المجتمع المدني يتحول الى القوة الاجتماعية الثالثة

نبيل عودة

بدايات المجتمع الرأسمالي: سلطة واقتصاد

تطور المجتمع الرأسمالي الكلاسيكي على قاعدتين أساسيتين، أولا: سلطة وثانيا: اقتصاد، هذا الدمج بين السلطة والاقتصاد ميز المجتمع الرأسمالي في نشأته وتطوره. طبعا ظهرت طبقات اجتماعية وخاصة طبقة العمال، وكذلك برزت الطبقة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة. وكان معظم افرادها أقرب بفكرهم وارتباطهم بالطبقة البرجوازية التي تسيطر على الجزء الأكبر من الاقتصاد. حتى الزراعة والطبقات الفلاحية انقسمت الى مجموعات اكثرها غناء ارتبط بالنظام الرأسمالي البرجوازي الكبير. لدرجة بات من الصعب الفصل بين البرجوازية الصناعية والبرجوازية الفلاحية. وغني عن القول ان الفئات الأفقر من الفلاحين أضحت أكثر ارتباطا بالطبقة العمالية.

ظلت السيطرة على السلطة والاقتصاد بيد البرجوازية الكبيرة وحلفائها من اغنياء الفلاحين. اذن القوة الاقتصادية كانت العامل الثاني الذي برز الى جانب السلطة في تشكل الدولة الرأسمالية.

هذه الصيغة سادت منذ بداية نشوء المجتمع الرأسمالي. لكن منذ أواسط القرن العشرين نشهد تحولات جذرية عميقة في المجتمعات الرأسمالية.

أولا دور الطبقة العاملة ومبناها الفكري والاجتماعي بدأ يتغير، ورغم ثرثرة الماركسيين القدماء حول الصراع الطبقي لم نشهد مثل هذا الصراع حسب المفاهيم التي طرحها ماركس في نظريته عن “الحتمية التاريخية”، التي طرحت موضوع الصراع بين الطبقة العاملة والبرجوازية وبانه سيقود الى ثورة عمالية وسقوط النظام الرأسمالي واستلام الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين للسلطة وبناء المجتمع الشيوعي (الاشتراكي).

يجب ان نلاحظ امرأ هاما، ان المفاهيم التي سادت عن الطبقة العاملة في الحركة الشيوعية الدولية، تحت قيادة الكومنترن الشيوعي تحت سيادة الفكر الستاليني، ظلت متخلفة وبعيدة عن واقع تطور الطبقة العاملة وتحولها الى قوة عمل مهنية راقية، عبر التطور التكنولوجي والعلمي وتطور التعليم وبروز قوى من الطبقات الفقيرة كعمال مهنيين ومهندسين وأطباء ورجال قانون ومحاسبين وباحثين ومدراء شركات واعلاميين وادباء وكتاب .. الخ، مما نسف القاعدة التي ظلت سائدة بالفكر الماركسي عن الطبقات العمالية والفلاحية، او ما سمته الماركسية الطبقة البروليتارية، وتعبير (بروليتاريا) اقتبس من الامبراطورية الرومانية لوصف الفئات الاجتماعية المسحوقة التي لا تملك ان تدفع الضرائب. بمعنى آخر البروليتاريا كما برزت مع تطور النظام الرأسمالي تغيرت مع التطوير التكنولوجي والعلمي ولم تعد تلك البروليتاريا التي تبيع قوة عملها لكي تأكل وتجدد قوة عملها. أضحت قوة علمية تكنوقراطية تدير المؤسسات الصناعية والمزارع الضخمة. ولم تعد تبيع قوة عملها بالأسلوب الذي كان سائدا في بداية تطور النظام الرأسمالي كعمال سود، بل اضحى كبار البرجوازيين بحاجة لعمال مهنيين اداريين تكنوقراطيين لإدارة المؤسسات الاقتصادية، وبات الطلب على المهنيين يفرض اجورا كبيرة للمهنيين. فتطور التعليم التكنولوجي، وعلوم الإدارة والحاسوب فيما بعد، أي ان الفكرة التي سادت في القرن التاسع عشر حتى بداية او أواسط القرن العشرين بدأت تتلاشى تدريجيا وتختفي ومن يفكر اليوم ان الصراع الطبقي هو قانون اجتماعي قائم، يستحسن ان يذهب للعلاج النفسي.

أصلا ظاهرة البروليتاريا، أي الفئات العمالية الفقيرة فقرا مدقعا ولا مفر امامها الا بيع قوة عملها تحت أي ظرف استغلالي، كانت ظاهرة أوروبية محدودة بزمن قصير. لم تتطور خارج أوروبا اطلاقا، وتلاشت في أواسط القرن العشرين تقريبا.

تعمق دور المجتمعات المدنية في العالم

يمكن وصف الدولة الرأسمالية بعد سنوات التسعين من القرن الماضي بانها الدولة الجديدة التي بدأت تسيطر وتدير لوحدها الوظائف الاجتماعية الأساسية، هذا الأمر كان تعبيرا على التقدم الكبير في تطور المجتمع البشري. وأكثر من ذلك، المنظمات الدولية، ومنها البنك الدولي والأمم المتحدة، فهموا بشكل جيد انه بدون المجتمع المدني، لا يمكن تفعيل المجالات الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم او على المستوى السياسي. وبات اصطلاح الشراكة ذي الثلاثة عوامل، او رؤوس (اقتصاد، سلطة ومجتمع مدني) تعبيرا عن تكامل علاقات اجتماعية متوازنة بين المركبات الثلاثة: سلطة، اقتصاد ومجتمع مدني!!

العولمة كانت بشكل واضح، القوة وراء التطور الاقتصادي العالمي، واثرت بقوة على تطور السياسة والثقافة منذ سنوات التسعين من القرن الماضي.

بالتلخيص: لا يمكن تطوير اقتصاد بقوة عمل غير مهنية وتفتقد لمعرفة التكنولوجيات التي بدأت تتطور وتحول الصناعة الى علم وليس الى قوة عضلات. التطور العلمي والتقني في القرن التاسع عشر كان يحدث ربما مرة كل سنة. في القرن العشرين بدأ التطور يحدث مرة او أكثر كل شهر، في وقتنا الحاضر التطور كل أسبوع بل وكل يوم. اذن لم يعد العامل مجرد عضلات للبيع، أصبح عقلا مبدعا ومهنيا لا يتقدم الإنتاج بدون قدراته والمامه المهني والتقني والعلمي، أصبح الحاسوب جزءا ضروريا لتطوير الإنتاج، هذه الثورة العلمية التكنولوجية (التقنية) غيرت مبنى المجتمع الرأسمالي، وغيرت شكل العلاقة بين العامل وصاحب العمل. طبعا لم يتوقف الصراع على شروط العمل والأجور والخدمات، لكن لم يعد صراعا دمويا لقضاء طبقة على أخرى. وهذا لا ينفي ان القوى المنتجة واصلت نضالها من اجل تحقيق شروط عمل أفضل وخدمات أفضل وتأمينات مختلفة لضمان مستقبلها. اما الحديث عن الصراع الطبقي لقضاء طبقة على أخرى فلم يعد امرا مهما، بقي مجرد لغو لمن يرون الماركسية أقرب لدين وليس لفكر فلسفي، وانتقل الصراع بفترة معينة الى المعارك الانتخابية والسياسية. وفي الواقع الرأسمالي السائد اليوم، لا يمكن الحديث الا عن نضالات شعبية تشارك بها طبقات الشعب المختلفة، لإنجاز المزيد من الحقوق العامة. وهذا النضال لا يقوم على أساس الصراع الطبقي التناحري، بل على قاعدة اجتماعية واسعة جدا، تشمل اوساطا برجوازية صغيرة ومتوسطة، وتشمل قوى اجتماعية متعددة وليس عمالا بشكل خاص ومميز، ويمكن ملاحظة انه القاعدة الهامة والقوية للمجتمع المدني.

لا بد ان أسجل هنا ان واقع المجتمع الرأسمالي تغير بنشوء قوة اجتماعية سياسية توحد مختلف القوى الاجتماعية والسياسية في مواجهة النظام الرأسمالي الذي لم يعد باستطاعته تجاهل هذه القوة الجديدة، وأعني تيار المجتمع المدني الذي أصبحت له قوة لا يمكن تجاهلها.

النظام الرأسمالي عمق مفهوم القومية

من المهم ان نلاحظ ونؤكد، أن الدولة الرأسمالية الجديدة، بدأت تركز بيدها الوظائف الاجتماعية الأساسية، وهذا عكس اثرة العميق على تطور المجتمع البشري. كذلك لا بد ان نلاحظ، ان شعارات الوحدة العمالية العالمية (يا عمال العالم اتحدوا) ظل شعارا وهميا غير قابل للتنفيذ. السبب هو تطور الدولة القومية الحديثة، في أوروبا وامريكا الشمالية بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، حيث استطاع الفكر القومي ان يحتل مكان الفكر الطبقي، وبقيت نظريات وحدة الطبقة العاملة العالمية حبرا على ورق. لا بد ان نسجل أيضا، انه جرت تقوية القيمة الشخصية للفرد والاعتراف الاجتماعي المتزايد بحريته وقيمته كانسان. مما لم يكن له أثر او وجود ملموس في بداية تطور المجتمع الرأسمالي. لذا اضحت الدولة الحديثة مضطرة لإنجاز القيم الاجتماعية المتنوعة، والقيام بكل الوظائف التي أخذتها عل عاتقها سابقا، وتعريف دورها في المجالات الجوهرية لإدارة الاقتصاد والمجتمع والأهم الفصل بين السلطات.

لا يمكن نفي تأثر التنظيمات الاقتصادية الكبيرة، بما فيها المؤسسات الاقتصادية متعددة القومية، على مختلف مجالات الحياة العامة، الصحة، التعليم، الثقافة، الفن، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

طبعا شهدت الدول نضالات متعددة الأشكال (اضرابات ومظاهرات) لكن ليس صراعا بالمفاهيم الطبقية التي طرحتها الماركسية، كان نضالا حول ما هو المطلوب من دولة الرفاه الاجتماعي وكيف تجري حماية حقوق الانسان، وهنا نجد ان تنظيمات المجتمع المدني بدأت تفرض نفسها ومطالبها على النظام وتعمق مفهوم دولة الرفاه. طبعا لا يمكن تجاهل ان التنظيمات الاقتصادية الدولية المتعددة القوميات، لم تفقد تأثيرها على ما يجري في السلطة، والتأثير كان متعدد الوجوه في الدول الأوروبية وفي امريكا الشمالية، حيث كان التطور الرأسمالي أكثر قوة واتساعا.

بدانا نشهد اتساعا حواريا بين مختلف الثقافات والانتماءات الدينية والاثنية، وبين الأوساط الاجتماعية ذات المكانة البارزة. ومن المهم ان نلاحظ حركة التضامن بين أوساط متعددة ومختلفة بثقافتها وانتماءاتها على قاعدة جديدة لبناء الثقة، وهذا بحد ذاته يشكل منظرا مدنيا لم ينشا سابقا وهو ما تسمية الدراسات السياسية ب “المجتمع المدني”، وما كان له ان يحدث ويتطور بواقع طبقة عاملة بدون ثقافة مهنية وعامة.

اذن يمكن القول ان المجتمع المدني هو الذي يبشر بالأمل من اجل التجديد الاقتصادي، وإقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية للمجتمع عامة. وهو الذي دفع ويدفع لبروز قيادات جديدة، وهو ينشط لتعميق اتجاه السلام الاجتماعي بين جميع المختلفين في إطار المجتمع الواحد، وصيانة الديموقراطية، كشرط لضمان استمرار التطور الاقتصادي.

بصراحة قد تكون ثقيلة على بعض المتمسكين بنظريات ماركس، تعززت مكانة المجتمعات المدنية مع بدأ مع انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية التابعة له، وايضا تقلص دور الحركة الشيوعية بشكل كبير بل بعضها وصل لدرجة التفكك. بنفس الوقت كان خطرا جادا على مجتمع الرفاه الاجتماعي، خاصة بقاء دول كثيرة في افريقيا وآسيا بوضع اجتماعي واقتصادي صعب جدا ومتخلف جدا والهجرة غير الشرعية لدول متقدمة اقتصاديا. وما زالت هذه المشكلة قائمة في الدول الأوروبية، ولا يبدو ان حلها قريب دون تطور كافة الأقطار في اسيا وافريقيا.

رؤيتي اننا اليوم امام توازن بين قوى اجتماعية جديدة، لكن ليس على قاعدة حزبية اطلاقا، بل على قاعدة اجتماعية اقتصادية ومدنية. وهذا انعكاس أيضا لتطور مفاهيم في السلطة والمؤسسات الاقتصادية بدأت ترى بوضوح حتمية الوصول الى توازن جديد مع القوى الاجتماعية الجديدة. ربما التجربة السوفييتية تركت أثرها الكبير لهذه النقلة النوعية في خلق التوازن الاجتماعي الجديد، وعدم رفض التعامل مع منظمات المجتمع المدني باعتبارها الممثل الأول، وليس الأحزاب، للمجتمع والطبقات الاجتماعية داخله.

المجتمع المدني بات في طليعة النضال الاجتماعي والاقتصادي

اذن رؤيتي ان المجتمعات المدنية بتطورها أضحت ذات تأثير حاسم على مجمل الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وبذلك سيخلق توازن بين قوى جديدة داخل المجتمع. بحيث يصبح توزيع مسؤوليات بين القوى الثلاث، التي يتشكل منها المجتمع كما بدأ يبرز في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أساسا. وهي أولا السلطة، ثانيا الاقتصاد وثالثا المجتمع المدني.

دراسات عديدة تناولت موضوع توازن القوى الاجتماعي الجديد الذي بدأ يثبت نفسه بعد سنوات التسعين من القرن الماضي. ويطرح الباحثون أربعة عمليات ثقافية اجتماعية واقتصادية متداخلة تفرض نفسها على البشرية بكل مستويات الواقع الاجتماعي وهي:

1- العولمة المرنة في المجال الاقتصادي.

2- ضعف دولة الرفاه في المجال السياسي الاقتصادي.

3- صعود المجتمع المدني على أساس رؤية جديدة وتحوله الى قوة اجتماعية مستقلة.

4- تعزز توازن قوى اجتماعي جديد قائم على أساس ثلاثة مرتكزات: اقتصاد، دولة (أي سلطة) ومجتمع مدني. مما يبدل الوضع السابق القائم على مرتكزين هما اقتصاد وسلطة.

لذا اجزم ان التطورات اللاحقة في المجتمعات البشرية ستشهد ارتفاع هام وكبير في دور المجتمعات المدنية كجزء مكمل ومؤثر بشكل حاسم على نهج السلطة والاقتصاد ومختلف القوانين المتعلقة بإدارة المجتمع الإنساني. وهنا لا بد من ملاحظة، ان دور الأحزاب، وحتى الأحزاب القائمة بدأت تتجه أكثر نحو شكل تنظيمي لمجتمع مدني وليس لمناهج سياسية وثورية او طبقية بهدف قلب النظام مثلا.

ملاحظة: هذه أفكار أولية اطرحها، لكن يبدو ان الموضوع يحتاج الى دراسات أكثر اتساعا وعمقا، رغم ان الاتجاه البارز اراه صحيح تمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى