رأي

النّزوح وأثره الوخيم على واقع مداوروش

**

رشيد مصباح (فوزي)

كارثة بكلّ المقاييس في ما يسمّى اليوم بالمدينة، الحليم فيها أمسى حيرانا؛ تمرّ أمام هؤلاء الجالسين في الطريق وأمام المقاهي والمحلاّت، يراقبونك، بعيونهم؛ تخيطك من قمّة رأسك إلى أخمص قدميك. صارت حرفة يمارسها الجميع في هذه التي تسمّى الآن “مدينة”. كأنّا بأصحاب هذه العيون والأنظار لا شغل لهم سوى مراقبة الطّالع والهابط وتتبّع خطواتهم وعثراتهم. ويكأنّ أصحاب هذه العيون لا فكر لهم، ولا عقول يستخدمونها في ما يعود عليهم بالنّفع في الدنيا وفي الآخرة؟

بلدة عريقة مثل مداوروش بتضاريسها الثّري وتاريخها العريق تتحوّل إلى ما يشبه صحراء “وادي الموت” “أما راغوسا” جنوب ولاية نيفادا الامريكية؟ا

أين أنتم يا من قبلتم بتحمّل المسؤولية و انتخبكم الشعب؟

لم يعد لدى هؤلاء الفضوليين الفاضييّن من شغل آخر سوى مراقبة النّاس، و اجترار الكلام عن غياب الدولة وغلاء المعيشة. أصابتهم لعنة الغلاء؛ بالأمس كان الحديث عن البصل الذي تجاوز حد الخيال بسعره المرتفع، واليوم يتمحور الكلام حول الجزر”السنّارية” كما تسمى عندنا، والذي وصل ثمنه إلى مئتي دينار (200) دج، وغدا حكمه عند الله، وحده يعلم ما في الغيب؟ا

أعود إلى الوراء قليلا، لأحدّث نفسي عن قريتي العتيقة:

ــ ليست هذه هي “مداوروش” التي عرفناها في نهاية الستّينيّات ومطلع السنعينيّات؟”.

ــ كبرتْ ا؟

ــ لكن لا شيء فيها يشبه المدينة؟ا

أعوان النظافة يقومون بجمع القمامة، وآخرون منهم بتنقية الطّرق من الحشائش والطفيليّات. وفي الجهة المقابلة المقاول انتهى من أشغال صيانة وتجديد شبكة الإنارة العمومية، وترك أكوام التراب فوق الرّصيف لريّاح “الشهيلي” الموسميّة تعبث بها هنا وهناك؟

و إعادة الأماكن إلى حالتها الأصلية:[Remise en état des lieux]مع ضمان التعويض عن المصاريف النّاجمة عن ذلك، من الشّروط الفنية والأساسية المنصوص عليها في الصفقة العمومية.

تساءل أحدهم: ما سبب هذا التّدهور الاجتماعي الحاصل في مدينة مثل “مداوروش”؟

قلتُ: “الشعبويّة”؛ مختزله في كلمة واحدة يا سيّدي.

بعض الأصدقاء يتحاشى الحديث عن ظاهرة النّزوح، من باب المجاملة، والمجاملة على حساب الحق تهدم الدّين والأخلاق؛ تمّ التغاضي عن النّزوح من الأرياف، بل ووصل الأمر إلى حدّ تشجيعه بالسّكوت عن البناء الفوضوي، وتسهيل المهمّة لأصحابه في مرحلة من المراحل. فكبرت القرية في الاتّجاه المعاكس، وانتشرت الفوضى ومعها الآفات، وصار من الصّعب تدارك الأمور.

وأمّا الأسر الأصيلة والعريقة، فمنها من اختارت أن تهجر من القرية قبل أن تموت، ومنها اختارت البقاء؛ فهي الآن تموت ولو في صمت.

عمّت البطالة؛ بشقيها المهني والمعنوي، ولم يجد النّاس بدّا من الجلوس في المقاهي والطّرقات، وما ينجم عنه من مساوئ وآفات. وصاروا يراقبون الصّاعد والنّازل الطّالع والهابط والماشي والرّاكب… ولم ينجُ منهم، ولا من كلامهم أحد. يا ناس خافوا ربّكم؛ من لم يجد شغلا فليمسك لسانه وليسعه بيته.

لم أنسَ ذلك اليوم الذي ذهبتُ أطلب فيه مساعدة من أحد الأصدقاء، وكان مسئولا عن التّنشيط بدار الشّباب، طلبتُ منه أن نتدارك معا شباب الحيّ قبل وقوعهم في براثن الإدمان، بين مخالب القاتل الصّامت. فكان ردّه مؤسفا للغاية؛ يعبّر عن “الانهزامية”؛ الحالة النفسيّة والذهنية التي باتت تسيطر على الأُطر والمثقّفين في الجزائر: قتلوا فيكم روح المبادرة، فماتت النّخوة و الغيرة.

أيّها النّظام من فضلك لا تكلّمنا بالأرقام، فنحن الشّعب لا نفقه كثيرا لغة الأرقام. قم وحرّض أعوانك؛ من الموظّفين والمنتخبين، على النّزول إلى الشوارع، لرؤية الواقع بعينه، لا بعيونك المخملية.

وانتم أيّها الشّباب: “البلاد بأهلها وموّاليها” مثل شعبي قديم. قوموا وانفضوا الغبار عن أنفسكم. لا تنظروا إلى الماضي وسلبياته، فالمستقبل أمامكم لا تجعلوه وراءكم. ترفّعوا قليلا عن عادات الجلوس في الطرق والمقاهي، انشروا الخير انثروا الأزهار والورود كونوا إيجابيين، وتعفّفوا عن الرّذائل، فإن الشاعر قديما قال:

كونوا عمالقة الشباب شهامــــة *** و كرامة و اسموا عن الأقـزام
إن الشباب إذا سما بطموحه *** جعل النجوم مواطئ الاقــــــدام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى