الأوثان
شاكر كتاب
أستاذ جامعي وناشط سياسي
فكرة الأصنام ونصبها والتعامل معها بنوع عالٍ من القدسية فكرة قديمة قدم المجتمعات واستقرارها الأول. كانت الأقوام التي تفقد قائدا لها في قتال أو في موتٍ طبيعي أو بعد مرضٍ عضال تشيّد له تمثالاً لمواصلة تعظيمها له ووفاءً لما كان عليه من مكانة عالية ورمزية خاصة. تصاعدت مع الزمن وبتعاقب الأجيال قيمة الأصنام ومكانتها لتقترب من معنى التقديس الحقيقي فصارت رموزاً لآلهة يتصور اتباعها وجودها في غياهب الزمان أو السماوات. لا بل إنها ما عادت ترمز لأي إلهٍ إذ هي ذاتها صارت آلهة مع تراوح المجتمعات بين المستويات الحضارية المتفاوتة وأحيانًا المتناقضة. حدث هذا في ثقافات المشركين في جزيرة العرب فكان هناك هبل واللات وعزى وود وغيرها التي صارت الكعبة نفسها مكاناً لها تماشياً مع علو مكانة المكان والأصنام سويةً.
في ثقافة مصر القديمة كانت للآلهة رموز على أشكال متعددة منها الأصنام والتماثيل وغيرها. في ثورة أخناتون على ديانة آمون وتأسيسه الآتونية – نسبة للإله آتون – وإطاحته بكل معابد آمون وكهنتها وسلطاتهم شبه المطلقة ، كان من بين أولى أفعاله هو تحطيم الأصنام وتكسيرها جذاذا لتحرير الناس من عبودية الأصنام والتوجه إلى الإله الذي قال عنه أخناتون انه مقيمٌ في السماوات العلا ، وما الشمس بأنوارها وإشعاعها إلا رمزاً له ولوجوده ولقدرته واتساع خيراته وشمول سلطانه. إله أخناتون غير مرأي وليس له أصنام تعبد وتقدس فيذل الإنسان نفسه أمامها وهي من حجر أو خشب أو أية مادة أخرى.
عبادة الإله غير المرأى سوى من خلال آيات تدل عليه كانت قد فتحت أبواب التأريخ أمام التوحيد وعبادة المطلق وتحرير الإنسان من عبودية الصنم الذي يشير في الأصل إلى إنسان آخر مات قبل حين عميق في القدم أو قتل. لكن مع انتكاسة الآتونية في مصر بعد نجاح انقلاب كهنة وجنرالات الإله السابق آمون عادت التماثيل والأصنام.
لنلاحظ إن عودة العبودية للأصنام ارتبط بتغيير سياسي كبير ذي بعد حضاري مضاد فاسقط ثقافة وتشريعات متقدمة كان أخناتون قد سنّها. فعادت وانتشرت الأصنام من جديد لتدخل في المجتمعات والبلدان المتاخمة لمصر القديمة. ولعلها هي إحدى مصادر ما وصل إلى الجزيرة العربية من أصنام ( أو ثقافة الأصنام ) لتقبع في جوف الكعبة ومحيطها وليمثل كل صنم قبيلةً معينة تزوره بين الحين والحين لاسيما في موسم الحج الذي كانت العرب بمختلف قبائلها تمارسه من قبل الإسلام بفترة غير قصيرة.
الأصنام لم تقم بدور نشر العبودية وترسيخها وتعزيز ثقافتها وحسب بل أسهمت بشكل مباشر وفعال في تثبيت فرقة القبائل وتفتيتها وتمكين تفردها وتميزها وتمتعها بشخصيتها المستقلة. لنلاحظ هنا أيضا الدور السلبي التخريبي للأصنام في الإبقاء على تشرذم المجتمعات وحفر أخاديد ثقافة العبودية في الأنفس والعقول والأرواح. هذه الأصنام ما عادت علامات دينية للعبادة وحسب بل صارت من إشارات وأسباب الفرقة والانقسام والعداوات ورموزها الصارخة وتحويل الإنسان إلى عبد لحجر يمثل إنساناً صارت عظامه رميماً وأكلته الديدان وأفاعي التراب.
عندما أعلن محمد “ص” رسالته وانطلقت بعثته كان إعلانه الأول التوحيد الديني الذي يقوم على القضاء على الشرك الذي تمثله هذه العبادات المختلفة. لكن منازلة الشرك الديني هذا سيقود إلى الصراع مع ظاهرة تشتت العرب وقبائلهم المتناحرة. لذا كان العربي الذي يعلن إسلامه ينتمي فورا إلى مجتمع جديد لا يقوم لا على العبودية للأصنام ولا على التفرقة والتقاتل الخالي من أي معنى.
عندما فتح النبي “ص” مكة كان أول فعل أمر بتنفيذه هو تحطيم الأصنام كافة كما تحقق على يد أخناتون من قبل. ليعلن في ذات الفعل أمرين هامين جدا: إلغاء عبودية الإنسان لغير الإله غير المرأى لكن الذي تدل عليه آياته. وتوحيد العرب تحت راية واحدة فقط.
وكما انتكست آتونية أخناتون وعادت العبودية الفردية وانشطار المجتمعات عادت في بلاد العرب العبودية والانشطار والصراع الداخلي بعد وفاة محمد “ص” وانتهاء حكم الخلفاء الراشدين باستشهاد الإمام علي “رض”. ومع ابتعاد الإسلام زمانيا ترك كثير من الناس عبادة الله مباشرة وراحوا يعبدون أصناماً بشرية – يسمونها خلفاء ملوكا أو أمراء أو قادة وزعماء- يؤلّهونها ويقدّسونها وصيّروها رموزا لله سبحانه وتعالى عما يفعلون.
ولأن لكل ملّةٍ منّا صنما نعبده صرنا نتقاتل فيما بيننا تحقيقا للإرادات القدسية العليا لهؤلاء “الآلهة”! وحفاظاً على حضراتهم. لنلاحظ هنا أن هذه الأصنام لها دلالات أسلافها السابقين من قبل أيام أخناتون ومحمد “ص”: الفرقة والتشتت وعداء الناس للناس ومن بعد ذلك تعميق العبودية وثقافة الجهل وانتشار الخرافة والسخافات وكل أنواع التفاهة وتأليه هؤلاء القادة الجدد.
1- ما تحتاجه البشرية اليوم لمقاومة داء العبودية الجديدة ( التي صارت مزمنة ) ، لاسيما عندنا في بلادنا العربية وأغلب الشرق والعالم الثالث تحديداً، هو ثورة علمية ثقافية تتبنى الواقعية وينتصر فيها الحق والواقع والعقل على بطلان صناعة الأصنام وعبادتها والاتكال عليها في تصريف أمور دنيانا.
2- نتطلع إلى نهضة شعب ووطن وثورة جيل ثورةً سلمية لكنها مفعمة بالتصميم والحسم والإرادة ولا تتهاون في حقوق الوطن أو الأرض أو خيرات البلاد.
3- ثورة سلمية لكنها تنتصر لقانون صارم عادل نبني فيه دولةً قويةً عادلةً:
4- تخلو من الأصنام نهائياً وتستعيض عنهم بالحرية الفكرية وحقوق الإنسان الكاملة والإنجازات الحضارية التي لا تتوقف وتحرير الاقتصاد تماماً من أيادي المخربين المحليين والأجانب وإعادة بنائه بما يجعله أداةً كبرى في تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق غايات الإنسان الكبرى في السعادة والأمان واضطراد التقدم والرقي.