أخبار العالمأمن وإستراتيجيةفي الواجهة

أفكار كيسنجر بين المفاوضات والتصعيد!

فهد المضحكي

يعود الحديث حول أوكرانيا بقوة بعد جملة من التصريحات والأحداث، ويبدو واضحا أن هذه الحرب ورغم الثبات النسبي في خطوط تماسها مؤخرًا، إلا أنها أكثر الملفات العالمية نشاطا، لا لأن مصير بلد كأوكرانيا بات معلقا بمسمار هذه «العملية الخاصة»، بل لكون مستقبل العالم الذي نعيش فيه يرسم هناك، في أوروبا وفي كل ساحات الاشتباك الأخرى. هذا ما يراه الكاتب المستنير علاء ابوفراج، والذي طرح سؤالا بالغ الأهمية وهو هل نحن أمام موجة جديدة من التصعيد، أم أمام فرصة لعقد مفاوضات؟ وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يعتقد بعد أن تبين في الأسابيع الماضية أن الأحداث المتداولة عن إمكانية عقد مفاوضات لم تتسم بالجدية الكافية، خصوصا بعد ان ظهرت الشروط الأمريكية لهذه المفاوضات، التي تفرض في جوهرها أن تتصرف روسيا كما لو أنها المهزومة في هذه الحرب، وتتخلى طواعية عن كل التقدم العسكري الذي أحرزته منذ شهر فبراير الماضي. بعد كل هذا، عادت مجددًا الأصوات التي تتحدث عن ضرورة الذهاب إلى مفاوضات، لكنها تتزامن هذه المرة مع خطط تصعيدية خطيرة يروج لها فريق ٱخر. نشر الدبلوماسي ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر مقالًا مقتضبًا في مجلة «The Spectator» البريطانية، اعاد فيه طرح فكرته حول ضرورة الذهاب إلى مفاوضات، وقدم مبادرة جديدة تتقاطع إلى حد كبير مع تلك التي روج لها رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك منذ فترة وجيزة. كيسنجر استنكر وقائع الحرب العالمية الأولى، وكيف كلف «مماطلة» الرئيس الأمريكي – وودرو ويلسون – أوروبا سنوات إضافية من الحرب والدمار، وأكثر من مليوني قتيل، ويلسون حسب الوثائق التي يشير إليها كيسنجر فضل الانتظار، وعدم الدخول في وساطة بين المتحاربين، في الوقت الذي كان عقد اتفاق ممكنا، بسبب قناعة جميع الأطراف بضرورة وقف الاستنزاف الكبير الحاصل في الأرواح والموارد. يقارب كيسنجر بين هذا الحدث التاريخي وما يجري اليوم في أوكرانيا، ويرى أن الوقت حان «للبناء على التغييرات الإستراتيجية التي تم تحقيقها» والانطلاق باتجاه المفاوضات والسلام في سبيل درء احتمالات الصدام الحالي إلى حرب عالمية جديدة. مضيفا: أن روسيا قدمت مساهمات حاسمة في توازن القوى العالمي لأكثر من 500 سنة، ولذلك «لا ينبغي التقليل من دورها التاريخي» حسب تعبيره. وحذر في الوقت نفسه من خطر الدفع الغربي المستمر لتقسيمها وتفتيتها، خصوصا أنها تضم 11 منطقة زمنية. فبحسب كيسنجر ستتحول هذه المساحة الشاسعة إلى «فراغ متنازع عليه» وقد تنشأ نزعات بين أقسامها، وتتحول لاحقًا إلى صراعات مسلحة تستخدم فيها الترسانة النووية الروسية الحالية، ما يشكل تهديدًا عالميًا حقيقيًا. وخلال مداخلة عبر الفيديو في «منتدى دافوس» الاقتصادي، قال كيسنجر إن الحرب الجارية في أوكرانيا «أظهرت أن روسيا على الأرجح ليس لديها القدرة على غزو أوروبا من خلال الوسائل التقليدية». واعتبر أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أظهرت أنه لم يعد هناك مبرر لبقاء أوكرانيا خارج حلف شمال الأطلسي «الناتو»، رغم أنه كان في السابق من المعارضين، لإنضمام كييف إلى الحلف.

كلام كيسنجر المتناقض قد يكون أكثر مناورة أمريكية جديدة، تخفي خلفها محاولة لردع روسيا استراتيجيا، فيما يقترحه فعليا هو حصول روسيا على القرم، وأن تعيد الأمم المتحدة الاستفتاءات – في الأقاليم والمناطق الأربع – التي جرت ضمها مؤخرًا، تحت بند تقرير المصير، والفكرة الأخيرة والأهم هو أن تنضم أوكرانيا إلى الناتو، وهو ما يعني أن تقبل موسكو وجود الحلف وتوسعاته العدوانية على حدودها، في مقابل «أجزاء مغرية» من خريطة أوكرانيا. هذه المبادرة لا تعتبر «مبادرة سلام» رسمية بعد، لكنها لا تعبر عن أفكار كيسنجر أو حتى ماسك من قبله! بل تعكس استشعارا عالميا للخطر لدى صناع القرار الأمريكي، فهؤلاء يدركون أن استمرار المعركة لن يؤدي إلا لاقتراب روسيا من أهدافها الاستراتيجية المعلنة، ولهذا يصرون على ضرورة وقف عملية تفكيك النظام العالمي وأدواته، التي تقودها موسكو إلى جانب حلفائها، محاولين في طروحات كهذه مغازلة التيار الليبرالي داخل روسيا، والذي ارتبطت مصالحه مع مصالح الغرب، وتناقض في الوقت نفسه مع تفكيك «النظام القائم على القواعد» الذي فرضته واشنطن. الرد الروسي على أفكار كهذه جاء على لسان مدير دائرة امريكا الشمالية في الخارجية الروسية ألكسندر دارتشييف، والذي نسف الأسس المقترحة لهذه المفاوضات، ووضع موضوعا جديدا لها. ففي تصريحاته إلى وكالة تاس الروسية، قال المسؤول في وزارة الخارجية: إن المحادثات ستكون سابقة لأوانها «قبل توقف تدفق الأسلحة والتمويل لنظام زيلينسكي، وانسحاب الجنود المرتزقة المدربين من أمريكا وحلف شمال الأطلسي»، مؤكدا ضرورة «الأعتراف بالحقائق التي حددتها روسيا على الأرض» كشرط ضروري لأية مفاوضات، والتي ستناقش حسب دارتشييف كافة «الضمانات الأمنية فيما يتعلق بأوكرانيا والمنطقة الأوروبية الأطلسية»، في إشارة إلى المبادرة الروسية في هذا الخصوص.

لا شك أن مبادرة كهذه تتعارض مع أجندة التصعيد التي يتمسك بها التيار المهيمن في واشنطن، والذي يضع القوميين الأكورانيين في الواجهة، كما لو أنهم أصحاب الكلمة الفصل! فقد شنت مواقع إعلامية أوكرانية حملة جديدة ضد كيسنجر. واكتملت أركان هذه الحملة مع وصول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن، ليعلن أجندة مختلفة وبعيدة كل البعد عن المفاوضات. زيلينسكي وفي كلمة أمام الكونغرس الأمريكي، استخدم جملا خطابية رنانة، مؤكدا ضرورة الدعم الأمريكي لبلاده، معتبرا أن ما تقدمه واشنطن لا يعتبر «صدقة» بل بمثابة «استثمار في الأمن العالمي والديمقراطية» معلنا، أن كل حزمة أو شحنة جديدة من المساعدات سيتبعها طلبا أوكرانيا بتقديم المزيد! شاكرا إعلان الرئيس جو بايدن عن حزمة مساعدات جديدة، تتضمن منظومة باتريوت الأمريكية. ففي حوار أجرته الإيكونومست البريطانية مع القائد العام للقوات المسلحة لأوكرانيا الجنرال فاليري زالوجني أشار إلى صورة قاتمة لحال الجيش الأوكراني، الذي يستطيع الصمود، حسب اعتقاده، لكنه لن يستطيع القتال في المعارك المتوقعة في بداية الربيع القادم. ولذلك أعلن قائمة الطلبات المستعجلة التي ينبغي تأمينها، وهي دبابات ومدافع هاوتزر، بالإضافة إلى الذخائر الضروية. الجنرال الأوكراني أعلن بوضوح أن هذا العتاد هو الطريق الوحيد لاستعادة كل الأراضي التي يسيطر عليها الجيش الروسي، بما في ذلك القرم، ما يشير إلى أن صقور واشنطن لا يزالون مصريين على تحديد الهدف النهائي من هذه الحرب، وذلك بحرق ٱخر جندي أوكراني في معركة خاسرة، أملا في تحقيق أكبر كم من الاستنزاف لروسيا، وبقية الدول الأوروبية المنخرطة في هذا الصراع. فوضع أهداف غير قابلة للتطبيق يعني الإصرار على استمرار الصدام الدموي إلى حدوده القصوى. تصريحات دارتشييف تقول: إن روسيا لن تدخل مفاوضات إلا إذا كانت حول الضمانات الأمنية التي تقدمت فيها موسكو سابقًا، والتي تضمن في حدها الأدنى حياد أوكرانيا، وتخلي الناتو عن الأراضي التي توسع فيها باتجاه الشرق، بالإضافة إلى سحب الأسلحة النووية الأمريكية من القواعد الأوروبية. وإذا كان هذا الخيار مايزال بعيدًا عن طاولة المفاوضات، فما ينتظرنا سيكون مزيدًا من التصعيد، وهو ما يبدو أن روسيا تتحضر له بشكل واسع، فالزيارة الأخيرة للرئيس الروسي إلى بيلاروسيا لا يمكن قراءتها إلا بوصفها تدعيم جهود التعاون الاقتصادي والعسكري والذي وصل حد الإعلان عن إنشاء مجال دفاعي موحد بين البلدين. من جهة أخرى تفرض المهام الكبرى الموضوعة على طاولة التنفيذ، تعاونًا واسعًا في كافة المجالات، بين روسيا وكل أصحاب المصلحة في تفكيك الهيمنة الغربية في دول البريكس والقوى الأخرى المؤثرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى