مجتمعولايات ومراسلون

يناير مناسبة لتلاقي الأسر الأغواطية والتفافهم حول جفنة “الكسكسي”

الأغواط – يناير مناسبة لتلاقي الأسر الأغواطية والتفافهم حول جفنة “الكسكسي”

يكتسي الاحتفال برأس السنة الأمازيغية في الأغواط منذ القديم، بإحياء طقوس وعادات خاصة تسمى محليا “تخلاط البرم” وذلك احتفالا بالسنة الفلاحية، في 12 جانفي، يناير، حيث تجمع ربات البيوت كل أنواع الخضار المنتجة محليا أو تلك التي تتوفر بالأسواق ووضعها في قدر واحد يضاف إليها أحد أنواع اللحوم والكسكس، والطريف فيها أن ربات البيوت تضعن حبة فول أو نواة تمر واحدة في القدر، على اعتبار أن الذي يجدها في صحنه يكون هذا العام من السعداء..

كلما حلت المناسبة اجتهدت “عجائز” الأغواط في تحضير طبق “الكسكس” الذي يتجمع حوله كل أفراد الأسرة وكلهم تفاؤل بحلول سنة جديدة أملهم في الحصول على حبة الفول أو نواة التمر المدسوسة في المرق، وقد يروي البعض حكايات جميلة مرت عليه في السنة الفائته ويتذكرون من غاب عنهم في السنة الجديدة..

الجميل في المناسبة أن ربات البيوت تحضر جميع أنواع التوابل التي تضاف إلى المرق وأشهى أنواع اللحوم والبيض أما الكسكس فكانت في السابق “يفتل” ويجفف حتى يستعمل لاحق ويكون إما من دقيق القمح أو الشعير أما اليوم في يشترى من محلات البقالة جاهزا من غير عناء أو اجتماع للنسوة اللواتي يتعاون فيما يسمى بـ”التويزة” حيث تجتمع الجارات في منزل واحد ويحضرن ما يكفي العائلة من “كسكس” مدة طويلة من السنة ويقضين نهارهن في جون من التعاون مليء بالفرحة التي تصنعها الحكايات والنكت والزغاريد والترانيم أحيانا ببعض الألحان والمدائح الدينية التي تتخللها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

المناسبة لها ارتباط وطيد بالفترة الاستعمارية خاصة في سنين الجمر التي عاش فيها الشعب الجزائري أحلك أيامه تحت ضيم الاستدمار الذي فرضه الفرنسيون، حين انتشرت الأوبئة والأمراض التي فتكت بآلاف الجزائريين الرافضين لسياسة الاستعمار الغاصب ومن أبرزها مرض “التيفيس”، جراء تفشي المجاعة والفقر، وأن المغزى من الاحتفال بهذه المناسبة كسر المجاعة في ذلك الوقت خلال أربعينيات القرن الماضي حيث تعمد ربة البيت إلى جمع كل ما يطبخ في القدر المعروف محليا بـ “البرمة” وإخفاء حبة فول أو نواة تمر بين الخضار المطهي وما توفر من أنواع اللحوم والقصد من وضع تلك الحبة في القدر أو الجفنة “القصعة” هو جعل الأطفال يتناولون الكثير من الطعام لأن من عادة الأطفال العزوف عن تناول الخضار، وإيهامهم بأن من يجد حبة الفول “النيئة” أو نواة التمر يكون من بين السعداء في العام الجديد، وليس هناك من مبرر غير ذلك في وضع حبة الفول أو نواة التمر، كما أنها فرصة لجمع العائلة الموسعة في ليلة مباركة يتبادلون فيها الحكايات والنكت ويطمئنون فيها على أحوال بعضهم البعض..

ويقال يروي الأمازيغ أن المناسبة تعود لبسط الأمازيغ نفوذهم على شمال إفريقيا من جزر الكناري حتى واحة سيوة بعد أن وسع الزعيم الأمازيغي “شيشناق” نفوذه على مصر التي كانت تحت حكم الفراعنة أنذاك..

يناير 2023 ميلادية الموافق لـ 2972 أمازيغية، هي السنة الجديدة التي حيكت أحداثها ونسجت تفاصيلها في ثوب جملة من الأساطير والخرافات التي لا يكاد يصدقها المنطق، إلا أن القيم المستقاة من الاحتفلات بالسنة الأمازيغية أو السنة الفلاحية، قيم حميدة تجمع بين التكافل، التعاون، التسامح، ونبذ الخلافات والضغائن، تستحضرها الأسر ولو ليوم واحد من خلال اجتماع كل أفراد العائلة على مائدة عشاء يحضر فيه الكسكس على اعتبار أنه الطبق المميز والتقليدي الرئيسي الذي يعتز به سكان المنطقة ويعتبرونه رمز الغذاء المتكامل ويقول المثل الشعبي بالأغواط “الطعام همة ولو على الماء” ، وتسوده مظاهر ملؤها الحب والتفاهم والإيخاء.

“ينّاير” أو “الناير” هي التسمية التي يطلقها الأغواطيون على العام الفلاحي أو الأمازيغي الجديد الذي يحتفلون به أساسا لكونه إرثا وتراثيا ثقافيا لامادي، فلا مجال من الاستغناء عنه، خاصة وأنه يؤرخ لتقويم يعود لفترة ما قبل الميلاد، ولا يبال الأغلبية منهم بتلك الأساطير التي تطرح الكثير من علامات التعجب أمام عقول الكبار قبل الصغار، إلا أن الأهم بالنسبة لهم التمسك بالعادات والتقاليد والحفاظ عليها من الاندثار والزوال في زمن تكاد التكنولوجيات الحديثة أن تزيحه رغم ما أنه يحمل في طياته جانب من مقوّمات هويتنا الجزائرية لا فرق فيها بين الأمازيغي والعربي..

يجد الفلاحون والمزارعون في المناسبة موسم لحرث الأرض وزرعها، ولأن السنة الأمازيغية تتوافق مع بداية التقويم الفلاحي، والذي يعلن نهاية الاعتدال الخريفي وبداية الانقلاب الشمسي الشتوي يستبشر المحتفلون بالعام الجديد بموسم فلاحي خصب، يدر عليهم خيرات الأرض وبركاتها، ويعكس هذا الاعتقاد حتما مدى اقتران الفرد الأمازيغي بخدمة الأرض وزراعتها، مبعدا بذلك شبح الجوع والعوز عن السنة الجديدة، ويستبشر فيها بوفرة للمحاصيل الزراعية…

غانم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى