعتبارها لا تتفق مع لاهوت المسيح، ويقولون: إن من صُلب هو سمعان القيرواني الذي شُبّه لليهود.

تمكنت الكنيسة الرسمية من القضاء على الغنوصية وإتلاف كتبهم وأناجيلهم المنحولة، بيد أنه في العام 1945 عُثر عن طريق الصدفة على مخطوطات غنوصية مسيحية في «نجع حمادي» في صعيد مصر، تضم أناجيل منحولة، وكتب أبو كريفا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى