مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة

سليم يونس الزريعي

الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين
مدخل
الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين
المسألة اليهودية صناعة أوروبية وحلها بعيدا عنها.
المسيحية الصهيونية.. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود.
تمهيد
جاءت فكرة هذه الدراسة بعد المتغير الاستراتيجي الذي أحدثته غرفة العمليات المشتركة للمقاومة الفلسطينية في غزة التي تضم 12 جناحا عسكريا، وهي: كتائب الشهيد عز الدين القسام، سرايا القدس، كتائب أبو علي مصطفى، كتائب شهداء الأقصى- لواء العامودي، كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني، ألوية الناصر صلاح الدين، كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، كتائب الشهيد جهاد جبريل، كتائب الأنصار، كتائب المجاهدين، مجموعات الشهيد أيمن جودة، وجيش العاصفة ، بانتصارها لحي الشيخ جراح والقدس والأقصى، وتصديها للعدوان الذي شنته آلة الحرب الصهيونية على قطاع على مدى أحد عشر يوما، توحد فيها الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين التاريخية.
هذا التصدي النوعي على صعيد المبادرة أولا، ثم الكتلة النارية والقدرة العسكرية مع حراك الضفة الغربية وهبة جماهير المناطق المحتلة عام 1948، كل ذلك أصاب قادة الرأي والمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين في كيان الاحتلال بالصدمة، جراء هذا المتغير الاستراتجي في المشهد الفلسطيني الذي سيكون له ما بعده، ولهذا السبب اعتبرها القادة الصهاينة أنها الأخطر.
ومن الواضح على ضوء ردود فعله أن صدمة العدو كانت ثنائية البعد، جراء التداعيات الاستراتيجية. لرد المقاومة وهبة الجماهير الفلسطينية، كونها أولا: شلت الحياة في كيان الاحتلال عندما أجبرت صواريخ المقاومة 80% من المستجلبين الصهاينة إلى فلسطين، البقاء في المخابئ طوال أيام الحرب على غزة، والثانية: تعلقت بهبة جماهير الشعب الفلسطيني في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 التي تجلت فيها وحدة الحال الفلسطينية ممثلة في حالة

الانتماء للهوية الفلسطينية بعد ثلاثة وسبعين عاما من زرع هذا الكيان، ومن قبل شابات وشباب من الجيل الرابع، وهي هبة عمدوها بالدم، وستكون لها بالتأكيد أبعادها الفكرية الإيجابية على صعيد التأسيس لمقاربات سياسية تستهدف تحرير فلسطين بعيدا عن لغو أوسلو ومخرجاته البائسة المدمرة، لذلك كانت الصدمة كبيرة لدى المستوى السياسي والأمني الصهيوني ولدي قادة الرأي في الكيان.
ويمكن أن نلمس تجليات هذه الصدمة كمثال، لدى أفيغدور ليبرمان وزير الأمن السابق ورئيس حزب (إسرائيل بيتنا) الذي أعلن فشل المشروع الصهيوني في عمليات التهويد الفكري والسياسي والمجتمعي في طمس الهوية الوطنية الفلسطينية والشعور القومي لدي الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، رغم توصيفه العنصري للشعب الفلسطيني بقوله إن “ما يحدث اليوم هو أن تلك العصابات من طوبا زنغاريا واللد والبدو في الجنوب، أصبحت أكثر قومية، وهي تتعاطف مع حماس والجماعات المتطرفة وسط الفلسطينيين” .
إن بقاء الهوية والانتماء الوطني حية وحاضرة في الوعي والذاكرة الفردية والجمعية للجماهير الفلسطينية، وانفجارها في وجه الاحتلال عندما حانت لحظات الحقيقية، جعلت العديد من المسؤولين الصهاينة يتحدثون عن المستقبل القاتم الذي ينتظر الكيان الصهيوني، وربما تكون بداية العد التنازلي لنهاية خرافة ” الدولة اليهودية” في فلسطين.
ولعل في سؤال ليبرمان الذي وجهه بعد معركة سيف القدس والهبة الفلسطينية الشاملة، إلى كل مستجلب من الخارج، وهو منهم؛ في مقاله له في صحيفة معاريف، عندما كتب: “أقترح على كل مواطنٍ في “إسرائيل” أن يسأل نفسه: إذا كان هذا هو وضعنا في مواجهة حماس، فما هو موقفنا في مواجهة حزب الله وإيران؟ ما يشير إلى أن المستقبل في الكيان يسير نحو النهاية الحتمية، وهي بالضرورة نهاية كل مشروع أسس على الكذب والخداع، كون المقدمات هي التي تحدد النتائج سلبا أو إيجابا، والمشروع التوراتي الصهيوني بني على الخرافة، ومصيره بالتأكيد سيكون كذلك.
إن سؤال ليبرمان يعكس تلك الحقيقة الصادمة وهي أن ما يعتبرونه أقوى جيش في المنطقة المفتوح على الترسانة العسكرية الأمريكية والبريطانية والألمانية هزمته المقاومة المحاصرة في غزة بقدراتها المحدودة جراء الحصار، فكيف سيكون المصير في حال الحرب مع حزب الله أو إيران كما يقول؟
سؤال ليبرمان المحمل بكل الخوف من المستقبل المشكوك فيه، تبلوره الدراسة في سؤال “مآل خرافة استمرار زرع الكيان الصهيوني في فلسطين” في وجود شعب فلسطين المتمسك بكامل حقوقه في وطنه وأنه سيحرره من الاحتلال، وإجابة السؤال ستأخذها الدراسة مما قاله أو كتبه مؤرخون وعلماء آثار ورجال فكر وسياسيون وأصحاب رأي يهود ويهود إسرائيليون وصهاينة يهود وغيرهم ومن الوقائع التاريخية.
وكي تكتمل الصورة حول طبيعة هذا المشروع الصهيوني كمشروع كولنيالي استعماري غربي انطلق من مفهوم التفوق والاستعلاء الحضاري والثقافي كما وصَّفه تيودور هرتزل وهو أن “الدولة اليهودية الموعودة تمثل ’رأس حربة الثقافة ضد البربرية’ الآسيوية” ، قبل أن يتبلور في فكرة ثم مشروعا رعته قوى الاستعمار الغربي وقوى المسيحية الصهيونية وفقا لأساطير التوراة، باعتباره إرادة ربانية ونجاحهم في زرعه كيانا عنصريا في فلسطين، وهو كان وما يزال يعيش أزمة بنيوية وتناقضا تناحريا مع أصحاب الأرض الأصليين، الذي ينفي وجودهم أحد الأسس المكونة لخرافة الدولة اليهودية (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، مما جعل حتى المستجلبين إليه يشككون في استمراره.
إن شرط الوصول إلى الإجابة العلمية الموضوعية لسؤال “مآل خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين” ولتحصين الذاكرة وشحذ الوعي، فيما يسمى بـ”المسألة اليهودية” التي هي صناعة أوروبية، في حين أن أتباع الديانة اليهودية في الوطن العربي كانوا يعيشون حياتهم كمواطنين في بلدانهم كغيرهم، دون تمييز إثني أو ديني، إلى أن نجح المشروع الصهيوني الغربي من زرع مستجلبيه الأوروبيين في فلسطين عام 1948.

ومن ثم فإنه من المهم أن تتتبع الدراسة مسار زرع هذا الكيان المستجلب في أرض فلسطين، كأداة وظيفية في خدمة المشاريع الكولنيالية الغربية بالاتكاء على أساطير التوراة وأوهام المسيحية الصهيونية الأوروبية والأمريكية والغربية.
ذلك أن كشف؛ ثم وعي خَطَل الأسس الفكرية والتاريخية التي جرى التذرع بها لزرع هذا الكيان الغريب في فلسطين، من خلال البحث العلمي والوقائع الملموسة، الذي هو بمثابة نفي لكل المبررات التي أسست له، بما يعنيه ذلك من تفكيك تجسيد هذه الأكذوبة (الكيان الصهيوني) كحتمية تاريخية، العامل المقرر فيها هو الشعب الفلسطيني، وهو ما بدا واضحا خلال العدوان الصهيوني على غزة في مايو 2021، ورد المقاومة الواسع الشامل غير المسبوق عبر عملية “سيف القدس”، وهو الرد الذي صدم الصهاينة على كل المستويات، مما جعل العديد منهم يتساءل هل اقتربت نهاية خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي مشكلة الدراسة، ليس عبر الضرب في الرمل، ولكن من خلال رصد الآراء والمواقف والأفكار والتوقعات والبحوث العلمية التاريخية والأثرية لعلماء ومفكرين يهود إسرائيليين ويهود صهاينة، وكل من موقعه الفكري والسياسي سواء بشكل مباشر أو من خلال مفهوم المخالفة.
وهذا ما يعكسه عنوان العمل “مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة” الذي يأتي في مدخل وستة فصول تغطي متطلبات الدراسة بشكل واسع منذ أن كان المشروع الصهيوني فكرة ثم تبلوره في مشروع إلى أن زرع في فلسطين عبر حوامل استعمارية غربية، وصولا إلى معركة “سيف القدس” وهبة الجماهير الفلسطينية في كل فلسطين، التي كشفت أن الكيان الصهيوني يعيش أزمة حقيقة تتعلق بمصيره, وهو ما عبرت عنه الدكتورة أدليت وايزمان، التي كتبت في صحيفة إسرائيل اليوم ” كنت أنا استهزئ بخطابات نصر الله عندما كان يقول إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، والآن أنا يا حسن نصر الله، أقول لك نعم.. أنت على حق.. أنت صادق.. “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، وتضيف كفاكم خداعا يا قادتنا.. وكفاكم كذبا.. وأقروا بالهزيمة فهذه غزة فقط.. فكيف لو كانت حرب مع حزب الله؟
إن معركة سيف القدس وهبة الجماهير الفلسطينية في كل مدن الضفة، ومدن وبلدات فلسطين المحتلة عام 1948، يمثل متغيرا استراتيجيا سيكون له ما بعده على صعيد تراكم الفعل الكفاحي على طريق تفكيك المشروع الصهيوني التوراتي في فلسطين وإنهاء هذه الخرافة.

الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين

مدخل
لا يختلف اثنان من الباحثين ممن يتحلون بالنزاهة الفكرية والأخلاقية، حول الإقرار بأن إثارة موضوع “العودة” إلى فلسطين الذي جاء في دعوة نابليون بونابرت 20/4/1799 اليهود للالتحاق بجيشه من أجل دخول القدس ضمن الحملة الفرنسية نحو الشرق. فيما كان يعيش حالة فشل أمام أسوار عكا في فلسطين، إنما أتى لخدمة مصالح فرنسا الاستعمارية آنذاك في المنطقة العربية بدرجة أساسية، عبر التوظيف المالي والديني لليهود في إطار التنافس الاستعماري الأوروبي حينها، ومع أنها بقيت مجرد دعوة، إلا أن فكرة تلك الدعوة تدحرجت، والتقطتها بريطانيا وشخصيات يهودية ومؤسسات صهيونية مسيحية إما لبسط السيطرة والنفوذ على المنطقة التي تربط الشرق بالغرب، أو لأسباب دينية، فيما لجأ المثقفون اليهود إلى “حيلة” التزوير للتاريخ باختلاق قومية يهودية.
من ذلك أن مثقفين في ألمانيا من أصل يهودي أخذوا في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر على عاتقهم مهمة اختراع شعب يهودي بأثر رجعي، من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. بأن شرع أولئك الكتاب والمثقفين منذ المؤرخ وعالم العقيدة، والحاخام الألماني اليهودي، هاينريخ غيرتس(1817–1891م)، الادعاء أن هذا الشعب انعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه” .
لكن السؤال هل كان سينجح الغرب الاستعماري وخاصة بريطانيا والحركة الصهيونية في تجسيد العودة ماديا دون توفر الشروط الموضوعية والذاتية حينها لذلك؟ مع أن ذلك التأسيس قام مع سبق الإصرار على مجموعة من الأكاذيب منها خرافة أن هناك “شعب يهودي”، وأيضا أسطورة “الحق التاريخي لليهود في فلسطين” وهما الأكذوبتان اللتان كذبهما الواقع والعلم، ومن مصادر علمية يهودية، فيما كانت الأكذوبة الأكثر وقاحة هي أن فلسطين “أرض بلا شعب”، هذا النفي الفاضح للوجود الفلسطيني الموجود في الواقع، يشير إلى أن الكيان الصهيوني زُرع بناء على أسس هي مجرد خرافات، بما يعنيه ذلك من بطلان لكل الأسس التي جرى على أساسها زرعه، وكذلك النتيجة التي أسفرت عن ذلك، لأن ما بني على باطل فهو باطل.
غير أن هذه الأرض التي زعم أنها بلا شعب، هي التي باتت في ظل تغير الظروف سواء ما يتعلق بالشرط الذاتي الفلسطيني أو الظروف المتعلقة بالكيان الصهيوني وتجمع المستجلبين من أكثر من 90 دولة من دول العالم، وراء “فوبيا” الديمغرافيا الفلسطينية، مما جعل التجمع الاستيطاني في فلسطين يعيش حالة من فقدان الثقة في بقاء كيانهم وأن مآله الانهيار، من خلال تأكيد الشعب الفلسطيني اليومي ومنذ بداية المؤامرة على فلسطين أنه صاحب الأرض، وأن أرض فلسطين ليست بلا شعب، وهذا التأكيد الفلسطيني المعمد بالدم والتشبث بالأرض على مدى عشرات العقود، هو الذي جعل الكثير من المستجلبين من أربعة أرجاء الدنيا يبدأ في استيعاب، أن الأسس التي أقيم عليها كيانهم لم تكن سوى محصلة خرافات، وهي الخرافات التي دحضها علماء آثار ومؤرخين يهود صهاينة ومن داخل الكيان.
وإذا كان زرع الكيان الصهيوني جرى ارتباطا بالشروط التاريخية المواتية للمؤامرة في حينها، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث بيئات: البيئة الدولية، البيئة اليهودية والبيئة العربية. ومع أن تلك البيئات الثلاث غير منفصلة عن بعضها البعض لجهة التأثير والتأثر، إلا أنها تحمل في داخلها مزايا وخصائص تميزها عن بعضها البعض، فالبيئة الدولية التي كانت تشهد حراكاً كبيراً يتعلق بالمسألة اليهودية في أوروبا وروسيا، وصعوداً في قوة الدول الاستعمارية الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، المناهضة للعثمانيين حكام الشرق العربي وأسياده آنذاك، هو أمر ساهم في أن تتوافق تلك الدول على أن يكون حلّ المسألة اليهودية مرتبطاً بتسوية تركة الدولة العثمانية بعد القضاء عليها، أي أن يكون الحل على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وكان لهذا التوافق نتائج ذات تأثير كبير على اليهود وعلى العرب على حدٍ سواء .إلا أن الشرط التاريخي بظروفه الموضوعية والذاتية الذي كان قائما حينها ومكن من إقامة كيان غاصب في فلسطين لم يعد قائما الآن، وأهمها شرط العامل الذاتي الفلسطيني كعامل مقرر في هذه المعادلة.
وإذا كان التحالف الاستعماري الغربي بقيادة بريطانيا مع الحركة الصهيونية والصهيونية المسيحية قد نفذوا زرع هذا الكيان في ظل ميزان قوى مختل تماما لصالحهم تحت ذريعة أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، ليكتشف الآن الساسة الصهاينة والعسكريون منهم أيضا، أن التهديد الوجودي لمسألة استمرار كيانهم في فلسطين هو”الخطر الديموغرافى” ، وهذا الخطر الديمغرافي كما يقولون يتمثل في وجود الشعب الفلسطيني داخل فلسطين، وهو الوجود الذي سبق أن ادعوا حينها كذبا أنه غير موجود، وأن “فلسطين أرض بلا شعب”، وهذا الوجود الراهن الممتد عبر التاريخ هو في الجوهر النفي الفعلي لوجودهم، وهم بذلك يكذِّبون روايتهم التي كانت أحد الأسس التي أقيم بناء عليها مشروعهم في فلسطين، الذي يعيش حالة عد تنازلي.
واللافت أن التحذير الصهيوني من “الخطر الديمغرافي” ،الذي بات “مَرَضِيّا”، تفاقم بشكل غير مسبوق بعد أن كشف الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 عبر تراكم نضالاتهم منذ النكبة وصولا لمعركة “سيف القدس” مايو/أيار2021، أنهم جزء أساس من حالة نفي النفي الكفاحية والديمغرافية الفلسطينية لكيانهم الغاصب، وهذا يعني أن استمرار بقاء الصهاينة في فلسطين هو أمر مؤقت، كون هذا الوجود الفلسطيني يشكل أحد طرفي معادلة “التناقض التناحري، للمحتل الصهيوني مع صاحب الأرض المحتلة الفلسطيني.
ويبدو أن الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي الأب الروحي للسفاح بيغن وشارون ونتنياهو قد وعي هذه الحقيقية منذ وقت مبكر، لذلك توقع بأن الكيان الصهيوني “سيواجه بمقاومة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأن هذه المقاومة سوف تستمر إلى أن يستولي اليأس على النفوس”، لكن جابوتنسكي في الوقت نفسه “أكد أنه ما من شعب احتل غزاة أرضه إلا وقاوم الاحتلال واستمر في هذه المقاومة إلى أن تحرر من الغزاة وأفشل مشروع الاستعمار الاستيطاني” .
ويمكن الرد على جابوتنسكي بأن حالة الذعر الصهيوني مما يسمونه الخطر الديمغرافي تعترف بأن الشعب الفلسطيني لم ولن ييأس، وأنه سيحقق مقولة جابوتنسكي بتحرير أرضة لأن ذلك هو قدره، وأنه سينهي المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وهو ما باتت شرائح واسعة من المستجلبين الصهاينة إلى فلسطين تدركه.

مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين.. نهاية الخرافة
الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين
مدخل

  • الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين.
  • المسألة اليهودية صناعة أوروبية وحلها بعيدا عنها.
  • المسيحية الصهيونية.. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود لفلسطين.

الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين

إن أي ساع وراء الحقيقية سيكتشف بسهولة أن تلك الذرائع الدينية وغيرها من المبررات التي روج لها الغرب الاستعماري والمسيحية الصهيونية والحركة الصهيونية بقدر ما هي افتئات على الحقيقة من أجل استعمار فلسطين على حساب أهلها الذين عمروها لآلاف السنين المتصلة والممتدة قبل بدء تلك المؤامرة على بلادهم، فهي من جانب آخر “كومة” من الأكاذيب، وسيجد الباحث أن ما جاء فيها، مثَّل أكبر عملية تزوير ديني وتاريخي على مر العصور، ولا يتعلق الأمر هنا بالفصل بين التوراة ككتاب دين والحقائق التاريخية، وإنما في جعل التوراة في ذاته مصدرا للتاريخ، للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، وأخذ كل ما جاء في التوراة على أنها حقائق ربانية مطلقة، ومن ثم اعتبار التوراة الأساس الفكري لإقامة الكيان الصهيوني، بجعله يتجاوز كونه مجرد كتاب دين لأتباع الديانة اليهودية، وجعله برنامج عمل، لمعتنقي تلك الديانة مهما تنوعت أعراقهم والجغرافيا التي ينتمون إليها. ليوهموا الآخرين أن هذا الكيان رباني كمنتج إلهي، في كذب صريح على إلاههم.
وجذر هذه الخرافة ينطلق من أسطورة التوراة التي زعم اليهود والصهيونية المسيحية أن يهوه وعد إبراهيم ونسله بأرض كنعان من النيل إلى الفرات، بأن أعطتهم هذه الأسطورة حق امتلاك أجزاء من الوطن العربي، وإنكار هذا الحق عن سكان فلسطين الأصليين وأصحابها الشرعيين.
إن الزعم الصهيوني بأن فلسطين هي جزء من أرض الميعاد من الحدود التوراتية التي منحها يهوه لنسل إبراهيم هي ابتداع خيال يهودي أكدت خطله الحقائق العملية.
وهو زعم تأسس على الخرافة، بناء على الحقائق العلمية التي أثبتها مؤرخون وعلماء آثار يهود. تلك الحقائق التي تتفق والمنطق الذي يقول بأنه لا يمكن تصور أن إلها عادلا ومنصفا، كون العدل والإنصاف من صفاته، يمكن أن يقدم على سلوك ليس من صفاته بأن ينزع أرض الفلسطينيين ويمنحها لمجموعة بشرية أخرى.
والمفارقة هنا أن كل هذا الكذب والتزييف ينسب إلى إله اليهود، وإذا كان الكذب هو حالة إنسانية، فهل يمكن للإله أن يكذب؟! ويبدو أن من كتبوا التوراة بعد قرون من النفي إلى بابل قد تعمدوا كذبا أن يضفوا على كتابهم صفة ربانية، ومع ذلك أصرت الصهيونية المسيحية والحركة الصهيونية. على الترويج للتوراة باعتباره كتاب تاريخ أيضا، يستند إلى وعد وإرادة إلهية، وعلى ضوء تلك الخرافة جرى التعامل مع التوراة كأساس فكري لإقامة الكيان الصهيوني بجعله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل ومصدرا للتاريخ للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، فكان أن وجدت الحركة الصهيونية في هذا الكتاب الديني الأساس الفكري الأهم لإقامة الدولة اليهودية. ولذلك جرت عملية فكرية واسعة لتعميق مفاهيم هذا الكتاب في الذهن الصهيوني، وتحويله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل، بعد أن كان المتدينون اليهود وطوال قرون يركزون على التلمود الذي يحوي التشريعات والشرائع الدينية ويخلو تقريبا من الأبعاد التاريخية.
فـ”التوراة” كان في العرف الصهيوني مصدرا للتاريخ، وفيه تكمن كل مبررات الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين. وجاء هذا الإحياء لهذا المصدر في الوقت الذي كانت فيه غالبية الباحثين في هذا الحقل ترى في هذا الكتاب مجرد كومة من الأساطير التي لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين.
ومع ذلك اعتبر الجمهور اليهودي، بأغلبيته الساحقة، معطيات هذا الكتاب هي حقائق تاريخية غير مشكوك فيها، حتى أنهم اعتبروا الباحثين الانتقاديين من اليهود مجرد معادين للسامية. لتبرير سرقة فلسطين من أهلها حسب توراتهم، الذي كان في العرف الصهيوني مصدرا أيضا للتاريخ، الذي فيه تكمن كل مبررات الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين.
واللافت أن ذلك الإحياء لهذا المصدر جاء في الوقت الذي كانت فيه أغلبية الباحثين في هذا الحقل ترى في كتاب التوراة مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين .
ومع ذلك فإن الإيمان بخرافات التوراة مكون أساس في عقيدة الكنيسة البروتستنتية، لأن الترويج لما سمي بالعودة والعمل على ذلك، بدأ كمشروع مسيحي بروتستنتي ثم التحقت به الحركة الصهيونية، ولذلك تدعي الأساطير أن اليهود الذين وصلوا فلسطين عام 1882 هم أحفاد أولئك الذين طردهم الرومان منها عام 70م، لكن المؤرخ اليهودي إيلان بابيه يدحض ذلك قائلا إن ما قبل عهد الصهيونية كانت الرابطة بين المجتمعات اليهودية في العالم بما فيه فلسطين هي علاقة روحية ودينية وليست سياسية.
ويؤكد المؤرخ اليهودي إيلان بابيه أن ترتيب عودة اليهود إلى فلسطين كان مشروعا مسيحيا بروتستانتيا في الأصل حتى القرن السادس عشر، ثم أكملته الصهيونية. في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.

ذريعة.. “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
إن ذريعة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ضمن ذرائع الحركة الصهيونية هي أحد أكثر الذرائع الصهيونية وقاحة وتعد على الواقع وإنكارا له، ذلك أن هذه الذريعة تحمل مفهومين متناقضين أحدهما حالة إنكار لواقع قائم وموجود يتعلق بوجود الفلسطينيين في أرضهم، ونقيضها حالة إثبات لشيء غير موجود في الواقع، أي خرافة “الشعب اليهودي”، الذي يحق له الاستيلاء على تلك الأرض التي هي حسب مزاعم التوراة محل وعد إلهي لنسل إبراهيم. مع أن النبي إبراهيم، كان قد كيّف وجوده بعد ذلك الوعد المزعوم في أرض الكنعانيين بـ”الوجود المؤقت” فهو في أرض “غُربة”، وفق ما جاء في التوراة وذلك عندما ”قال إبراهيم لعبده لمّا شاخ وكبر سنه: “لا تأخذ زوجة لابني من بنات كنعان الذين أنا ساكن في أرضهم، بل إلى أرضي، وإلى عشيرتي تذهب”.
فإبراهيم وعشيرته وفق التوراة يقيمون ولا يملكون، فهم أغراب وسط الكنعانيين أصحاب البلاد الأصليين وفي النص: “ظهر الرب (أي لإبراهيم) وقال له: إنّ نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم”.
ولقد دحض اثنين من كبار رجال الدين اليهود كان قد أرسلهم الطبيب “ماكس نوردو” الساعد الأيمن لهرتزل لاستكشاف فلسطين مقولة أن فلسطين أرض بلا شعب، بعدما شعر هرتزل أن يهود أوروبا لا يزالون متعلقين بالهجرة نحو أمريكا وليس إلى فلسطين، بأن حملا جوابًا من سطر واحد جاء فيه: (1896) العروس جميلة جداً ومستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً. وهو الرد الذي فهم منه “نوردو” أن المقصود هو أن فلسطين ليس كما ذكر هرتزل أرضًا بلا شعب، بل إن فلسطين فيها شعباً يسكنها منذُ آلاف السنين. وهم بهذه العبارة المختصرة يدحضون ما روجت له الحركة من خرافة أن فلسطين أرض بلا شعب.
لكن أكثر الخرافات مجافاة للعلم والعقل وحقائق التاريخ..تتعلق بخرافة” الشعب اليهودي فيما ينفي الدكتور ل.كارنييف: وجود أي صلة “بين اليهود المعاصرين واليهود القدامى غير صلة الدين، ومن وجهة نظر العلوم الإنسانية فاليهود قد اختلطوا بعشرات الشعوب الأخرى، وهم بذلك لا يملكون أرضاً ثابتة، أو لغةً واحدة، أو ثقافةً متجانسة، أو حياةً اقتصاديةً واحدة، ولهذا لا يعتبر اليهود المعاصرون شعباً، ولذلك فإنّهم لا يشكّلون قومية“.
في حين أن المشروع الصهيوني والصهيوني المسيحي قام على مزاعم وخرافات وأكاذيب رسخها كتبة التوراة والتلمود والمؤسسون الصهاينة. وهي أن اليهودية ليست مجرد ديانة، وإنما هي قومية، واليهودية هي الوجه الديني للصهيونية، والصهيونية هي الوجه السياسي والديني لليهود في العالم، والكيان الصهيوني هو التجسيد العملي للصهيونية وللوجهين الديني والسياسي لليهودية، ودولة جميع اليهود في العالم.

دور أوروبا في بعث فكرة الكيان اليهودي في فلسطين.
تكشف معطيات التاريخ أن الحراك نحو بلورة إجابة على المسألة اليهودية اقترن بتلك المساعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وكان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً.
وبحثا عن جغرافيا تخدم ذلك المشروع، ناقش المؤتمر الصهيوني السادس، أهم الادعاءات لتبرير خيار الوطن القومي في فلسطين وهي أن «لا صهيونية من دون صهيون»، وبرر ماكس نورداو، أحد مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية، اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحد ذاته يُعتبر أسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين «وصرخة عظيمة تجمع اليهود.»
كان لبيان نابليون بونابرت الذي دعا فيه جميع يهود آسيا وإفريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه، وتحت رايته، لاستعادة القدس القديمة.ونشرته صحيفة مونيتور يونيفرسال، الصادرة في 22/5/1799، أول ربط سياسي بين فلسطين واليهود بهدف التوظيف المالي والديني لليهود في إطار التنافس الاستعماري الأوروبي حينها. ومع أنها بقيت مجرد دعوة. إلا أن فكرة تلك الدعوة تدحرجت، والتقطتها بريطانيا، الذي يبدو أن دعوة نابليون قد أيقظت دهاقنة الإمبراطورية البريطانية، فأعلن اللورد شافتسيري واللورد منتفيوري عام 1835ـ أن لدى اليهود المال والرجال لاستعمار فلسطين وجعلها قاعدة لخدمة المصالح البريطانية.
وفي إطار ترجمة ذلك التبني من قبل بريطانيا وقبل بلورة الحركة الصهيونية اليهودية مشروعها السياسي بعقود، طالب بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا عام 1837 بالعمل مع تركيا لوضع اليهود تحت الحماية البريطانية. أي أن بريطانيا بذلك تبنت مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين من ذلك الحين.
بل من بريطانيا خرجت خرافة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” من قبل أبرز البريطانيين الذين لعبوا أدوارا بارزة في المسيحية الصهيونية اللورد شافتسبوري (1818-1885)، وهو من الألفيين المسيحيين المتحمسين من أجل عودة اليهود إلى فلسطين، ودعا إلى تشجيع اليهود على العودة إلى فلسطين بأعداد كبيرة، ليعودوا ملاك أراضي الجليل ويهودا، واستمر شافيستبري بدعوته 57 سنة حتى تمكن من أقناع حكومة بلاده بافتتاح قنصلية لها في القدس، لتكون بعثة رسمية لبريطانيا إلى أرض فلسطين، تبع ذلك تعيين اليهودي ميخائيل سلمون الكسندر كاهنا انجليكانيا للقدس، والقس ويليام هتشلر(1845-1931)، وهو المسؤول الديني في السفارة البريطانية في فينا، وكانت لهتشلر علاقات مع تيودور هرتزل، وقد أمضى هيتشلر ثلاثين سنة في خدمة للصهيونية والحركة اليهودية رغم كونه مسيحيا، وحضر المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية الذي عقد في بازل بسويسرا عام1897م، وكان للقاء هيتشلر مع جيمس بلفور عام 1905م أكبر الأثر في صدور وعد بلفور المشؤوم بإقامة دولة لليهود في فلسطين عام 1917م.
ويمكن والحال تلك وارتباطا بدور اللورد شافتسبوري ملاحظة أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية. فقد نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى يكتب المؤرخ والمفكر الشيوعي الفلسطيني إميل توما أن «الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية»، وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى. ومن ناحية ثانية تبدو الصهيونية كمشروع استثماري للبورجوازية اليهودية الأوروبية نفسها.
ولا يمكن فصل البعد الكولنيالي في المشروع الصهيوني عن نظرة اليهود للـ(الأغيار)، وهي نظرة محملة باستعلائية كولونيالية اتسمت بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل. فكتاب هرتزل «البلاد القديمة الجديدة» مملوء بالتعابير التي تشير إلى‏ بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم. أمّا في كتابه «دولة اليهود» فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولنيالي، التي يقسم العالم إلى‏ أمم متحضرة وأمم بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولنيالي ويكتب:
«بالنسبة إلى أوروبا،‏ سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا‏ التي ستضمن في المقابل وجودنا».
إن تلك الجملة تحمل كثيراً من الدلالات التي تفضح علاقات الكراهية– الحب– العداء– الحميمية التي اتسمت بها الحركة الصهيونية، وتفسح المجال لقراءة جديدة للحركة الصهيونية تقوم على تقصي جذور الصهيونية في أوروبا‏ نفسها، وتلفت الانتباه إلى وجود وقيام صهيونية غير يهودية متأصلة في التراث الأوروبي، وهي سابقة للصهيونية اليهودية من ناحية نشوئها. وهي التي كانت الرافعة الأيديولوجية والعملية للمشروع الصهيوني المسيحي في فلسطين.

الصهيونية المسيحية .. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود.
من المفارقات ذات الدلالة أن فكرة إنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين” آمن بها المسيحيون البروتستانت قبل إيمان اليهود بها، وسعوا إلى تنفيذها قبل أن يسعى اليهود إلى ذلك، بل قبل أن يؤمن اليهود بإمكانية تحقيقها، حتى أن هرتزل نبي الحركة الصهيونية اقترح أكثر من موقع يمكن أن تقام عليه تلك الدولة.
ذلك أن تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية حينما طرح فكرة “الدولة اليهودية” لم تكن دوافعه دينية بالأساس، فهو قومي علماني في الصميم، ولذلك كان مستعدا لقبول استيطان اليهود في أوغندا أو العراق أو كندا أو الأرجنتين. أما المسيحيون الصهاينة في أميركا وغيرها فقد آمنوا من أول يوم بفلسطين وطنا لليهود، واعتبروا ذلك شرطا في “عودة المسيح”، وأخرجوا “المسألة اليهودية” من الإطار السياسي إلى الإطار الاعتقادي.
ولذلك فقد “انتقدوا الموقف المتساهل لهرتزل، والمؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، حتى إن بلاكستون أرسل إلى هرتزل نسخة من العهد القديم، وقد علَّم على صفحاتها، مشيرا إلى الفقرات التي عين فيها النبيون فلسطين تحديدا بأنها “الوطن المختار للشعب المختار”.
ويبدو واضحا هنا أن مشروع زرع كيان صهيوني في فلسطين لم يناقش يهوديا إلا في أواخر القرن التاسع عشر، بخلاف الصهيونية المسيحية التي طالما روجت لذلك ومنذ وقت مبكر..
وثمة عوامل إيديولوجية وعقائدية، وظفت فيها رؤى توراتية ونصوصا مجتزأة من الكتاب المقدس، باستغلال اللاهوت المسيحي فى تأييد الخرافات الصهيونية عن ما يسمى “أرض الميعاد” والحق فى فلسطين، استنادًا إلى تفاسير آيات الكتاب المقدس، اعتمادًا على أسطورة «هرمجدون»، التي وردت في الكتاب المقدس، التي تقول بأن معركة ستنشب في فلسطين وهي الإشارة الكبرى على نهاية الزمان، ولذا يلزم تجميع يهود العالم في منطقة واحدة، يعتقد أنها «أرض الميعاد» كخطوة ضرورية قبل “تنصيرهم” لعودة المسيح وإنشاء مملكته التي تستمر لألف عام، على حد المعتقد.
وكان لذلك المتغير الذي تبنته الصهيونية المسيحية من أتباع الكنيسة البروتستنتية أن باتت التصورات والمفاهيم والتقاليد التوراتية اليهودية تطغى على الجانب المسيحي لدى أتباع المذهب البروتستانتي، حتى كادت تمس الثوابت العقدية المعروفة في المسيحية، مما اعتبر “غزوا عبرانيا” داخل المسيحية البروتستانتية، خاصة داخل نحلتها “البيوريتانية” أو التطهيرية التي لعب مفكروها في إنجلترا أدوارا واضحة للضغط على السلطة السياسية لتبني المشروع الصهيوني ..، فكان أن شكلوا رأس حربة في استهداف فلسطين أرضا وشعبا.
وضمن ذلك المسار أصبحت الصهيونية المسيحية مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، فتحولت منذ ذلك التاريخ من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب إلى ميدان السياسة، وقد تجلى ذلك أثناء حملة نابليون بونابرت على فلسطين. ولذلك كان لهذا الاكتساح الذي حققته المسيحية الصهيونية، في الفضاء الديني الأوروبي، أن صداه لم يقف عند حدود الطبقة السياسية والفئات الاجتماعية العادية، بل إن أثر ذلك التغلغل للمفاهيم التوراتية الذي وُصف بالغزو العبراني، أن طال الفضاء الفكري والفلسفي الأوروبي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مما جعل أعمال شريحة واسعة من كتاب وفلاسفة أوروبا تعكس هموم وتطلعات المسيحية الصهيونية كما هو الشأن مع جون لوك وإسحاق نيوتن وجان جاك روسو وبليزباسكال وإيمانويل كانط وغيرهم من المفكرين والأدباء والشعراء الذين وإن اختلفت تصوراتهم الفلسفية والفكرية، فقد اتحدت عقيدتهم “الألفية” المترجمة لضرورة عودة المسيح والتعجيل بإرجاع اليهود إلى أرض الميعاد بعد طرد “الغرباء” منها، حتى باتت أصداء أساطير التوراة تتردد في أعمال هذه النخبة من فلاسفة وكتاب أوروبا .
وتماهيا في أساطير التوراة ارتكزت عقيدة الصهيونية المسيحية في النظرة لليهود على ثلاثة أمور هي: أن اليهود هم شعب الله المختار، وهم الأمة المفضلة على بقية الأمم والشعوب. وأن هناك ميثاقاً إلهياً ووعداً مقدساً يربط اليهود بالأرض المباركة فلسطين، وإنّ هذا الميثاق والوعد أعطاه الله تعالى لإبراهيم ونسله، وخاصة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق، وهو ميثاق أبدي.ثم ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض بقيام دولة يهودية صهيونية في فلسطين.
وقد نتج عن هذا التهويد للبروتستانتية أن تبنت بريطانيا منذ سنة 1600 استراتيجية رسمية رفعتها إلى مستوى المهمة المقدسة، تقضي ببذل كل الجهود لتمكين يهود أوروبا من الهجرة إلى فلسطين باعتبار ذلك يتوافق مع العقيدة الألفية ويمهد لعودة المسيح…
وفي سياق هذا التحول وجه سنة 1649م من هولندا عالما اللاهوت التطهريّان الإنجليزيان: جوانا، وأليندز كارترايت مذكرة إلى الحكومة البريطانية عبّرا فيها عن مدى التحوّل في النظرة اللاهوتية إلى فلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة التي قامت من أجلها الحروب الصليبية إلى كونها وطناً قومياً لليهود، كما عبرّا عن التحول من الإيمان بأنّ عودة المسيح يجب أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين، وأنّ العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي إلى الإيمان بأنّ هاتين العودتين ممكن أن تتحققا بعمل بشري”.
ثم توالت طيلة القرن السابع عشر التفسيرات والتأويلات والقراءات للأحداث الدينية والسياسية والعسكرية الكبرى في العالم باعتبارها “علامات على اقتراب موعد الألفية ونزول المسيح”. وتسابقت القوى الغربية الكبرى في ذلك القرن، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية، إلى خطب ود اليهود ودعتهم إلى العيش بين ظهرانيها طمعا في تحويلهم إلى المسيحية والظفر بشرف قيادتهم بعد ذلك إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل، وكأن تلك القوى كانت تعد لحرب صليبية جديدة بعد زمن مضى على نهاية الحروب الصليبية”، فصارت بريطانيا وفرنسا تحلمان بإحياء دورهما المعروف في قيادة تلك الحرب، ولكن هذه المرة بمعية اليهود الذين اعتبرهم لوثر أبناء الله وأحباؤه !
وفي خضم هذا الانقلاب الديني الجذري في نظرة المسيحية لليهود لم يتأخر بعض أحبار اليهود عن استغلال دعاوى تلك المسيحية اليهودية داخل البروتستانتية، فركبوا موجة العقيدة الألفية في
صيغتها المسيحية، وشددوا على دعاوى نحلة البيوريتانية الإنجليزية الداعية إلى اعتبار إنجلترا ” المؤقتة” تمهيدا للرحلة إلى إسرائيل الدائمة. ولهذا الغرض كتب الحاخام الأكبر لأمستردام كتابه أمل إسرائيل، أواسط القرن السابع عشر، يخطب فيه ود بريطانيا العظمى ويشجعها للمضي قدما في تنفيذ مشروعها المسيحاني المشار إليه، بل لقد كان من المتوقع لهذا الاكتساح الذي حققته المسيحية الصهيونية، في الفضاء الديني الأوروبي، أن نجد صداه ليس فحسب لدى الطبقة السياسية والفئات الاجتماعية العادية، بل إن أثر التغلغل للمفاهيم التوراتية ولذلك الغزو العبراني، قد مس الفضاء الفكري والفلسفي الأوروبي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وبهذا المعني يمكن القول إن المسيحية اليهودية (الصهيونية) أصبحت مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، إلا أنها منذ ذلك التاريخ تحولت من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب إلى ميدان السياسة ولذلك لن يتأخر نابليون بونابارت في حملته على الشام سنة 1799 عن استغلال ما غرسته العقيدة الألفية والمسيحية اليهودية، فقام يدعو اليهود إلى المساهمة في تمويل حملته تلك والانضمام إليه واغتنام هذت العرض الثمين الذي تقدمه فرنسا الثورة ليهود العالم بإقامة دولة لهم فوق أرض فلسطين معلنا لهم أن المسيحيين الأحرار أدركوا أن اليهود، “سيعودون إلى صهيون وهم يغنون” بعد طرد الدخلاء وأن العناية الإلهية أرسلت نابليون لإتمام هذه المهمة وتحقيقها على أرض أورشليم وأمام هذا الاندفاع والتحرك العملي الفرنسي الذي لن ينتهي مع فشل حملة نابليون، أسرعت بريطانيا، خاصة بعد انتعاش الحركة الإيفانجيلية البيوريتانية، لمعاودة المحاولة، فقامت شخصيات نافذة في المجتمع البريطاني لحمل الدولة على تبني المشروع الصهيوني في صيغته السياسية، وكان على رأس هؤلاء اللورد شافتيسبري زعيم “المبشرين” الذي “جعل كل همه إقناع الإنجليز بأن اليهود حجر الزاوية من أجل الأمل المسيحي في الخلاص” معتبرا في مقال كتبه سنة 1839 أن فلسطين “بلاد بدون أمة، لأمة بدون بلاد” ! وهو الشعار الذي سوف تقتبسه فيما بعد الصهيونية اليهودية وتعيد صياغته هكذا: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” فهو شعار مسيحي قبل أن يكون شعارا صهيونيا. وسرعان ما تبنت بريطانيا هذا المشروع وجعلت رأس حربته أول قنصلية لها افتتحتها في القدس سنة 1838، ثم توالت المشاريع والدعوات الرسمية والاستطلاعات الميدانية لتحقيق مشروع عودة اليهود إلى فلسطين.
بل إنها عندما بدأت فكرة الوطن اليهودي تتبلور سياسيا، وصدر وعد بلفور لصالحها، تلقف أغلب السياسيين الأميركيين الفكرة، وتعاملوا معها بمنطق الاعتقاد الديني الراسخ, ومن أمثلة ذلك خطاب ألقاه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي (هنري كابوت لودج) في مدينة (بوسطن) عام 1922، حيث قال في الخطاب “إنني لم أحتمل أبدا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين.. إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود، والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب، في أيدي الأتراك، كان يبدو لي لسنوات طويلة وكأنه لطخة في جبين الحضارة من الواجب إزالتها”
وتكشف معطيات التاريخ إلى أن الحراك نحو بلورة إجابة على المسألة اليهودية اقترن بتلك المساعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وكان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً.
وبحثا عن جغرافيا تخدم ذلك المشروع، ناقش المؤتمر الصهيوني السادس، أهم الادعاءات لتبرير خيار الوطن القومي في فلسطين وهي أن «لا صهيونية من دون صهيون.» وبرر ماكس نورداو، أحد مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية، اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحد ذاته يُعتبر أسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين «وصرخة عظيمة تجمع اليهود.»
إن هوس المسيحية الصهيونية بما يسمى الألفية خلق تيارا واسعا تشرب بوعي مزيف لا أساس له، ولذلك جرى الاستثمار الديني ثم السياسي في اليهود لتحقيق خرافات التوراة التي كُتبت بعد قرون من نفيهم إلى بابل محملا بكل الأوهام والخرافات، لكن هناك مع ذلك من يتاجر بتلك الأوهام، حتى لو كان بعض محتواة مجرد خرافات..

الفصل الثاني : بلورة مشروع صهيوني استعماري
أولا: مناخ أوروبي ساهم في نشأة الحركة الصهيونية
ثانيا: شعار الصهيونية.. والوازع الديني وربط ذلك بالعودة لفلسطين.
ثالثا: مؤتمر بازل وبلورة مشروع صهيوني كولنيالي.
رابعا:المشروع الصهيوني رأس حربة للقوى الإمبريالية.

مناخ أوروبي ساهم في نشأة الحركة الصهيونية
كان لظهور الصهيونية في ذلك السياق الأوروبي الذي تميز بنزعة قومية متعاظمة سادت القارة في القرن التاسع عشر نتيجة لقيام الدول الوطنية في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما رافقها من حروب دموية، شغل الانتماء القومي ركنا أساسيا في التعبئة من أجلها، وقيام كيانات وطنية قومية الهدف السياسي أساسي لها . بأن لعب دورا في تبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة.
فقد تميزت سنوات أواسط القرن التاسع عشر بانتشار الأفكار التحررية وقيم المساواة والحرية، مثلما عبّرت عنها الثورة الفرنسية من ناحية، لكن أعوزها من ناحية أُخرى التيقن من تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع الأوروبي، إزاء نمو الفكر القومي؛ وازدهار وتطور المشاريع الكولنيالية التي من خلالها سيطرت أوروبا على معظم أجزاء الكرة الأرضية.
وراجت فيه الأفكار الليبرالية والعلمانية، وشهد، مقارنة بالعالم الإقطاعي، عملية انحسار الدين من الحيز العام ‏إلى‏ الحيز الخاص وبناء مفهوم جديد للأمة والدولة. ففي العالم الإقطاعي، كان هناك دين للدولة، والمشاركة السياسية كانت محصورة في فئات اجتماعية/اقتصادية معينة، ومن ثم كان عالم السياسة مقفلاً أمام معظم فئات الشعب، وكانت المكانة الاجتماعية/ الاقتصادية تجر وراءها مكانة سياسية. وكذلك الأمر مع الدين، إذ كان لكل فئة دينية قانون يحكمها، ولذلك لم يكن الدين قضية فردية، وإنما قضية الحيز العام. أمّا الثورة الفرنسية، فكان من نتائجها أنها أرست، على الأقل نظرياً، نظاماً سياسياً جديداً ونظاماً اقتصادياً جديداً، وأجرت عملية «خصخصة» للدين وللملكية. فأصبح الانتماء الديني مسألة خاصة، وكذلك الملكية، فأضحى الولوج الفردي والجمعي إلى عالم السياسة مفتوحاً أمام الجميع، ولم تعد الملكية حاجزاً أمام المشاركة السياسية، ولم يعد الدين كذلك.
وكان ذلك المناخ مناسبة لتفكر الحركة الصهيونية في جمع شتات اليهود عبر العالم بعد أن كان قد نزع عنهم صفة الأمة وحرمهم من إقامة كيان أو كيانات سياسية تضمن لهم التميز من الناحية الاجتماعية، وتبعد عنهم خطر الذوبان داخل المجتمعات الأوروبية التي كانوا يعيشون داخلها أقليات تعاني التهميش والاحتقار، وتبقى على هامش الحياة السياسية الاقتصادية.
ذلك أنه ضمن ذلك المفهوم الأوروبي الجديد لم يعد الوجود اليهودي على ضفاف المجتمع المسيحي الأوروبي وهوامشه أمراً مفروغاً منه، وأصبح هناك ضرورة لأن يعرّف اليهود عن أنفسهم من جديد.
وكان للانفتاح على اليهود الذي انطوى عليه النظام الجديد، حتى لو كان نظرياً، وضعهم في مشكلة حقيقية، إذ إنه حتى ذلك الوقت لم يكن هناك حاجة إلى أن يعرّف اليهود عن أنفسهم، أمّا وقد اكتشف اليهودي أن في استطاعته أن يخرج من جماعته الأصلية (اليهود) إلى‏ المجتمع الجديد وأن ينخرط فيه، طفت إلى‏ السطح مسألة الهوية اليهودية ومعناها في المجتمع الأوروبي.
إلاّ إن العالم الأوروبي الجديد لم يكن يقوم على الفكر الليبرالي وقيم الحرية فقط، بل كان أيضاً عالماً قومياً بامتياز من بسمارك في ألمانيا إلى‏ غاريبالدي في إيطاليا، فالمجتمع الأوروبي لم يكن يعيد إنتاج مفاهيمه ومجتمعه الجديد من خلال الأفكار الليبرالية فحسب، بل‏ من خلال المفاهيم القومية أيضاً.
وفي هذا المجال تأثرت الصهيونية بالفكر القومي الشرق أوروبي الذي نما وتطور شرقي نهر الراين، الذي كان مختلفاً عن الفكر القومي الذي نشأ غربي الراين. ففي غرب أوروبا، وفي فرنسا بالتحديد، جرى بناء فكرة الأمة على الجغرافيا السياسية، وسبقت فيها الدولة وجود الأمة، أي أن الدولة كانت قائمة، وحدودها معرّفة، وفي واقع الأمر هي التي قامت بتعريف الأمة وبتحديدها تحديداً جغرافياً. وكان المشروع الفرنسي – الغربي للأمة مشروعاً تراكمياً اندماجياً يشارك فيه كثير من الفئات الإثنية التي جاءت من أصول متعددة، وهو لا يشترط لبناء الأمة أي انتماء عرقي مسبق، بل إن الاندماج في الأمة هو طوعي وفردي. أمّا في النموذج الشرق الأوروبي (ألمانيا؛ إيطاليا؛ روسيا؛ البلقان)، فإن المشروع القومي هو في الأساس مشروع مبني على أساس عرقي – لغوي – وشائجي تسبق فيه القومية وجود الدولة، فهي التي تقيم الدولة، وهي قائمة – أو هكذا يخيل إليها – قبل الدولة وبعدها. وما الدولة، ضمن هذا المنظور، سوى أداة للمشروع القومي. فهي دائماً في خدمة القومية، وخاضعة لتحقيق أهدافها.
جاءت الصهيونية لتجيب عن المسألة اليهودية –مسألة معاناة اليهود وملاحقتهم وصعود اللاسامية– بالأدوات المفاهيمية ذاتها التي كانت سائدة في أوروبا، وخصوصاً في شرقها، وتبنّت عالم المفاهيم القومي (والليبرالي) نفسه (وأحياناً تبنّت المقولات اللاسامية ذاتها في خطابها)، القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض.
فالدولة القومية دولة تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وإذا أرادت الصهيونية أن تعرّف عن نفسها بصفتها صاحبة مشروع قومي، كان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً .
كان موسى هيس (Moussa Hess) في طليعة العناصر النخبوية اليهودية التي أسهمت في انطلاقة الحركة الصهيونية، وفي رسم هدفها المركزي بتقوية الروابط الدينية بين اليهود المنتشرين في غير بلدٍ في العالم. ففي كتابه «روما والقدس» الذي أصدره العام 1862، لم يتطرَّق هيس إلى قيام دولة يهودية ولكنه بحث السبل المثلى لتحقيق أحلام اليهود في إقامة نظام اجتماعي في فلسطين. فهو يرى أنَّ مثل هذا النظام ينسجم مع الوظيفة اليهودية في قيادة العالم، وهي الوظيفة التي خصَّ بها الله اليهود في التاريخ. وحسب زعمه «إنَّ أوامر الله لليهود هي تطبيقهم القانون الذي أرسلهم الله ليعلّموه للشعوب الأخرى، وإنَّ أقسى عقوبة فرضت عليهم كانت لانحرافهم عن الطريق الذي وضعته العناية الإلهية. أما عجزهم عن عبادة الله كأمّة متكاملة فكان بسبب فقدهم لأرضهم.”
وقَّف هيس عند أرض فلسطين ليس فحسب بوصفها أرضاً تتسم بخصوصية تاريخية بالنسبة إلى اليهود، وإنما أيضاً بوصفها موقعاً جيو – استراتيجياً من حيث أنها تمثّل الطريق الرئيس والمركز الجغرافي المهم للمدنية الغربية على الطريق المتجهة إلى الهند، وحتى يتمكَّن اليهود من تحقيق مركز لهم على هذا الطريق لا ينقصهم المال والكفاءات أو العمال وغيرهم.
وأشار هيس إلى أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين «سوف يحقِّق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلِّفة في آسيا وإفريقيا، وأنّ ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية عبر رقعةٍ ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط».
وارتدى مشروع الدولة اليهودية مع الكاتب اليهودي “نورمان بنتويتش” (Norman Bentwitch) في فلسطين – قلب الشرق الأوسط – أهمية جيوبوليتيكية بحكم خصوصية الموقع الفلسطيني كنقطة ارتكاز لمجال حيوي يربط بين شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والمعروف أنّ هذه المناطق تتميَّز بحضارات تاريخية شكّلت تقاطعات لحضارات عالمية. فقد أوضح بنتويتش هذه الخصوصية لفلسطين إلى القادة الإنكليز مظهراً لهم الدور الذي يمكن أن تقوم به دولة يهودية في المستقبل.
مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان مشروع الدولة اليهودية قد عرف بعض الترجمة الميدانية عندما بدأ المليونير اليهودي «روتشيلد» يغذِّي اليهود بتأسيس مزارع في فلسطين، ثم تبعته مؤسسات مالية أخرى في عدة دول من العالم من أجل تشجيع الهجرة الزراعية تمهيداً للاستيلاء على الأراضي في فلسطين. كما عمل المفكِّرون اليهود على تكثيف الدعاية الإعلامية التي تحرِّض على هجرة اليهود إلى فلسطين عبر حملات دعائية منظمة قامت بها جمعيات ومؤتمرات عديدة لتحقيق الحلم الذي كان يراود اليهودي، وبخاصة البائس
والمضطهد والمنعزل داخل أسوار «الغيتو» في بلدان أوروبا، في المجيء إلى فلسطين ليعمل في الأراضي الزراعية تمهيداً للاستيلاء عليها بعد طرد سكانها الأصليين.
من بين الجمعيات التي راحت تُؤلب الرأي العام اليهودي للهجرة إلى فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت «محبي صهيون»، التي أنشأها كتّاب وطلاّب جامعيون في روسيا وعمّال يهود العام 1867، وكذلك جمعية أخرى ناشطة في أوكرانيا كانت قد أرسلت أول فوج من مهاجري يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين العام 1882 .
ثانيا:” شعار الصهيونية.. لربط ذلك بالعودة لفلسطين.
عند ذكر الحركة الصهيونية يجرى في الذهن استدعاء اسم الكاتب والصحفي السويسري تيودور هرتزل، كونه منشئ الحركة الصهيونية، لكن رغم الدور المركزي لهرتزل في المشروع الصهيوني، إلا أن ابتكار مصطلح “صهيونية” يعود للصحفي السويسري ناتان بيرنبون، الذي كان وراء ابتكار ذلك المصطلح عام 1890. وكان بيرنبون زميل هرتزل يؤكد أن “مصطلح الصهيونية يعني النهضة السياسية لليهود بعودتهم الجماعية إلى فلسطين، أو بمعنى آخر إعطاء مضمون سياسي وقومي لليهودية .
وكانت أيضا جمعيات يهودية قد نشأت تحت اسم أحباء صهيون”أو هواة صهيون ،ترجمة للاسم العبري “حوفيفيتسيون” في روسيا سنة 1881 بعد صدور قوانين أيار/مايو التي فرضت قيوداً على الأقلية اليهودية هناك بين عامي 1881 -1883، وعلى حركة المهاجرين اليهود من روسيا وبولونيا ورومانيا إلى فلسطين (الهجرة الأولى 1881 – 1904). وكان هدف حركة أحباء صهيون محاربة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، و”العودة إلى صهيون”. وقد اتخذت شعاراً لها “إلى فلسطين ”ودعت إلى الاستعداد للهجرة لشراء الأراضي فيها، ومساعدة الاستيطان اليهودي هناك. وكانت حركة أحباء صهيون همزة الوصل بين ما أطلق عليه “طلائع” الصهيونية في منتصف القرن التاسع عشر وبداية الصهيونية السياسية مع ظهور تيودور هرتزل وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 1897.
لكن مصطلح الصهيونية بمدلوله السياسي جاء في مقال نشر عام 1890، للكاتب اليهودي النمساوي “ناثان بيرنباوم” في مجلة “الانعتاق الذاتي”، مُستخدِما لفظة جديدة على قُرَّائه في ذلك الوقت لكنها لم تكن لفظة اعتباطية، إذ لم تمضِ سبع سنوات فقط حتى تبلور هذا المصطلح في بازل بسويسرا عام 1897 على يد اليهودي النمساوي الآخر “تيودور هرتزل”، الذي استخدم لفظة “الصهيونية” التي صكَّها “ناثان” ليعقد المؤتمر الصهيوني الأول بعد عام واحد من صدور كتابه “الدولة اليهودية”؛ داعيا فيه إلى هجرة اليهود نحو فلسطين وإقامة أرض إسرائيل التي ستحل مشكلة الأقليات اليهودية في الشتات.
ما نعرفه اليوم جيدا أن تلك اللحظة كانت بداية المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي انتهى بدولة إسرائيل المُقامة على أنقاض فلسطين، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أيضا أن اللحظة نفسها هي التي دشَّنت حكاية الصراع اليهودي الداخلي بين اليهود المتدينين وبين الصهيونية، قبل النكبة، وقبل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وقبل وعد بلفور، وقبل حتى أن يعرف “بلفور” أنه سيُقدِّم وعدا لليهود بشيء ما في أرضٍ ما. وكان كثير من اليهود المتدينين قد رفضوا الفكر الصهيوني منذ بدايته، بل وحاربوه واعتبروه ضارًّا بمصالحهم في العالم، وأدرك زعماؤهم أن الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم في مملكة إسرائيل التي سيُقيمها لهم “الماشيح” المنتظر .
ومع ذلك، فإن هرتزل هو أبو الحركة الصهيونية وصاحب مشروع الدولة اليهودية التي تحدث عنها بإسهاب في كتاب أصدره عام 1896 وحمل عنوان “الدولة اليهودية” بسط فيه أفكارا عملية فعالة سيكون لها إسهامها الكبير في إنجاح المشروع لاحقا. وتمحورت هذه الأفكار حول تهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية اليهودية عبر العالم، ثم تجنيد الأوساط اليهودية خلف فكرة الدولة اليهودية التي لم تكن ذات أهمية لدى فئات واسعة من اليهود .
وقد انطلقت الصهيونية العالمية كحركةٍ سياسية إيديولوجية وثيقة الصّلة بالمشاريع الاستعمارية المعاصرة، إلاّ أنّ حُلم إيجادِ وطنٍ قوميّ لليهود في العالم لا يمكن تحقيقه ولا التعبئة له إلاّ بدغدغة العواطف الدينية لليهود لإقناعهم بالهجرة إلى تلك الأرض، ولم تجد إلاّ أسطورةً في التوراة المحرَّفة بأنّ الله وعد بني إسرائيل بأرض الميعاد، وهي فلسطين على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام .

ثالثا: مؤتمر بازل وبلورة مشروع صهيوني كولنيالي.
جاء عقد المؤتمر الصهيوني الأول تتويجا للحراك اليهودي الصهيوني والصهيوني المسيحي والقوى الاستعمارية آنذاك، وبعد عام من نشر الصحافي النمساوي تيودور هرتزل الذي اعتُبر «تيودور هرتزل»، بحق بمنزلة الأب الروحي للحركة الصهيونية، والمؤسس لمشروع الدولة اليهودية وفق مقولات فكرية أيديولوجية وسياسية. شملها عام 1896 كتابه «الدولة اليهودية» الذي قال فيه إنّ فكرة هذه الدولة ليست بالطارئة أو الجديدة، وإنما هي «فكرة موغلة في القدم، وهي فكرة استعادة الدولة اليهودية”.
وأراد هرتزل بذلك أن يُضفي على مشروع الدولة بعداً تاريخياً من أجل تقديم مسوّغ تبريري لكون استعادة هذه الدولة هي بمنزلة «حق تاريخي» لليهود. ولمّا كانت الدولة متماهية مع القومية فإنَّ قومية اليهود «لا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة» .
في الواقع، ربط هرتزل أيديولوجياً بين ثلاثة أبعاد لدولته اليهودية: الأول، البعد الاجتماعي من خلال التوجُّه إلى يهود الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي الأوروبي، والثاني، البعد الديني التوراتي، في محاولة لاستحضار مقولتي «أرض الميعاد» و«شعب الله المختار»، وإظهار أنَّ استعادة إحياء الدولة اليهودية هي مسألة تكليف إلهي، والثالث، البعد القومي على اعتبار أنّ اليهود، على الرغم من توزيعهم في الشتات، هم شعب واحد. فقد جاء في قوله: «أعتقد أنّ المسألة اليهودية لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالاً أخرى، إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها
شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي. إننا شعب.. وشعب واحد».أما مرتكزات قيام الدولة اليهودية فقد حدّدها هرتزل بثلاثة أساسية:
الأول، السيادة اليهودية على جزء من الأرض، يكون كافياً للاحتياجات الحقيقية للأمة. وبعد ذلك يعود الأمر إلى اليهود بتقدير الجغرافيا السياسية للدولة – الأمة على قاعدة أنّ الأرض هي الأساس الموضوعي للدولة في حين يمثل الشعب الأساس الذاتي.
الثاني، النخبة السياسية التي تتولَّى التخطيط وإجراء المباحثات والتفاوض، وهي عبارة عن جمعية سوف تنال اعتراف الحكومات العالمية بوصفها سلطة لإقامة الدولة.
الثالث، الشركة اليهودية التي تمثِّل الشرط الاقتصادي لإقامة الدولة، وعليها يتوقَّف توفير رأس المال وتحقيق المصالح المالية لليهود الوافدين، وسوف تُنظم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة.
وبالنسبة إلى الأرض التي ستنشأ عليها الدولة أو بالأحرى الجغرافية السياسية للدولة اليهودية، فقد حسم هرتزل الجدل عندما أعطى الأولوية لفلسطين على الأرجنتين حيث جاء في قوله: «إنّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تُمحى ذكراه، إنّ اسم فلسطين بحدّ ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل، تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكِّل جزءاً من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا – كدولة طبيعية – أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا».
في خاتمة كتابه يطلق هرتزل نداءً إلى يهود العالم يخاطبهم بالقول: «فيا إخواننا اليهود هذه هي «أرض الميعاد»! لا أسطورة هي ولا خدعة، وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها في رأسه، وبعضها بين ذراعيه، وبعضها في ملكيتها المكتسبة».
هكذا وضع هرتزل الأساس الأيديولوجي لدولته اليهودية، وهو أساس مزج بين التوراتي التاريخي من جهة، والقومي العلماني من جهة أخرى. فهو أعار أهمية بالغة للاعتبارات الدينية، إلا أنها اعتبارات لم تخرج عن كونها وسيلة ضرورية للتعبئة والشحن النفسي ليهود العالم من أجل دفعهم تحت توهَّج الحرارة الدينية إلى الهجرة باتجاه فلسطين. وقد أوضح هرتزل هذه الوسيلة عندما أناط وظيفة الهجرة برجال دين أي بحاخامات يهود يتولَّون قيادة المجموعات المهاجرة. إنّ «كلَّ مجموعة سيكون لها حاخامها يسافر مع رعيته. وسوف تتشكَّل المجموعات المحلية في ما بعد تشكيلاً تطوعياً حول حاخاماتها، وسوف يكون لكل مجموعة محليَّة قائدها الروحي». وعن وظيفة هؤلاء الحاخامات أوضحها هرتزل بالقول: «إنّ حاخاماتنا الذين نوجِّه إليهم دعوة خاصة سيكرِّسون طاقاتهم في خدمة فكرتنا، وسيحفزون رعاياهم بالوعظ من فوق منابرهم.. فدعوة كهذه جديرة بأن يتردّد صداها بين جدران المعابد».
هذه الوظيفة الوعظية لمدرسة المعابد هي وظيفة مكيافلية من حيث أنّها وسيلة في خدمة الغاية أو الهدف الأعلى الذي يتمثّل بإقامة الدولة اليهودية وغير الدينية حسب هرتزل نفسه. فالدولة الدينية باتت من الماضي في التاريخ الأوروبي، وباتت ظاهرة أخرى مسيطرة في أوروبا والعالم هي ظاهرة الدولة القومية العلمانية. لذلك يتساءل هرتزل: «هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطية؟»، ويجيب على الفور: «لا بالتأكيد. إن العقيدة تجمعنا والمعرفة تمنحنا الحرية. ولذلك سنمنع أي اتجاهات ثيوقراطية تتصدَّر قيادتنا من جانب الكهنوت. سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد، كما سنحصر بالمثل جيشنا داخل حدود معسكراته. ولسوف يتلقَّى جيشنا وكهنتنا منا كل احترام رفيع بقدر ما تستحقه وظيفتهما القيّمة، ولكنهما لا يجب أن يتدخلا في إدارة شؤون الدولة التي تُخلع عليها مكانة سامية، وإلا فسيجلبان علينا صعوبات في الداخل والخارج» .
وفي المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل في العام 1897 تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية واختير هرتزل رئيساً لها. طرح هرتزل في ذلك المؤتمر مشروعه الذي أصبح يحمل اسم “مشروع بازل”. وجرى انتخاب لجنة تنفيذية مكونة من 15 عضواً ولجنة إدارية مصغرة مكونة من خمسة أعضاء. وكتب هرتزل في يومياته: “في بازل وضعت الأساس لدولة اليهود”.
ويعتبر ذلك المؤتمر نقطة تحول هامة في تاريخ الحركة الصهيونية، وذلك يعود إلى نجاح هرتزل في تجميع التيارات الصهيونية المتفرقة في إطار تنظيمي واحد، والسعي لتحويل “القضية اليهودية” إلى قضية عالمية، مع التأكيد على أهمية “السير قدماً نحو تنظيم عملية بناء الوطن القومي اليهودي مستقبلاً”.
وأعلن هرتزل أمام ذلك المؤتمر أن الهدف الأساسي هو “وضع حجر الأساس للبيت الذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل”، معلناً في الوقت نفسه أن الصهيونية هي “عودة إلى اليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود” .
واكتسبت الحركة الصهيونية اهتماما سياسيا وإعلاميا هاما في أوروبا والعالم مع انعقاد مؤتمرها الأول بين 29 و31 أغسطس/آب 1897 في مدينة بازل السويسرية.
وتوج المؤتمر أعماله بإعلان قيام الحركة الصهيونية العالمية وانتخب لها لجنة تنفيذية اتخذت من فيينا مقرا لها. وتعززت هذه المؤسسات بذراع مالية هي الصندوق اليهودي الذي تأسس بناء على مقررات المؤتمر الخامس عام 1901.
ويعتبر ذلك المؤتمر نقطة تحول هامة في تاريخ الحركة الصهيونية، وذلك يعود إلى نجاح هرتزل في تجميع التيارات الصهيونية المتفرقة في إطار تنظيمي واحد، والسعي إلى تحويل “القضية اليهودية” إلى قضية عالمية، مع التأكيد على أهمية “السير قدماً نحو تنظيم عملية بناء الوطن القومي اليهودي مستقبلاً”.
الواقع أن أول مؤتمر صهيوني يهودي خالص، وهو الذي عقد في بازل سنة 1897، لم يكن في حقيقته إلا صدى واستجابة لحركة صهيونية حقيقية داخل الفكر المسيحي عامة، والفكر المسيحي البروتيستاني خاصة، هذا الفكر الأخير الذي عرف داخل بريطانيا تحالفا بين رجال الفكر ورجال السياسة بمعية كهنة “ومبشرين: عملوا جميعا على إخراج المشروع القديم الذي بشرت به المسيحية اليهودية. والجدير بالذكر أن من أشهر المنتسبين لهذه المسيحية المتهودة،
بعد وضوح صورتها الصهيونية، نجد وزير الخارجية البريطاني لورانس أوليفنت، ووزير خارجيتها أيضا جوزيف تشامبرلين ثم رئيس وزرائها اللورد أرثر بلفور، صاحب وعد بلفور الذي أضفى على عودة اليهود إلى فلسطين طابعا “شرعيا” وإلزاما أمميا! وحوّل ما كان مجرد أسطورة وعقيدة مسيحية متهودة إلى سياسة عملية وخطة تطبيقية تساهم فيها كل الأمم للإسراع بعودة المسيح !
وفي ذلك تنفيذ “لخطة الرب” هذه لمن كان يعتقد في صدقها، وتحقيق لمصالح اجتماعية لمن كان يرغب في إبعاد اليهود عن أوروبا، وتنفيذا لاستراتيجية استعمارية توسعية لمن كان يتطلع إلى إيجاد موطن قدم في المنطقة. ولا نعدم من كان يرى كل هذه الأهداف مجتمعة جديرة بالتنفيذ على أنقاض فلسطين وشعب فلسطين. وتلك صورة من صور علاقة الدين بالسياسة في أوروبا إلى مطلع القرن العشرين، مع ملاحظة أنه بالرغم من تضارب المصالح الأوروبية وهيمنة العلمانية على الفكر الغربي، إلا أن ذلك لم يكن يكف ليؤثر مطلقا في تنامي وترسيخ الولاء “للصهيونية” بين جميع الاتجاهات الغربية بما يفيده ذلك الولاء من العمل على توطين يهود العالم في فلسطين. وتلك بعينها استراتيجية العقيدة الألفية وجوهر المسيحية الصهيونية. ورأي هرتزل أن الهدف المركزي والمحوري للحركة الصهيونية هو إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام. ولتحقيق ذلك الهدف على أرض الواقع يجب القيام بالخطوات التالية:

  • تطوير منهجي لفلسطين بواسطة توطينها باليهود الذين سيعملون في الأرض والأشغال الحرفية الأخرى.
    •إعادة تنظيم اليهودية وتوحيدها بواسطة مشاريع مفيدة محلياً وعالمياً بما يتناسب وقوانين كل دولة يعيشون فيها.
  • تقوية وتعميق الشعور القومي اليهودي والوعي القومي- اليهودي. أعمال وخطوات تحضيرية لنيل موافقة الحكومات التي هي ضرورية لتسهيل تحقيق الهدف الأسمى.
    والواقع أن جدلاً دار بين المشتركين في المؤتمر الذي صدر عنه مشروع بازل وذلك حول اعتماد كلمة (وطن) أو (دولة). ولكن استعمال مصطلح (وطن) كان عبارة عن سعي دبلوماسي لمنع إثارة مخاوف أطراف معينة، منها الدولة العثمانية. وكان جواب هرتزل نفسه حول هذا الموضوع بقوله: (لا داعي للقلق حول صياغة هذه الكلمة، فالناس سوف يفهمون،على أية حال، أنها تعني دولة). ومن جهة أخرى أضاف في مناسبة أخرى ما يلي: (لو كان علي أن اختصر مشروع بازل في عبارة واحدة، وهي التي لا أجرؤ على أن أعلنها علانية، لقلت لقد أوجدت في بازل الدولة اليهودية). كان مشروع بازل الذي صدر عن المؤتمر الصهيوني الأول ثمرة جهود كبيرة ومتواصلة قام بها هرتزل، من لقاءات مع زعماء دول كإمبراطور ألمانيا والقيصر الروسي والبابا ومحاولاته للقاء السلطان العثماني، ثم لقاءاته مع رؤساء حكومات ووزراء ودبلوماسيين أوروبيين، كل هذا في سبيل إثارة القضية اليهودية عالمياً، ليطرح مشروع سياسي يريد من الدول الأوروبية مجموعة أو واحدة منها تبنيه.
    أما نص المشروع فوضع بصيغة محكمة لمنع أي احتكاك داخل الجاليات اليهودية المتفرقة في آرائها ومواقفها، وكذلك أخذ المشروع بعين الاعتبار حساسية المواقف الأوروبية.
    إن نظرة عميقة نحو مشروع بازل تشير إلى البعد الاستعماري الذي يحتويه المشروع، فهو بهذا يتجاوب مع الرؤى الاستعمارية الأوروبية وعلى وجه الخصوص التلاقي الذي سيحدث مع النهج الاستعماري الإنكليزي.
    ولم يتطرق المشروع إلى العرب ولو بذكر اسمهم، وهذا التغاضي مقصود كجزء من الفكر الاستعماري الذي يتعامل مع السكان الأصليين على أنهم منحطون حضارياً ولا قيمة لوجودهم على وجه الإطلاق، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح من خلال نص تصريح بلفور الذي تعامل مع السكان الأصليين الفلسطينيين على أنهم طوائف غير يهودية.
    رابعا: المشروع الصهيوني رأس حربة للقوى الإمبريالية.
    يشير مسار الأحداث إلى أن المشروع الصهيوني بدأ كجزء من المشروع الاستعماري للهيمنة على الوطن العربي، ذلك أن فكرة تأسيس “إسرائيل” في فلسطين برزت عندما بلغ التنافس بين بريطانيا وفرنسا ذروته للسيطرة على مصر وفلسطين والهند. وكانت حملة نابليون على الشرق واحتلال مصر وندائه عام 1799 لليهود بدعم حملته لإقامة “إسرائيل” في القدس، بعد فشله في احتلال عكا البداية الجنينية لبروز المشروع الصهيوني في فلسطين على يد أوروبا.
    وقد ترافق ذلك مع صعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
    وبسبب ذلك المعطى نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وهذا جعل البعض يرى أن نشوء الحركة الصهيونية في الأساس جاء كاستمرار للمشروع الاستعماري، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى .
    وقد كشف هرتزل حقيقة ذلك المشروع عندما “اعتبر أن الدولة اليهودية الموعودة تمثل ’رأس حربة الثقافة ضد البربرية’ الآسيوية، وكان قادة المشروع الصهيوني كافة، شركاء في الأيديولوجية الأساسية تلك .
    وتبنى هرتزل في كتابه «دولة اليهود» خطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولنيالي، الذي يقسم العالم إلى‏ أمم متحضرة وأخرى بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولنيالي ويكتب: «بالنسبة إلى أوروبا،‏ سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا‏ التي ستضمن في المقابل وجودنا.»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى