هل هناك مدرسة اقتصادية مصرية ؟
أحمد فاروق عباس
مهنة الاشتغال بعلم الاقتصاد لها الآن فى مصر ١٠٠ عام ، قرن من الزمان تقريبا ..
وذلك عندما بدء الجيل الأول من الاقتصاديين المصريين فى الظهور ، في فترة ما بين الحربين ..
جيل كان اعلامه رجال مثل : عبد الحكيم الرفاعى ، وراشد البراوى ، وعبد المنعم القيسونى ، وعلى الجريتلى وعبد الجليل العمرى ..
ثم جاء في الخمسينات وما بعدها جيل ثان ، كان من أبرز رجاله سعيد النجار وإسماعيل صبرى عبد الله وفؤاد مرسى ورفعت المحجوب ولبيب شقير … وغيرهم .
ثم تتابعت الأجيال فى مسارات الاقتصاد المصرى ، سواء فى العمل الأكاديمي في الجامعة ، أو العمل الحكومى فى المؤسسات والوزارات الاقتصادية ..
وهناك فى هذا الشأن دراسة ممتازة كتبها الدكتور جلال أمين عن تطور علم الاقتصاد فى مصر ، من عشرينات وحتى تسعينات القرن ٢٠ ، ونشرها فى كتابه الجميل ” ماذا حدث للمصريين ” ..
وهناك مشكلة تواجه الاقتصاد المصرى منذ عقود ، وهى أنه لا توجد في مصر مدرسة اقتصادية مصرية مستقلة ، بمعنى أن مشكلات مصر الاقتصادية العميقة لا تجد حلها في أغلب كتابات الاقتصاديين المصريين سوى نقلا عن كتابات ونظريات كتاب من الغرب أو من الشرق ، درسوا في الغالب ظروف مجتمعاتهم هم ، وقدموا اجتهاداتهم في ضوء ما درسوه ، ودرسنا نحن فى جامعاتهم وتأثرنا بهم ، أو ترجمنا ما كتبوه ..
وقليل هم المصريون من درسوا بعمق ظروف المجتمع المصري وقدموا جهودا أصيلة في هذا الشأن ..
وفى خطاب ألقاه الرئيس عبد الناصر فى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية لإعداد الميثاق أواخر عام ١٩٦١ ذكر ان البعض عاب عليه أن ثورة يوليو لا تمتلك نظرية اقتصادية ..
وكان عبد الناصر من الذكاء أن قال أن علماء الاقتصاد فى مصر هم أولى بهذه المهمة ، فعليهم دراسة ظروف بلدهم الاقتصادية وتقديم اجتهاداتهم في هذا الشأن ، وليست السلطة هى المسئولة عن دراسة الأوضاع ..
وطبقا لكلام عبد الناصر فإن النظرية تأتى من دراسة المشكلات ثم التفكير في حلها ، وحتى الآن – والكلام مازال لجمال عبد الناصر – لا توجد دراسة حقيقية وعلمية لمشكلات مصر ، وبالتالى ليست هناك نظرية اقتصادية للتعامل مع مشكلات مصر وطرق حلها ..
ونقطة أخرى مهمة ..
وهى أن ما يدرس في مصر هو موضوعات أو نقاط اقتصادية متفرقة .
ولا تستطيع مثلا أن تبحث عن مرجع معين لتفهم منه ماذا حدث أو ماذا يحدث في الاقتصاد المصرى فى مجمله أو مجموعه ..
ربما تجد كتابات عن التضخم في مصر ، أو عن عحز الموازنة فى مصر ، أو مشكلة الديون فى مصر ، أو الاستثمار الأجنبى ، أو السياسة المالية أو النقدية .. إلخ .
نقاط فرعية أو متفرقة ، ولا يجمعها بناء واحد ، يفهم منه تطور الاقتصاد المصرى فى مجموعه ..
فهى مجرد بحوث فرعية لنقاط معينة ، ولكن لا يستطيع مصرى أو أجنبى أن يجد كتابا – والمفروض أن يجد كتبا – عن الاقتصاد المصرى فى مجموعه ، ككل وليس نقاطا متفرقة بين مئات الدراسات والابحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه ..
وربما كان هذا منطقيا في رسائل الماجستير والدكتوراه ، حيث يتقدم الدارس لدراسة موضوع معين ، له حدود معينة ، وفى إطار سنوات محددة ..
إن مئات رسائل الماجستير والدكتوراه تنام بعمق في أرفف المكتبات الجامعية – وبعضها جيد وبعضها الاخر ممتاز – وفى النهاية لا تجد طريقها للقارئ العام أو المهتم ..
ولكن اين الكتب والمراجع الاشمل ، أين يذهب الإنسان لكى يفهم قصة الاقتصاد المصرى ، وفى اى مكان يبحث الإنسان المصرى العادى لكى يفهم اقتصاد بلده ؟!
فلكى يعرف الإنسان شيئا عن الاقتصاد الأمريكي مثلا سيجد أمامه مئات الكتب ، منها مثلا كتاب ” إمبراطورية الثروة .. التاريخ الملحمى للقوة الاقتصادية الأمريكية ” وقد ذكرته لأنه ترجم إلى اللغة العربية ، وصدر عن عالم المعرفة بالكويت ..
نقطة ثانية ..
إن جزءا كبيرا من تاريخنا الاقتصادى يمثل مناطق بكرا ، لم يدرسها أحد ، ليس فقط الفترة الملكية ، ولا عصر عبد الناصر أو السادات ، بل إن فترة قريبة وشديدة الأهمية والخصوصية كعصر مبارك لم يدرسها – اقتصاديا – أحد ..
والنتيجة أننا نتخبط بين العصور ، وأغلب كلامنا مجرد انطباعات ، أو معلومات مأخوذة من كتابات صحفية سريعة ، أو من أجانب لم يكن حسن النية متوفرا فى كثير منهم ..
أى أننا تركنا تاريخنا الاقتصادى يكتبه غيرنا ، متأثرين بمصالح دولهم ، ونقرأ نحن عنهم ونأخذ منهم ، وبواسطتهم نفهم تاريخنا !!!
ومن هنا يستطيع أى مهرج أن يقل أى شئ ، وسيجد دوما من يصدقه ، بل ومن يصفق له !!
إن ما يفعله رجال الاقتصاد فى مصر هو تدريس ما تعلموه فى كتب الاقتصاد ، ومن هنا ظهر عندنا علماء اقتصاد درسوا في أمريكا أو بريطانيا ، وأصبحوا بالتالى مؤمنين تلقائيا بالرأسمالية كطريق وحيد للتقدم ..
بينما درس آخرون الاقتصاد فى الاتحاد السوفيتي أو فى دولة من دول أوربا الشرقية ، وأصبحوا تلقائيا بعد ذلك مؤمنين بالماركسية ، وكلاهما يريد تطبيق ما تعلمه في الكتب على واقع وظروف مجتمع مختلف تماما ..
أما ظروف وواقع المجتمع المصري فى أعماقه البعيدة فلم يدرسها أحد بتأنى وروية وعمق ، وقدم بعد ذلك اجتهاداته بشأنها ..
فهل يعقل أنه لا توجد دراسة اقتصادية مصرية واحدة عن مشروع السد العالي ، وأثره في الاقتصاد المصرى ؟!
هل من المعقول أنه لا توجد دراسة اقتصادية – وليست دراسات – عن قناة السويس ومنطقتها ، وأثرها وتطورها ومستقبلها !!
فلم يتقدم احد بدراسة بقوة وعمق ما كتبه الدكتور مصطفى الحفناوى ، على الرغم من غلبه الأجزاء القانونية والسياسية عليها ..
هل من المعقول أنه لا توجد دراسة مصرية واحدة تتحدث بتفصيل وبعمق عن علاقة الجيش بالاقتصاد في مصر ، وعن الدور الاقتصادى للقوات المسلحة فى مصر ، وهو تقريبا موضوع مستمر منذ الستينات وحتى هذه اللحظة !!
وهو تقريبا موضوع الساعة فى مصر فى العقد الأخير ..
وعلى المستوى الشخصى فقد اقترحت أكثر من مرة على زملاء لى فى القسم أن يدرس أحد منهم هذا الموضوع شديد الأهمية ، للماجستير أو الدكتوراه ، فلم يتحمس أحد ، بينما خاف آخرون !!
وعندما كنت أقول لهم إننا – كاقتصاديين – لا علاقة لنا بالسياسة ، ولكن سندرس الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة ، فمن غير المعقول أن تصبح علاقة الجيش بالاقتصاد أحد المعالم الرئيسية في الاقتصاد المصرى فى السنوات الأخيرة ، ولا يتقدم اقتصادى مصرى واحد ليقل كلمة فى هذا الموضوع !!
فإذا لم نتقدم نحن .. فمن يتقدم ؟!
وإذا لم نتكتم نحن .. فمن يتكلم ؟!
إن كل من يتكلم في هذا الموضوع لا يجد أمامه إلا دراسات كتبها أجانب ، عن موضوع يخص صميم الشئون المصرية ، وخاصة دراسات الدكتور يزيد الصايغ في موضوع الاقتصاد العسكرى ، وهو أبعد من أن يكون محايدا في هذا الشأن ..
ومرة ثانية لم يتقدم احد !!
وكانت النتيجة أن أخذت هذا الموضوع ، وكتبت فيه دراسة متوسطة الحجم – ١٠٠ صفحة تقريبا – كان عنوانها ” القوات المسلحة والاقتصاد .. دراسة للدور الاقتصادى للقوات المسلحة المصرية ” ..
ونشرتها فى مجلة مصر المعاصرة ، وهى واحدة من أقدم وأعرق المجلات الاقتصادية فى مصر والشرق ، وتصدر عن الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء ، وكان ذلك عام ٢٠١٩ ..
هل من المعقول إلا يدرس أحد إقتصاد الحرب فى مصر فى سنوات ١٩٦٧ – ١٩٧٣ ، أو اقتصاد السلام بعد ١٩٧٩ ، وعن طبيعة علاقات مصر الاقتصادية مع إسرائيل ، وخصوصا مع الكلام الذى ظهر فى التسعينات مرة ، ومن سنتين مرة أخرى عن السلام الاقتصادى فى الشرق الأوسط ..
وما طبيعة دور مصر واقتصادها فى تلك العصور الجديدة ؟!!
وماذا يراد منها بالضبط ، وهل ما يراد منها اقتصاديا يمكنها تقديمه أو التعامل معه ؟!
لم يتقدم احد ويدرس ذلك !!
هل من المعقول الا نعرف أو نفهم ماذا حدث فى الاقتصاد المصرى فى عهد الرئيس عبد الناصر سوى من كتاب باتريك اوبريان الشهير ” ثورة النظام الاقتصادى فى مصر ” وهو أهم وارقى دراسة كتبت عن الاقتصاد المصرى فى عصر عبد الناصر !!
أو كتاب روبرت مابرو ” الاقتصاد المصرى ١٩٥٢ – ١٩٧٢ ” الذى نشره في منتصف السبعينات .
ولا نجد كتابات مصرية على نفس العمق والجدية ؟!
وقبل عصر عبد الناصر ، هل من المعقول أنه لا توجد دراسة مصرية واحدة عن موضوع شديد الأهمية مثل الأرصدة الاسترلينية ، التى كانت مصر دائنة بريطانيا بها ؟!
أن قيمة تلك الاموال تصل إلى نحو ٤٥٠ مليون جنيه استرليني – نصف مليار تقريبا وبأسعار الأربعينات – وكيف ضاعت تلك الاموال علينا وأكلتها بريطانيا ، ولم تستخدم فى تنمية مصر ؟!
وكيف سمح ذاك بالادعاء فيما بعد أن مصر كانت دولة متقدمة جدا فى العصر الملكى ، بدليل أن مصر كانت تقرض أكبر وأعظم دول العالم وقتها .. بريطانيا العظمى !!!
هل من المعقول أن عصر الرئيس السادات لم يدرس اقتصاديا بصورة جادة حتى الآن ، وأن أهم دراسة كتبت عنه هى كتاب الأستاذ عادل حسين ” الاقتصاد المصرى .. من الاستقلال إلى التبعية ” وعادل حسين صحفى وليس اقتصاديا ، وعلى الرغم من الجهد الكبير والمتميز في كتابه ، إلا أن اعتماده الرئيسي كان على الكتابات الصحفية في ذلك العهد ..
هل من المعقول أن عصر الرئيس حسنى مبارك لم يدرس اقتصاديا حتى الآن ؟!!
فماذا حدث للقطاع العام في عهده مثلا ، ولماذا وكيف تمت تصفيته ، وكيف تمت خصخصة مشروعات الدولة ، والديون ، والتكيف الهيكلى ، وماذا جرى للقطاع الصناعى في عهده ، وكيف بدء القطاع الخاص وكيف توسع ، وفى أى الأنشطة عمل ، وما الذى اضافه إلى الاقتصاد المصرى ، والاستثمار الأجنبى وقصته في مصر … إلخ .
كل تلك موضوعات لم يتقدم احد ويشرح للمصريين ماذا حدث بالضبط فيها ، حتى نبنى ونتقدم ونحن على نور ..
ثم ..
كيف يتقدم إنسان بجهد أو بنصيحة فيما يخص الاقتصاد المصرى ، الآن أو فى المستقبل ، وهو لا يعلم ماذا حدث فيه فى الأمس القريب ، وليس حتى فى الأمس البعيد ..
ان التاريخ المرضى هو أول ما يبحث عنه الطبيب الماهر عند فحصه لمريضه ، وإذا لم يفهم ماذا حدث معه بالأمس من مشاكل ، وكيف تم التعامل معها ، فكيف يكتب له الدواء الشافى ؟!
مشكلة ثانية ..
إن الكتابات في مصر فى الاقتصاد ، خاصة فى الماجستير والدكتوراه ، فى السنين – وربما فى العقود – الأخيرة ينقصها العمق الكافى ..
وقد عم داء الاستسهال الجميع ، وليس لدى الغالبية نية التعب في بحثه ودراسته ، وزاد الأمر مع انتشار الانترنت ، حيث الحصول على المعلومة أصبح بضغطة زر ، ولم يعد أحد مستعدا للاستيعاب والهضم ، قبل الكلام وتقديم الحلول ..
وزاد ضغط الظروف الاقتصادية على الجميع ، ولم يعد أحد – فى الأعم – متفرغا لمهنته الاصلية ، بل أصبح توفير الحياة الكريمة له ولأسرته همه الأول ..
مشكلة ثالثة ..
وهى عرض من أعراض التبعية الفكرية والانبهار بكل ما يأتى من الغرب ، بغض النظر عن قيمته الحقيقية ، وهى أننا أصبحنا نتلقف مصطلحات وشعارات اقتصادية تم صكها وإعطائها شعار الجودة في الغرب ومؤسساته الأكاديمية ، وتلقينا نحن منتجاتهم الفكرية – مثلما نتلقى منتجاتهم المادية – بانبهار معتاد ..
ولدى قائمة كاملة لموضوعات اخترقت حياتنا الاقتصادية ، وأصبح كثيرون يلهثون وراءها بلا تدبر أو تأنى ..
وليس لدى ثقة كبيرة أن هذه المصطلحات البراقة تحمل معانى أكثر عمقا ، إن أغلبها إعادة صياغة جديدة لموضوعات قديمة ، ويراد دفعها إلى مقدمة المسرح ..
ولن أذكر هذه الموضوعات والمصطلحات بالتحديد ، فلدى مجموعة من الأصدقاء يعملون ويهتمون بهذه الموضوعات ، وأرجو أن يعذرنى أصدقاء اعزاء واحباب يعملون في هذه المجالات ، دراسة او تطبيقا ..
الفاظ وتعبيرات تمثل موضة تأتى وتأخذ وقتها وتمضى ، مثلما مضت تعبيرات ومصطلحات راجت قديما وفى فترات مختلفة مثل الثورة الخضراء ( ويقصد بها إحداث ثورة فى الزراعة ) ومثل قصة المؤشرات التى اخترغتها المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى في الغرب – وللأمريكان ونظرتهم للأمور سيطرة كاملة عليها – وهى مؤشرات تغطى كل شئ تقريبا ، وتقوم بترتيب الدول طبقا لمعايير معينة ، وتفرح كثير من تلك الدول بتقدمها على هذا المؤشر أو ذاك !!
والكل يجرى وراء الرائج ووراء الموضة ، ويبذل جهدا ربما كان يستحق أن يوجه إلى مناطق أخرى أكثر فائدة وجدوى ..
أمور محصلتها النهائية أننا مازلنا – ربما مثلما تحدث جمال عبد الناصر منذ أكثر من نصف قرن – لم ندرس مشكلات وتطورات اقتصاد بلدنا كما يجب ..
لذا نحن نتخبط فى تقديم الحلول من واحد لأخر ..
ولذا نحن مازلنا بعيدين عن نشأة وقيام مدرسة مصرية مستقلة في الاقتصاد ..