الحل الوحيد والأوحد للوصول إلي المعاملة الأحسن
أ.حلمي الفقي
رجل يشتكي مر الشكوي من أبنائه ، وأخت تشتكي أمها ، وزوجة تتألم وتتوجع من معاملة زوجها ، وإخوة يترصدون أخاهم لينشروا خطاياه ، وامرأة تحسب أن ما نزل بها من مطاعن ومصائب وأوجاع لم ينزل ببشر ، فكانت نتيجة هذا وذاك رحم مقطع وأوصال ممزقة ، وقرابات لم تعرف الود ولا القرب ، وقلوب لم تعرف الحب ولا الحنان يوما ، وكل يظن أن ما وقع به لا يغفر ولا يمكن المسامحة فيه .
وأقول :
لن يهنأ لإنسان عيش إلا بالتغافل عن أخطاء الآخرين ، ومسامحتهم ، ونسيان زلاتهم ، أو تناسيها ، والعفو عنهم طلبا لما عند الله أولا ، وثانيا : ليرتاح بالنا ، وتسعد قلوبنا ، وتسكن نفوسنا ، لأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ، يقول المولى تبارك وتعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } ( سورة عبس : 17 ) ويقول أيضا : { إن الإنسان لربه لكنود } ( العاديات : 6 ) فتدبر النص القرآني { قتل الإنسان ما أكفره } لعن الإنسان فما أشد كفره وألـ فى الإنسان للاستغراق ، فالنص القرآني يشمل الجنس البشري كله ، وليس الكافرين فحسب ولا غير المسلمين فقط ، وإنما يدعو باللعن على الجنس البشري كله ، فما أشد كفرهم وعتوهم وطغيانهم وفسادهم وظلمهم لأنفسهم ولبعضهم ، ولأقرب الناس لهم ، فما الحل ؟
الحل الوحيد والأوحد للوصول إلي المعاملة الأحسن والأمثل هو : التغاضي والتغافل عن أخطاء وخطايا من حولنا ، ونعلم أن من لا يَرحم لا يُرحم ، ومن لا يَغفر لا يُغفر له ، فإذا أردت من رب العزة أن يغفر لك زلتك ويستر عيبك ، فاغفر للآخرين زلاتهم واستر عيوبهم ، واعلم أن المؤمن ينصح ويتغافل و يستر ، والفاجر يهتك ويتربص ويعاير .
وكان السلف الصالح يعدون من أعلى درجات الفتوة : ترك الخصومة ، والتغافل عن الزلة ، ونسيان الأذية ، وذلك على العكس مما يعده الناس فتوة في هذه الأيام : من ضربني بكف فرددته اثنين ، ومن رشني بالماء أرشه بالنار ، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما ، فعن أبي كبشة الأنماري ، قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال: ” فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد صدقة ، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر } رواه أحمد والترمذي .
يتوهم الكثير من الناس أن العفو طريق للمذلة ولكن رسولنا يخبرنا أن العفو سبيل العز ، بل ويقسم علي ذلك لأن فلسفة الناس ، وفهمهم للحياة مبني على مغالطات شتى ، ولا سبيل لتلافي هذه المغالطات والأخطاء إلا باتباع سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، والحل الأمثل هو العفو والتغافل عن خطايا الآخر ، ومن جميل ما ورد فى التغافل من الحكم
قول حكيم : عظموا أقداركم بالتغافل ، فالإنسان حين يتغافر ويتغاضي عن أخطاء الآخرين يعظم قدره ، ويعلو بنفسه على صغائر الأمور ،ولذا قيل : ما استقصى كريم قط حقه ، ألم تسمع قوله تعالى {عرف بعضه وأعرض عن بعض} فمن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، تصويب بعض الأخطاء ، والتغاضي والإعراض عن البعض الآخر ، وذلك بنص القران الكريم
قال الشاعر
(تغافل في الأمور ولا تكثر … تقصيها فالاستقصاء فرقة)
(وسامح في حقوقك بعض شيء … فما استوفى كريم قط حقه)
فاعلم أخي الفاضل :أن من السخاء والكرم ترك التجني ، وترك البحث عن باطن الغيوب ، والإمساك عن ذكر العيوب ، كما أن من تمام الفضائل الصفح عن التوبيخ ، وإكرام الكريم ، والبشر في اللقاء ، ورد التحية والتغافل عن خطأ الجاهل ، لأن من شدد نفر ، ومن تراخى تألف ، وأنشدوا في التغافل:
(ومن لايغمض عينه عن صديقه … وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب)
(أغمض عيني عن صديقي تغافلا … كأني بما يأتي من الأمر جاهل)
وقال الحسن البصري : ” أدركت أقواما لم تكن لهم عيوب ، فتكلموا في عيوب الناس فجعل الله لهم عيوبا ، وأدركت أقواما كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس ، فستر الله عيوبهم ” .
وقيل لأحمد بن حنبل : العافية عشرة أجزاء ، تسعة منها في التغافل ، فقال أحمد : العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل .
فمن أراد العافية في بدنه ونفسه ، ومن أراد السكينة لقلبه ، والطمأنينة لنفسه ووجدانه فليتغافل عن خطايا الآخرين وزلاتهم وليستر عيبهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم .