أمن وإستراتيجيةفي الواجهة

أوكرانيا ميدان معركة هرمجدون

زياد الزبيدي

نافذة على الصحافة الروسية
نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع

الكسندر دوغين
فيلسوف روسي معاصر

2 يونيو 2023

تعريب د. زياد الزبيدي بتصرف

بدأ الكثيرون في فهم أن ما يحدث لا يمكن تفسيره عمومًا بأي تحليل مرتبط بالمصالح الوطنية ، أو عواقب التوجهات الاقتصادية أو سياسات الطاقة ، أو النزاعات الإقليمية ، أو التناقضات العرقية. إن أي خبير تقريبًا يحاول وصف ما يحدث بالمصطلحات والمفاهيم المعتادة لفترة ما قبل الحرب يبدو على الأقل غير مقنع ، وغالبًا – مجرد جاهل .

من أجل فهم الوضع حتى بشكل سطحي ، من الضروري اللجوء إلى ضكتابات أكثر عمقًا وأكثر جوهرية ، إلى التحليلات اليومية ، التي لم تكن يوما جذابة .

الحاجة إلى سياق عالمي

ما لا يزال يُطلق عليها اسم “عملية عسكرية خاصة” في روسيا ، ولكنها في الواقع حرب شاملة مع الغرب الجماعي ، لا يمكن فهمها إلا في سياق مثل هذه الأساليب واسعة النطاق مثل:

1) الجيوبوليتكا او الجغرافيا السياسية على أساس النظر الى المبارزة المميتة لحضارة “البحر” مع حضارة “الأرض” ، وتحديد التفاقم الهائل لحرب القارات الكبرى ؛

2) التحليل الحضاري – صراع الحضارات (الحضارة الغربية الحديثة ، الهادفة للهيمنة على الحضارات البديلة غير الغربية) ؛

3) تحديد الهيكل المستقبلي للنظام العالمي – التناقض بين العالم أحادي القطب ومتعدد الأقطاب ؛

4) نهاية تاريخ العالم – المرحلة الأخيرة من تشكيل النموذج الغربي للسيطرة العالمية ، الذي يواجه أزمة أساسية ؛

5) التحليل الكلي للاقتصاد السياسي القائم على تثبيت انهيار الرأسمالية العالمية ؛

6) وأخيراً ، علم أمور الأخرة الدينية ، الذي يصف “الأيام الأخيرة” وصراعاتها وصداماتها ومصادماتها ، فضلاً عن فينومينولوجيا مجيء “المسيح الدجال”.

جميع العوامل الأخرى – السياسية والوطنية والمتعلقة بالطاقة والموارد والعرقية والقانونية والدبلوماسية ، إلخ – على الرغم من أهميتها ، فهي ثانوية وتلعب دورًا ثانويًا. على أقل تقدير ، لا تشرح أو توضح أي شيء جوهري.

لنضع “العملية العسكرية الخاصة” في السياقات النظرية الستة التي حددناها ، ويمثل كل منها تخصصات كاملة. لم تحظ هذه التخصصات في السابق باهتمام كبير لصالح مجالات بحث “إيجابية” و “دقيقة” أكثر ، لذلك قد تبدو “غريبة” أو “غير ذات صلة” للكثيرين. ولكن لفهم الأحداث العالمية حقًا ، هناك حاجة للوقوف على مسافة أبعد فيما يتعلق بكل شيء خاص ومحلي ومفصل.

1) العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا في سياق الجغرافيا السياسية

كل الجغرافيا السياسية مبنية على اعتبار المواجهة الأبدية بين حضارة البحر (الثالاسوقراطية) وحضارة الأرض (التيلوروقراطية). كانت التعبيرات الحية عن هذه البدايات في العصور القديمة هي المواجهة بين أرض سبارتا وميناء أثينا ، وبر روما وبحر قرطاج.

تختلف كلتا الحضارتين ليس فقط بالمعنى الاستراتيجي والجغرافي ، ولكن في توجههما الرئيسي: تستند إمبراطورية الأرض على التقاليد المقدسة والواجب والتسلسل الهرمي الذي يرأسه إمبراطور مقدس. هذه حضارة الروح.

القوى البحرية هي أوليغارشية ، نظام تجاري له تطور مادي وتقني مهيمن. في الواقع ، هذه دول قرصنة . قيمهم وتقاليدهم مشروطة ومتغيرة باستمرار – مثل طبيعة البحر نفسه. ومن هنا تقدمهم المميز ، خاصة في المجال المادي ، وعلى العكس من ذلك ، ثبات أسلوب الحياة واستمرارية حضارة الأرض ، روما الأبدية.

عندما أصبحت السياسة عالمية وشملت قارات العالم ، اكتسبت هاتان الحضارتان أخيرًا تجسيدًا مكانيًا. أصبحت روسيا – أوراسيا جوهر حضارة الأرض ، وترسخ قطب حضارة البحر في منطقة النفوذ الأنجلو – ساكسوني: من الإمبراطورية البريطانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكتلة الناتو.

هكذا ترى الجغرافيا السياسية تاريخ القرون الماضية. سوف ترث الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي وروسيا الحديثة عصا حضارة الأرض. في سياق الجغرافيا السياسية ، روسيا هي روما الأبدية ، روما الثالثة. والغرب الحديث هو قرطاج الكلاسيكية.

كان انهيار الاتحاد السوفياتي انتصارًا كبيرًا لحضارة البحر (الناتو والأنجلو ساكسون) وكارثة مروعة لحضارة الأرض (روسيا ، روما الثالثة).

إن الثالاسوقراطية والتيلروقراطية – مثل الأواني المستطرقة ، لذلك تلك الأراضي التي خرجت عن سيطرة موسكو أصبحت تحت سيطرة واشنطن وبروكسل. بادئ ذي بدء ، أثر هذا على أوروبا الشرقية وجمهوريات البلطيق التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي. ثم جاء دور دول ما بعد الاتحاد السوفياتي. استمرت حضارة البحر في حرب القارات الكبرى مع العدو الرئيسي – حضارة الأرض ، التي نجت من الضربة ، لكنها لم تنهار على الإطلاق.

في الوقت نفسه ، أدت هزيمة موسكو إلى حقيقة أنه تم إنشاء نظام استعماري في روسيا نفسها في التسعينيات – غمر الأطلسيون الدولة بعملائهم ، ووضعوهم في أعلى المناصب. هذه هي الطريقة التي تشكلت بها النخبة الروسية الحديثة – كاستمرار للأوليغارشية ، نظام للسيطرة الخارجية من قبل حضارة البحر.

بدأ عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة في الاستعداد للاندماج الكامل في حضارة البحر. اتبع آخرون استراتيجية أكثر حذراً ولم يكونوا في عجلة من أمرهم لقطع العلاقات الجيوسياسية الراسخة تاريخياً مع موسكو. وهكذا ، تم تشكيل معسكرين: الأوراسي (روسيا ، بيلاروسيا ، كازاخستان ، قيرغيزستان ، طاجيكستان ، أوزبكستان ، أرمينيا) والأطلنطي (أوكرانيا ، جورجيا ، مولدوفا ، أذربيجان). لكن أذربيجان ابتعدت عن هذا الموقف المتطرف وبدأت تقترب أكثر من موسكو.

هذا ما أدى إلى أحداث عام 2008 في جورجيا ، ثم بعد الانقلاب الموالي لحلف الناتو في أوكرانيا عام 2014 ، إلى انفصال شبه جزيرة القرم وانتفاضة دونباس. جزء من أراضي الوحدات المشكلة حديثًا لم يرغب في الانضمام إلى حضارة البحر وتمردت على مثل هذه السياسة ، طالبة الدعم من موسكو.

أدى ذلك إلى بدء الحرب في عام 2022. أصبحت موسكو ، باعتبارها حضارة الأرض ، قوية بما يكفي للدخول في مواجهة مباشرة مع حضارة البحر في أوكرانيا وعكس اتجاه تقوية الثالاسوقراطيين وحلف الناتو على حساب التيلوروقراطية وروما الثالثة. هكذا وصلنا إلى الجغرافيا السياسية لصراع اليوم. روسيا ، مثل روما ، تقاتل قرطاج وأقمارها الاستعمارية.

في الوقت نفسه ، الجديد في الجغرافيا السياسية هو أن روسيا – أوراسيا لا يمكنها اليوم أن تكون الممثل الوحيد لحضارة الأرض. ومن هنا جاء مفهوم “القلب الموزع”. في ظل الظروف الجديدة ، أصبحت ليس روسيا فقط، ولكن أيضًا الصين والهند والعالم الإسلامي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أقطاب حضارة الأرض.

علاوة على ذلك ، إذا سُمح بانهيار حضارة البحر ، فإن “المساحات الكبرى” الغربية – أوروبا وأمريكا نفسها – يمكن أن تتحول إلى “هارتلاندز” المقابلة. في الولايات المتحدة ، يدعو ترامب والجمهوريون صراحةً تقريبًا إلى ذلك ، معتمدين تحديدًا على “الولايات الحمراء الداخلية”(القصد هي الولايات التي تصوت عادة للحزب الجمهوري – المترجم). في أوروبا ، ينجذب الشعبويون ومؤيدو مفهوم “أوروبا-الحصن” بشكل حدسي نحو مثل هذا السيناريو.

2) حرب أوكرانيا في سياق صراع الحضارات

النهج الجيوسياسي البحت يتوافق مع النهج الحضاري. ولكن ، كما رأينا ، فإن الفهم المناسب للجغرافيا السياسية نفسها يتضمن بالفعل بُعدًا حضاريًا.

على مستوى الحضارات في الحرب الاوكرانية، يتصادم اتجاهان رئيسيان:

  • الفردية الديمقراطية-الليبرالية ، والذرية(Atomism) ، وهيمنة النظرة المادية والتقنية للإنسان والمجتمع ، وإلغاء الدولة ، وسياسة النوع الاجتماعي، وإلغاء الأسرة والجندرية ، وفي النهاية ، الانتقال إلى الذكاء الاصطناعي (كل هذا يسمى “التقدمية” أو “نهاية التاريخ”) ؛
  • الإخلاص للقيم التقليدية ، و انسجام الثقافة ، وسمو الروح على المادة ، والحفاظ على الأسرة ، والدولة ، والوطنية ، والحفاظ على تنوع الثقافات ، وفي النهاية ، خلاص الإنسان نفسه.

الحضارة الغربية ، بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي ، أعطت استراتيجيتها طابعًا راديكاليًا بشكل خاص ، وأصرت على وضع اللمسات الأخيرة – وعلى الفور! – قوانينها الخاصة . ومن هنا جاء الفرض القسري للأجناس المتعددة ، والتجريد من الإنسانية (الذكاء الاصطناعي ، والهندسة الوراثية ، والإيكولوجيا العميقة) ، و “الثورات الملونة” التي تدمر الدول ، إلخ. علاوة على ذلك ، فقد فرضت الحضارة الغربية نفسها بشكل علني قدوة للبشرية جمعاء ، ودعت على الفور جميع الثقافات والشعوب إلى اتباعها. علاوة على ذلك ، هذا ليس اقتراحًا ، ولكنه أمر ، نوع من الحتمية القاطعة للعولمة.

إلى حد ما ، وصل تأثير الحضارة الغربية الحديثة إلى جميع المجتمعات. بما في ذلك مجتمعنا ، حيث كان النهج الليبرالي الغربي منذ التسعينيات هو الذي رسخ نفسه باعتباره النهج المهيمن. لقد قبلنا الليبرالية وما بعد الحداثة كنوع من أنظمة التشغيل ولم نتمكن حقًا من تحرير أنفسنا منها ، على الرغم من 23 عامًا من نهج بوتين السيادي.

لكن اليوم ، أدى الصراع الجيوسياسي المباشر مع الناتو والغرب الجماعي إلى تفاقم هذه المواجهة الحضارية.
ومن هنا – جاء توجه بوتين للقيم التقليدية ، ورفض الليبرالية ، وسياسة النوع الاجتماعي (الجندرية) والمثلية ، وما إلى ذلك.

وعلى الرغم من أن هذا لم يتم استيعابه بالكامل من قبل مجتمعنا والنخبة الحاكمة ، فإن الحرب هي صدام مباشر بين حضارتين:

  • الغرب الليبرالي المعولم ما بعد الحداثي
    و
  • مجتمع تقليدي تمثله روسيا وأولئك الذين يحافظون على مسافة معينة من الغرب.

وهكذا تنتقل الحرب إلى مستوى الهوية الثقافية وتكتسب طابعاً أيديولوجياً عميقاً. إنها حرب ثقافات ، مواجهة شرسة بين التقليد والحداثة وما بعد الحداثة.

3) الحرب في سياق المواجهة بين الأحادية القطبية وتعدد الأقطاب

من وجهة نظر هيكل السياسة الدولية ، فإن الحرب في أوكرانيا هي النقطة التي يتم فيها تحديد ما إذا كان العالم سيكون أحادي القطب أو متعدد الأقطاب. أنهى انتصار الغرب على الاتحاد السوفياتي عصر ثنائية القطب للسياسة الدولية . وتفكك أحد المعسكرين المتعارضين وخرج من المنصة بينما بقي الآخر وأعلن نفسه الرئيس والوحيد. في هذه اللحظة ، أعلن فوكوياما “نهاية التاريخ”.

على مستوى الجغرافيا السياسية ، كما رأينا ، يتوافق هذا مع الانتصار الحاسم لحضارة البحر على حضارة الأرض. وصف الخبراء الأكثر حذراً في العلاقات الدولية (سي.كراوتهامر) الوضع الحالي بأنه “لحظة أحادية القطب” ، مما يؤكد أن النظام الناتج لديه فرصة ليصبح مستقرًا ، أي “عالم أحادي القطب” بحد ذاته ، ولكنه قد لا يصمد ويضطر لإفساح المجال لتشكيل آخر.

هذا هو بالضبط ما يتم تقريره اليوم في أوكرانيا: الانتصار الروسي سيعني أن “اللحظة أحادية القطب” قد انتهت بشكل لا رجعة فيه وأن التعددية القطبية أصبحت شيئًا لا نكوص عنه. خلاف ذلك ، فإن مؤيدي العالم أحادي القطب وبأي ثمن سيكون لديهم فرصة لتأجيل نهايتهم على الأقل.

وهنا مرة أخرى ، يجب أن ننتقل إلى المفهوم الجيوسياسي لـ “قلب الأرض الموزع” ، والذي يقدم تعديلاً هامًا على الجغرافيا السياسية الكلاسيكية: إذا تم توحيد حضارة البحر اليوم وغدت تمثل شيئًا موحدًا ، نظام شامل للعولمة الليبرالية تحت القيادة الاستراتيجية لواشنطن وحلف الناتو ، إذن ، على الرغم من وجود حضارة معارضة بشكل مباشر حتى الآن ، هي روسيا فقط وهي التي تمثل الأرض (كم تشير الجغرافيا السياسية الكلاسيكية) ، فإن روسيا تقاتل ليس فقط من أجل نفسها ، ولكن من أجل مبدأ القلب ذاته ، مع الاعتراف بشرعية الآخرين لكي تكون الحضارات الأخرى أقطابًا مستقلة ، وأن يكون لها أنظمة خاصة بها من القيم التقليدية ، وسيادة خاصة بها.

لذلك ، تجسد روسيا نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب ، يُمنح فيه الغرب دور قطب واحد فقط ، أحد الأقطاب ، التي ليس لديها سبب لفرض معاييرها وقيمها كشيء عالمي.

4) حرب أوكرانيا في سياق تاريخ العالم

ومع ذلك ، فإن الحضارة الغربية الحديثة هي نتيجة للاتجاه التاريخي الذي نشأ في أوروبا الغربية منذ بداية العصر الجديد ، عصر الحداثة . هذا ليس انحرافا أو تجاوزا. هذه هي الخاتمة المنطقية لمجتمع سلك طريق اللامركزية ، والتخلص من المسيحية ، ورفض الاتجاه الروحي ، والالحاد ، والازدهار المادي. وهذا ما يسمى “التقدم” ، وهذا “التقدم” يشمل الرفض الكامل وتدمير قيم وأسس ومبادئ المجتمع التقليدي.

القرون الخمسة الأخيرة من الحضارة الغربية – هي تاريخ نضال الحداثة ضد “التقليدية” ، الإنسان “ضد الله” ، والذرية (atomism) ضد النزاهة (integrity).،(بكلمات أخرى تفتيت المجتمع ضد تكامل افرده-المترجم).
بمعنى ما ، هذه هي قصة الصراع بين الغرب والشرق ، حيث بدأ الغرب الحديث يجسد “التقدم” ، وبقية العالم ، وخاصة الشرق ، على العكس من ذلك ، كان يُنظر إليه على أنه إقليم “التقاليد” ، الذي يحافظ على ارثه المقدس .

كان التحديث على النمط الغربي مرتبطًا – بطبيعته – بوجود الاستعمار ، لأن أولئك الذين فرضوا قواعدهم الخاصة للعبة تأكدوا من أنها تعمل لصالحهم فقط. وهكذا أصبح العالم كله تدريجياً تحت تأثير الحداثة الغربية ، ومنذ لحظة معينة لا يمكن لأحد أن يشك في تبرير مثل هذه الصورة “التقدمية” التي تتمحور حول العالم الغربي .

العولمة الليبرالية الغربية الحديثة ، الحضارة الأطلسية نفسها ، برنامجها الجيوسياسي والجيواستراتيجي في شكل حلف الناتو ، وفي النهاية ، النظام العالمي أحادي القطب نفسه هو تتويج لـ “التقدم” التاريخي ، كما تقرأه الحضارة الغربية نفسها. إن هذا النوع من “التقدم” هو الذي أصبح موضع تساؤل من خلال الحرب في أوكرانيا .

إذا واجهنا ذروة الحركة التاريخية للغرب نحو الهدف الذي تم تحديده قبل 500 عام وتبين أنه قد تحقق تقريبًا اليوم ، فإن انتصارنا في الحرب سيعني – لا أكثر ولا أقل – تغييرًا حادًا في مجمل تاريخ العالم. كان الغرب يتجه نحو هدفه ، وفي المرحلة الأخيرة ، أحبطت روسيا هذه المهمة التاريخية ، وحولت “عالمية” المفهوم الغربي “للتقدم” إلى ظاهرة إقليمية خاصة محلية ، وحرمت الغرب من حق تجسيد الإنسانية ومصيرها.

هذا ما هو على المحك وما يتم تقريره اليوم في خنادق جبهات الحرب في أوكرانيا.

5) حرب أوكرانيا في سياق الأزمة العالمية للرأسمالية

الحضارة الغربية الحديثة توصف أنها رأسمالية. إنها تقوم على القوة المطلقة لرأس المال وهيمنة التمويل والفائدة المصرفية. لقد أصبحت الرأسمالية مصير المجتمع الغربي الحديث منذ اللحظة التي انفصلت فيها عن التقليدية” التي ترفض الهوس بالجوانب المادية للوجود ، وأحيانًا تقيد بشدة بعض الممارسات الاقتصادية (على سبيل المثال ، نسبة الفائدة) باعتبارها شيئًا كافرا وغير عادل وغير أخلاقي .

فقط من خلال التخلص من المحظورات الدينية تمكن الغرب من دخول الرأسمالية بشكل كامل. الرأسمالية لا تنفصل لا تاريخيًا ولا عقائديًا عن الإلحاد والمادية والفردية ، وهي أمور غير مسموح بها عمومًا في التقاليد الروحية والدينية الكاملة.

كان التطور المنفلت للرأسمالية هو الذي قاد الحضارة الغربية إلى التشظي والتشتت وتحويل جميع القيم إلى سلعة ، وفي النهاية إلى مساواة الإنسان بشيء ما مادي.

اعترف الفلاسفة الذين ينتقدون الغرب الحديث بالإجماع “بالعدمية” في مثل هذا الاختراق الرأسمالي للحضارة. أولاً ، كان هناك “موت الله” ، ومن ثم ، منطقياً تماماً ، “موت الإنسان” ، الذي فقد أي محتوى ثابت بدون الله. ومن هنا جاءت نظرية “ما بعد الإنسانية” والذكاء الاصطناعي والتجارب لدمج الانسان بالآلة . هذا هو تتويج “التقدم” في تفسيره الليبرالي- الرأسمالي.

الغرب الحديث – هو انتصار الرأسمالية التي بلغت ذروتها التاريخية. ومرة أخرى ، فإن الإشارة إلى الجغرافيا السياسية توضح الصورة بأكملها: حضارة البحر ، قرطاج ، نظام الأوليغارشية استندت إلى القوة المطلقة للمال. لو لم تنتصر روما في الحروب “البونيقية” ، لكانت الرأسمالية قد أتت قبل ذلك بآلاف السنين. فقط الشجاعة والشرف والتسلسل الهرمي والعبادة والروح والقدسية لروما يمكن أن توقف محاولة الأوليغارشية القرطاجية لتأسيس نظامها العالمي الخاص بها.

تبين أن ورثة قرطاج (الأنجلو ساكسون) كانوا أكثر نجاحًا وعلى مدى القرون الخمسة الماضية تمكنوا أخيرًا من تحقيق ما فشل أسلافهم الروحيون في فعله: فرض الرأسمالية على الإنسانية.

بطبيعة الحال ، فإن روسيا اليوم لا تتخيل حتى عن بعد أن الحرب – هي تمرد ضد رأس المال العالمي و سلطاته المطلقة.
وهذا بالضبط ما هي عليه.

6) حرب أوكرانيا في سياق نهاية الزمان

عادة ما ننظر إلى التاريخ على أنه “تقدم” . ومع ذلك ، فإن مثل هذه النظرة لجوهر الزمن التاريخي لم تتجذر إلا مؤخرًا ، بدءًا من عصر التنوير. يمكننا القول أنه لأول مرة تمت صياغة نظرية كاملة للتقدم في منتصف القرن 18 من قبل الليبرالية الفرنسية “آن روبرت جاك تورجو” (1727-1781). منذ ذلك الحين ، أصبحت عقيدة ، على الرغم من أنها كانت في البداية جزءًا فقط من الأيديولوجية الليبرالية ، التي لم يتقاسمها الجميع.

من وجهة نظر “نظرية التقدم” ، تمثل الحضارة الغربية الحديثة قمة تطورها. هذا مجتمع يتحرر فيه الفرد عمليًا من جميع أشكال الهوية الجماعية ، أي أنه حر بشكل مطلق – بدون الدين والعرق والدولة والممتلكات ، وحتى من الجنس ، وغدًا – من الانتماء إلى الجنس البشري. هذه هي آخر الحدود التي صمم “التقدم” ليصلها .

علاوة على ذلك ، وفقًا لعلماء “المستقبل” الليبراليين (futurology) ، ستكون هناك لحظة من “التفرد” (singularity) ، حيث سينقل الانسان “عصا” التطور إلى الذكاء الاصطناعي. في يوم من الايام (وفقًا لنظرية التقدم نفسها) ، نقلت القردة “عصا” سباق التتابع إلى الجنس البشري. اليوم ، البشرية ، التي تصعد إلى المرحلة التالية من التطور ، مستعدة لنقل المبادرة إلى “الشبكات العصبية”. هذا هو بالضبط ما يقود إليه الغرب المعولم الحديث مباشرة. (Neural networks).

لكن إذا تجاهلنا الأيديولوجية الليبرالية للتقدم وتحولنا إلى النظرة الدينية للعالم ، فسنحصل على صورة مختلفة تمامًا. المسيحية ، مثل الديانات الأخرى ، ترى في تاريخ العالم تراجعا وابتعادا عن الجنة. وحتى بعد مجيء المسيح وانتصار الكنيسة عالميا ، يجب أن يأتي وقت الردة (ابوستاسيا) ، محن قاسية ، ومجيء المسيح الدجال ، ابن الهلاك.

هذا مقدر أن يحدث ، لكن المؤمنين مدعوون حتى في مثل هذه الظروف الصعبة للغاية للوقوف على حقيقتهم ، والبقاء مخلصين للكنيسة ولله ، ومقاومة المسيح الدجال .
ما يعتبر بالنسبة لليبرالي هو “التقدم” فبالنسبة للمسيحي هو ليس مجرد “تراجع”، ولكنه محاكاة ساخرة شيطانية.

المرحلة الأخيرة من “التقدم” – الرقمنة الكاملة digitization ، الهجرة إلى “الميتافيرس” (metaverse)(كما يحدث في فيلم Avatar الشهير)، إلغاء النوع الاجتماعي والتغلب على الإنسان بنقل المبادرة إلى الذكاء الاصطناعي – في نظر المؤمن بأي دين سماوي ، هذا تأكيد مباشر على أن “المسيح الدجال” قد جاء إلى العالم وهذه حضارته.

لذلك نحصل على بُعد آخر لحرب أوكرانيا ، والذي يتم التحدث عنه بشكل متزايد بشكل مباشر من قبل رئيس روسيا ، ووزير الخارجية ، وسكرتير مجلس الأمن القومي ، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية ، وغيرهم من كبار المسؤولين في روسيا ، الذين ، على ما يبدو ، بعيدون تمامًا عن أي تصوف أو نبوءة. لكن هذا هو بالضبط: إنهم يؤكدون الحقيقة الخالصة ، والتي تتوافق مع نظرة المجتمع التقليدي إلى العالم الغربي الحديث.

وهذه المرة لا نتحدث عن ميتافورا (استعارة)، تبادلتها في الماضي الأطراف المتصارعة فيما بينها .
الآن هو شيء أكثر من ذلك . لم تكن الحضارة الغربية أبدًا ، حتى في العصر الحديث ، قريبة جدًا من التجسيد المباشر والصريح لمملكة المسيح الدجال. لقد تخلى الغرب عن الدين وحقائقه منذ زمن بعيد ، وانتقل إلى العلمانية العدوانية والنظرة المادية الملحدة ، التي أصبحت الآن تؤخذ كحقيقة مطلقة.
ولكن لم يسبق له أن اعتدى على طبيعة الإنسان ، ولم يحرمه من النوع الجنسي والأسرة ، وقريباً – من الطبيعة البشرية نفسها. قبل 500 عام ، شرعت أوروبا الغربية في بناء مجتمع بدون الله وضد الله ، لكن هذه العملية وصلت إلى ذروتها الآن فقط. هذا هو بالضبط الجوهر الديني – الأخروي للأطروحة حول “نهاية التاريخ”.

في الواقع ، هذا إعلان تم التعبير عنه بلغة الفلسفة الليبرالية حول مجيء “المسيح الدجال”. على الأقل هذا ما يبدو عليه الأمر في أعين الناس من الطوائف الدينية المنتمين إلى مجتمع تقليدي.

إن حرب أوكرانيا هي بداية المعركة الأخروية بين التقليدي المقدس والعالم الحديث ، والتي وصلت إلى أكثر تعبيراتها الشريرة والسامة والراديكالية على وجه التحديد في شكل أيديولوجية ليبرالية وسياسة العولمة . لهذا السبب نتحدث بشكل متزايد عن هرمجدون – آخر معركة حاسمة بين جيوش الله والشيطان.

دور أوكرانيا – مسرح المعركة الفاصلة

في جميع مستويات تحليلنا ، اتضح أن دور أوكرانيا نفسها في هذه المواجهة الأساسية ، بغض النظر عن كيفية تفسيرنا له ، من ناحية ، هو أساسي (إنها مسرح هرمجدون). من ناحية أخرى ، فإن نظام كييف ليس كيانا مستقلا لا من قريب او بعيد . أوكرانيا مجرد ساحة ، منطقة حيث تلتقي قوتان عالميتان مطلقتان. ما قد يبدو وكأنه نزاع محلي قائم على مطالبات إقليمية ، في الواقع شيء مختلف تمامًا.

لا يهتم أي من الجانبين بأوكرانيا نفسها. المخاطر أكبر بكثير. لقد حدث أن روسيا مقدر لها في تاريخ البشرية مهمة خاصة: الوقوف في وجه حضارة الشر الخالص في لحظة حرجة من تاريخ العالم. وبعد أن بدأت حرب أوكرانيا ، أخذت القيادة الروسية على عاتقها هذه المهمة. إن الحدود بين الجيشين الوجوديين ، بين الاتجاهين الأساسيين لتاريخ البشرية ، تمر بالضبط عبر أراضي أوكرانيا.

وقفت سلطاتها إلى جانب الشيطان: ومن هنا جاءت كل تلك الفظائع ، والإرهاب ، والعنف ، والكراهية ، والقمع الشرس ضد الكنيسة ، والانحطاط والسادية في كييف.
لكن الشر أعمق من تجاوزات النازية الأوكرانية: مركزه خارج أوكرانيا ، وقوى المسيح الدجال تستخدم الأوكرانيين لتحقيق أهدافها.

تبين أن شعب أوكرانيا منقسم ليس فقط على طول الحدود السياسية ، ولكن أيضًا في الروح. وقف البعض إلى جانب حضارة الأرض ، “روس المقدسة” ، إلى جانب المسيح. البعض الآخر عكس ذلك. لذلك انقسم المجتمع على طول الحدود الأكثر جوهرية – الأخروية والحضارية وفي الوقت نفسه الحدود الجيوسياسية. لذا فإن الأرض نفسها ، التي كانت مهد شعبنا، “روس القديمة” ، أصبحت أرض معركة كبيرة ، حتى أكثر أهمية وأكبر من “كوراكشيترا” الأسطورية ، التي وردت في التقاليد الهندوسية .

لكن القوى التي تلاقت في هذا الحقل المصيري، اصولية للغاية لدرجة أنها تتجاوز في كثير من الأحيان أي تناقضات عرقية. هذا ليس مجرد انقسام في الأوكرانيين إلى فريقين : من يحب الروس او يكرههم.
إنه انقسام في الإنسانية على أسس أكثر جوهرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى