أخبارإقتصادالجزائر من الداخلدراسات و تحقيقاتقانون وعلوم سياسيةقانون وعلوم سياسية و إدارية

الإطار القانوني و التنظيمي لتسيير البنك المركزي

شهد الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحكم أعمال البنوك المركزية
تغييرات هامة في السنوات الأخيرة، حيث مُنحت العديد من البنوك المركزية حول
العالم تفويضات أوسع وأوضح ودرجة اعلى من الاستقلالية، خاصة على صعيد
هدفي الاستقرار النقدي والاستقرار المالي وكذلك تحديد إطار تنفيذ السياسة النقدية
بهدف جعلها أكثر فعالية وشفافية.

يعكس تزايد الاهتمام بتعزيز استقلالية البنوك المركزية ما أثبتته التجارب الدولية من
أن ذلك شرط ضروري لفاعلية البنوك المركزية في تحقيق اهدافها. حيث بيّنت
الدراسات بصورة عامة وجود علاقة إيجابية بين درجة استقلالية وحوكمة البنك
المركزي، والاستقرار المالي والنمو الاقتصادي. مع ذلك في كثير من الأحيان يتم
التركيز على توفر الإطار القانوني المناسب للحكم على درجة الاستقلالية، فيما يختلف
الأمر في الواقع والممارسة العملية.

في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، ومؤخراً جائحة
كورونا، ازداد مستوى التحديات المتعلقة باستخدام تدابير السياسة النقدية غير التقليدية،
إذ لعبت البنوك المركزية دوراً أكبر من المعتاد، حيث مثلت الملجأ الأخير في الاقتصاد
من خلال أدوات السياسة النقدية التقليدية واستخدام أدوات مبتكرة لتوفير السيولة
وتحفيز النمو والمحافظة على الاستقرار المالي.

كذلك تعزز الاهتمام بمواضيع دور البنوك المركزية في الشمول المالي ودعم الابتكار
والتحول الرقمي ومواجهة المخاطر والتهديدات الالكترونية وقضايا تمويل المناخ، التي
باتت تحظى باهتمام متزايد. أدت كل هذه التحديات والتطورات في دور البنوك
المركزية إلى إعادة تسليط الضوء على أهمية موازنة درجة استقلالية البنك المركزي
مع ترتيبات المساءلة والشفافية والحوكمة المناسبة.

يعتبر توفر الأحكام والنصوص القانونية التي تؤكد على الاستقلالية ضرورياً لكنه ليس
كافياً لضمان استقلالية البنك المركزي، حيث كثيراً ما يتم تجاوز الاطار القانوني او
تفسيره بصورة تؤثر على استقلالية سياسات البنوك المركزية وبصورة تخدم أهدافاً
اقتصادية وسياسات قصيرة الأجل على حساب أهداف الاستقرار النقدي والاستقرار
المالي، هذه التحديات واجهتها عدد من البنوك المركزية وانتهت في كثير من الأحيان
في أزمات اقتصادية او مالية. ما سبق يستلزم توضيح إطار ومفاهيم الاستقلالية ليس
فقط على مستوى السلطات بل على مستوى المجتمع والاعلام، بما يدعم فرص قبول
ونجاح سياسات البنوك المركزية واستقلالية هذه البنوك.

وكما تعلمون تتعلق استقلالية البنك المركزي بقدرته على صياغة وتنفيذ السياسات
بموجب ولايته دون تأثير من الأطراف الخارجية، حيث تُظهر البيانات أن البنوك
المركزية التي كانت أكثر استقلالية، مثل البنوك المركزية في ألمانيا والنمسا
وسويسرا، حققت معدل تضخم أقل خلال الفترة 1970-2000 بالمقارنة مع البنوك
المركزية التي لا تتمتع بنفس الدرجة من الاستقلالية.

لذلك نجد أن المعايير والمبادئ الدولية المحدثة تضمنت إشارة واضحة لقضايا
الاستقلالية، حيث أكدت مبادئ بازل على الاستقلالية التشغيلية للسلطات الاشرافية على
القطاع المالي، كما تؤكد المبادئ الاساسية لنظم الدفع والبنية التحتية المالية على
استقلالية السلطات الاشرافية.

لذلك هناك حاجة إلى توسيع مفهوم استقلالية البنك المركزي ليس فقط على مستوى
السياسة النقدية، بل على صعيد الدور الذي يلعبه البنك المركزي في تعزيز سلامة
المؤسسات المالية واستقرار النظام المالي ككل.

و يتعين أن يشمل تعزيز الاستقلالية ليس فقط بعدها الوظيفي والعملي، بل
أيضاً بقية الأبعاد مثل الإستقلالية المؤسسية، والشخصية، والمالية. ذلك أن معظم
البنوك المركزية في الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة مستقلة بموجب القانون، وإنما
هذه الاستقلالية متفاوتة من الناحية العملية، حيث الخط الفاصل بين البنوك المركزية
والحكومات غالباً ما يكون غير واضح. حتى في الاقتصادات المتقدمة، وعلى سبيل
المثال، قد يتعرض محافظو البنوك المركزية لضغوط لتمويل ميزانيات الدول من
خلال عمليات شراء ضخمة للديون الحكومية.
يتطلب الأمر أن تكون استقلالية البنك المركزي مصحوبة بآليات مناسبة للمساءلة،
بحيث لا يكون هناك إستقلالية واسعة أو مساءلة مفرطة، لإنه في كلا الحالتين هناك
تقويض لفعالية الاستقلالية. ومن الصعوبة أن تكون الاستقلالية مصانة ومستدامة على
المدى الطويل إلا إذا اقترنت بمساءلة مناسبة وواضحة في سياسات وعمليات البنك
المركزي.

بالطبع تحدد وترتبط مساءلة البنوك المركزية بشفافيتها وآليات تواصلها، حيث تعتبر
الشفافية عنصرا جوهريا في تمكين البنوك المركزية من تعزيز موثوقية سياساتها
وعملياتها.

تطور مفهوم شفافية البنوك المركزية بشكل كبير في العقود القليلة الماضية وسط
توسيع صلاحيات ووظائف وسلطات البنوك المركزية كما سبق ذكره، حيث نجد أن
هناك ثلاث متطلبات رئيسة لتعزيز الشفافية من خلال متطلبات الإفصاح، مع مراعاة
إعتبارات السرية: الذمة المالية وقواعد السلوك، ونشر التقارير والاحصاءات،
وسياسات وأدوات التواصل.

فيما يخص الذمة المالية وقواعد السلوك، تخضع البنوك المركزية لمتطلبات الشفافية
على صعيد حوكمتها الداخلية، من خلال الإفصاحات حول: ترتيبات المساءلة الداخلية
(مثل قواعد السلوك والإفصاح حول الممتلكات، وعمل وتفويضات لجان الرقابة التابعة
لمجلس الإدارة)، وبيانات واستراتيجيات إدارة المخاطر، والجوانب الرئيسة لإدارة
الموارد البشرية. إضافة لذلك يمكن النظر في تعزيز شفافية الإفصاح عن سياسات
السلوك الداخلية للبنك المركزي (مثل آليات الإبلاغ عن المخالفات).

أما فيما يتعلق بجودة نشر التقارير والاحصاءات، تخضع البنوك المركزية لمتطلبات
النشر مثل التقارير الدورية، والمعلومات الأساسية حول أطر إدارة المخاطر الخاصة
بها، مع التركيز في الغالب على المخاطر المالية.

إن شفافية العديد من البنوك المركزية في الوقت الحاضر تتجاوز بكثير الإفصاح
الإلزامي عن المعلومات الأساسية، حيث أصبح النشر للتقارير الدورية، وكذلك
البيانات المالية المعدة والمدققة وفقًا للمعايير الدولية، وتفاصيل وتوضيحات حول
السياسات المتبعة من قبل البنوك المركزية في السنوات الأخيرة.

في المقابل يتمثل التحدي الكبير فيما يتعلق بشفافية السياسات وأدوات التواصل التي
ينتهجها البنك المركزي، خاصة في كيفية إيصال الرسائل الرئيسة إلى عامة الناس،

اللذين قد يكون لديهم فهم محدود لأهداف وأدوات وسياسات البنك المركزي مثل
السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف، والاستقرار المالي، وحماية المستهلك المالي.
في هذا الإطار، يمكن النظر في تعزيز موثوقية سياسات وإجراءات البنك المركزي من
خلال تطوير استراتيجية شاملة للتواصل، واستخدام مختلف القنوات والأدوات، وعدم
الإكتفاء فقط بنشر الأخبار الصحفية حول قراراتها.

من المناسب في هذا الصدد، التوجه التدريجي نحو مستويات أعلى من الشفافية في
التواصل، مثل تعزيز مضمون ومحتوى الأخبار الصحفية، وعقد مؤتمرات صحفية بما
يعزز وصول المعلومة السليمة لكافة الأفراد، والفهم الصحيح للقرارت المتخذة من
البنك المركزي، وربما أيضاً نشر ملخص حول محاضر لجان البنك المركزي التي
تصدر تلك القرارات، بما يعود بتأثير إيجابي على الأسواق المالية، خاصة عمليات
السوق المفتوحة.
تقييم شفافية البنوك المركزية، استناداً لإطار صندوق النقد الدولي
الذي تم بنائه على ثلاث محددات: جودة الإفصاح وآليات الوصول إلى
منشورات البنك المركزي وسهولة فهمها، ووسائل الإفصاح التي تعتمد على إمكانية
الوصول إلى المصادر والمنصات، إضافةً لحسن توقيت الإفصاح ودوريته.

استناداً لهذه المحددات، يرتكز هذا الإطار على خمسة محاور رئيسة للشفافية مرتبطة
ببعضها البعض: الشفافية في السياسات مثل آليات إتخاذ القرارات ودعم التحاليل
المقدمة، والشفافية في الحوكمة، والشفافية في العمليات من خلال أدلة الإجراءات،

إضافةً للشفافية في المخرجات والتقارير بما في ذلك حوكمة الأداء والتقارير. وأخيراً
الشفافية في العلاقات الرسمية مع الجهات الحكومية وغير الحكومية، وكذلك مع
المؤسسات الاقليمية الدولية من خلال الإتفاقيات ومذكرات التفاهم.

يعتبر إطار الشفافية هذا بمثابة سمة مؤسسية تهدف إلى ضمان الوصول الشامل إلى
المعلومات المتعلقة بالبنك المركزي وأنشطته، وفي نفس الوقت تحقيق التوازن
المناسب بين الشفافية والمتطلبات المشروعة للسرية.

أظهرت المرحلة التجريبية التي قام بها صندوق النقد الدولي حول تطبيق هذا الإطار
على عدد من المصارف المركزية، أن مراجعة شفافية البنك المركزي يمكن أن تكون
أداة فعّالة لتعزيز المساءلة الشاملة، حيث يساعد هذا التقييم على استخلاص الدروس
من تنفيذ مراجعات للشفافية للبنوك المركزية الاخرى في المستقبل.
لا شك أن المتابع لأوضاع وممارسات الحوكمة في الدول العربية يدرك التطور الكبير
خلال السنوات الماضية، حيث حرصت السلطات الإشرافية (ومنها البنوك المركزية)
على وضع معايير وإجراءات ومواثيق تخص ممارسات الحوكمة. إلا أنه يتعين أن
ندرك أيضاً أن هناك حاجة أكبر في هذه المرحلة لتعزيز كفاءة الالتزام والتنفيذ في
تطبيق هذه المعايير والمبادئ حيث يمثل التطبيق التحدي الأكبر لتحقيق الأغراض
المرجوة من هذه المبادئ، ولا شك أن التطبيق وإنفاذ مبادئ الحوكمة لا يتوقف فقط
على السلطات الإشرافية والرقابية ووضعها للمعايير والمبادئ ومتابعة التزامها، بل
يستلزم كذلك جهود كبيرة على صعيد التوعية والتدريب وبناء القدرات وتقوية التواصل

مع مؤسسات وفعاليات القطاع الخاص ومختلف الهيئات المعنية بما يعزز إدراك
الجميع لأهمية الحوكمة وجوانب تطبيقاتها المختلفة.

لقد حظي موضوع تطوير وتقوية الأطر الناظمة لموضوعات الحوكمة وإدارة
المخاطر والشفافية باهتمام متواصل من السلطات في الدول العربية، حيث عملت
البنوك المركزية العربية في السنوات الأخيرة على تطوير إرشادات خاصة بالحوكمة،
فلا يزال هناك حاجة للمزيد من الجهود لترسيخ ثقافة ومفاهيم الحوكمة والإفصاح
والشفافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى