مزرعة للتفاح في إحدى ولايات شمال الوسط الأمريكي
وليد الحلبي
من الغريب أن زيارة بعض الأماكن قد تثير في النفس أحياناً مشاعر الدهشة عند زائرها وكأنه يعرفها من قبل، بل حتى وكأنه عاش فيها في زمن ما، لا يدري متى كان، رغم أنه يزورها للمرة الأولى، مما يدفع المرء إلى التسليم بنظرية التقمص المعروفة.
هذا بالضبط ما وقع لي عندما زرت مع حفيدي مزرعة للتفاح في إحدى ولايات شمال الوسط الأمريكي، والزائر لهذه المزرعة يدرك أن زراعة التفاح هي نشاط واحد من بين أنشطة عديدة تزخر بها المزرعة، فإلى جانب الحقول الشاسعة المليئة بأشجار التفاح من كل نوع – وإمكان زائرها أن يجر وراءه عربة صغيرة يستطيع ملأها بالأنواع التي يختارها من التفاح، يقطفها بيده كما يشاء، ثم يدفع ثمنها عند المغادرة -، هناك مطاعم للوجبات السريعة، وميادين لركوب الخيل، وقيادة العربات التي تجرها الخيول، وملاعب للأطفال، غير أن المرفق الذي له شعبية وإقبال شديد من الزوار، هو تلك المتاهة الكبيرة المشكَّلة داخل حقل من أعواد الذرة، والتي يقترب ارتفاعها من ضعف قامة الرجل العادي، وتحت إلحاح حفيدي – حين تتحول طلبات الأحفاد في مرحلة ما إلى أوامر، تورطت في الدخول معه إلى تلك المتاهة، ونحن الاثنان – كما الباقين – نعتقد أن لدينا المهارة الكافية والقدرة التامة على الخروج منها بأسرع من الآخرين.
في البداية سارت الأمور بشكل سلس، لكن عندما اعتقدنا أننا وصلنا إلى منتصف المتاهة وفي سبيلنا إلى الخروج منها، بدأت المشاكل بالظهور، فكلما دخلنا في ممر نحسبه نافذاً، وجدنا نهايته مقفلة، فنرتد خائبين لكي نجرب غيره، ولا فائدة. مضى علينا على هذه الحالة أكثر من ساعة ونحن نراوح في مكاننا وقد حمي شعاع الشمس، فسال العرق على الوجوه، وتعبت الأقدام، وتوترت الأعصاب، ولكن لات ساعة ندم، فأدركنا أننا في ورطة، وعندما أخذ منا التعب مأخذه بحيث جلس حفيدي على الأرض والدموع تكاد تنفر من عينيه، وقد تورد خداه وفقد الأمل في النجاة من هذه المتاهة التي ورطنا هو نفسه بدخولها، وازداد تلفتي يمنة ويسرة ابتغاء الخروج من هذا المأزق الحرج، في هذه اللحظة سمعنا صوت صافرة يدوي قريباً منا،،، نظرنا إلى الأعلى، فرأينا منصة مرتفعة وسط أعواد الذرة، عليها مظلة تحمي الجالس تحتها من أشعة الشمس، إذ باحتياط منها، نصبت إدارة المزرعة مراقباً على تلك المنصة العالية، مهمته إرشاد العاجزين مثلنا عن الخروج من هذه المتاهة . كان الرجل يضحك ملء شدقيه، إذ بعد أن مارس سادية بغيضة اعتادها تجاه زوار المتاهة، أشار لنا بيده كي نأخذ أحد المسارات، وعند كل منعطف كان يطلق صافرته ويشير بيده إلى الوجهة التالية، ونحن نتبع تعليماته بامتنان عميق، حتى وصلنا إلى مخرج المتاهة، فانتهت المغامرة. وجدنا عربة لبيع المرطبات وقد صفت أمامها مجموعة من الكراسي، ولم يكن في هذه اللحظة أقرب إلى القلب من تناول بعض المثلجات، فجلسنا نلتهمها بلهفة.
في لحظات التيه داخل المتاهة، كانت تقفز إلى ذهني حالة التقمص تلك، فهذه ليست المرة الأولى التي شعرت فيها أنني أضيع في متاهة، ولكن متى كان ذلك يا ترى؟، نقبت في الذاكرة ونقبت، وبعد جهد جهيد وجدتها: تذكرت أنني كنت قد تصفحت بنود اتفاقية أوسلو، التي وقعتها زمرة مثلت الشعب الفلسطيني رغماً عن أنفه، ففرطت بجميع حقوقه – علاوة على قتل الانتفاضة الأولى -، مقابل البساط الأحمر وعزف النشيد الوطني، وعندما تداعت بنود تلك الاتفاقية المشؤومة من ثنايا الذاكرة، استعدت الشعور بالتيه الذي كنت فيه قبل دقائق داخل متاهة الذرة، فكل بند في اتفاقية أوسلو يوصلك إلى طريق مسدود، وعندما تنفرج الأمور في بند، ترى آخره قد سد بعبارة (عن طريق لجنة مشتركة من الطرفين)، ولو حاولنا استعراض بعضاً من بذاءاتها، سنبدأ ببيان أن الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي صدع السادات رؤوسنا بقوله أنها تمتلك 99% من أوراق الحل، هذه الولايات المتحدة لم توقع على الاتفاقية، بل كانت شاهدة زور عليها، إذ اكتفى صديق مونيكا لوينسكي السيد كلينتون، بدعوة ياسر عرفات واسحق رابين إلى حديقة البيت الأبيض يوم 13(وهو رقم مشؤوم طبعاً)سبتمبر 1993 للمصافحة والتوقيع على اتفاقية أوسلو، وشد على أيديهما مباركاً لرابين هذا النجاح الإسرائيلي في اقتناص حقوق الشعب الفلسطيني، ومحيياً ياسر عرفات على هذه الروح الرياضية في التنازل عن حقوق شعبه من أجل هدف أسمى هو صنع السلام! في الشرق الأوسط الأمريكي، غير أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تعمل فيها أمريكا فقط كشاهدة، بل حدث ذلك عند توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978 عندما شهد القس كارتر على نحر القضية العربية عند أقدام السادات – بيغن.
في متاهة الذرة، وبين كل ممر ونهايته المقفلة، كنت أحوم حول أفكار ترتبط بالموضوع، قلت في نفسي: هل كان المتآمرون القدماء أكثر جرأة من المتآمرين المحدثين في الكشف عن شخصياتهم (يعني أكثر بجاحة) عندما كانوا يوقعون اتفاقيات ومعاهدات ومراسلات بذيئة، بحيث لم يستخدموا أسماء الأماكن التي وقعوا فيها تلك الالتزامات، بل استخدموا أسماءهم الصريحة كعناوين لها، حيث قالوا (مراسلات الحسين – مكماهون) ولم يقولوا مثلاً مراسلات القاهرة – مكة (حيث كان مكماهون والحسين)، وقالوا عنها (سايكس – بيكو) وليس اتفاق لندن، واتفاقية (فيصل – وايزمن) وليس اتفاقية باريس، وهكذا،،، بينما لجأ أحفادهم – ربما لكي يحموا أسماءهم من لعنات التاريخ – لجأوا إلى تسمية بذاءاتهم بأسماء الأماكن التي تمت فيها تلك الجرائم، فقالوا (اتفاقية أوسلو) وليس اتفاقية عرفات – رابين، وقالوا عن التي قبلها (معاهدة كامب ديفيد) وليس معاهدة السادات – بيغن، وهذا ما ينطبق على اتفاق شرم الشيخ ووادي عربة وغيرها الكثير.
كنت كلما اصطدمت بممر مغلق في متاهة الذرة، أتذكر بنداً مغلقاً في الاتفاقية:
– فالبند الأول فيها ينص على: أن المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و 338، ولا أدري هل كان الفرسان الفلسطينيون أغبياء إلى درجة أنهم لا يعرفون بأن إشكاليات قرار 242 كانت في الأساس حول الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو الانسحاب من أراضٍ محتلة، أي أن احتمال قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 قد نسف في البند الأول.
– وتتوالى الممرات المغلقة، فأجد أن مفاوضات الوضع النهائي ستكون بعد 3 سنوات، فإذا بنت إسرائيل 50 مستوطنة كل سنة، فسوف يجد كهنة أوسلو بعد 3 سنوات أن أمامهم 150 مستوطنة مضافة إلى تلك التي كانت قبل أوسلو.
– أما البند الخامس فيقرر بأن الفترة الانتقالية قبل قيام الدولة الفلسطينية هي 5 سنوات بعد اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والذي يفترض أن يتم خلال 9 أشهر، لكن الانسحاب تأخر 11 سنة فقط! من الموعد المقرر له حيث تم عام 2005، ومن المؤكد أن الإسرائيليين قد افترضوا أن الفلسطينيين خلال هذه الفترة ربما سيكونون قد نسوا ذلك البند من الاتفاقية. أما العبارات العبقرية، والتي يمكن وصفها بجدارة بأنها ألغام نسف الاتفاقية، فقد تكررت في أكثر من موضع:
– ففي البند السادس:( يتم نقل الصلاحيات للسلطة حسبما يتم الاتفاق عليه!!!).
– أما البند الثامن فيمتاز بأنه ألطف البنود وأخفها دماً، حيث يقرر ببجاحة متناهية بأن ( يقوم الإسرائيليون بمهام الدفاع الخارجي وأمن المستوطنين والمستوطنات)، وربما جائزة المليون ستكون لمن يجيب على هذا السؤال المعجز: الدفاع الخارجي ضد من؟: الأردن، أم مصر، أم سوريا، أم لبنان، أم أمريكا؟؟؟؟؟.
– وفي البند التاسع (تتم المراجعة المشتركة! للقوانين والأوامر العسكرية!!!).
– وفي البند العاشر (تقوم لجنة ارتباط فلسطينية – إسرائيلية مشتركة! لمعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك {هنا تم إهمال متعمد لشرح ماهية تلك القضايا، والتي هي بالتأكيد أمن المستوطنين، ومكافحة الإرهاب الفلسطيني!، والتعاون الأمني المشترك}).
– أما البند الحادي عشر يا صديقي، فيذكرك باتفاق فيصل – وايزمن عندما كان يتحدث عن التعاون الفلسطيني – الإسرائيلي المشترك، ذلك أن الأستاذ الأمير فيصل بن الحسين – طيب الله ثراه، إن كان يستحق ذلك – قد وعد الحركة الصهيونية ليس بفتح، بل وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوطين اليهود في مزارع وتشجيعهم على الاستقرار، بل والدعوة إلى استحضار لجنة من الخبراء لتقييم القدرات والإمكانيات في فلسطين والدولة العربية الموعودة، وكذلك أيضاً في أوسلو {كما في فيصل – وايزمن}: ترى الوعود بتأسيس البنوك المشتركة والمزارع الخضراء والمصانع التي ستحول غزة والضفة إلى هونغ كونغ الشرق الأوسط { وقد ثبت أن كل ذلك كان كذب وزيف وضحك على اللحى}.
– أما البند الثاني عشر فيتحدث عن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وكأنهما جانب واحد يعملان مع بعضهما يداً بيد، حيث ينص هذا البند على (أن يقوم الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي بدعوة كل من الأردن ومصر إلى …..).
– واستكمالاً للمهازل، ينص البند الخامس في ملحق الاتفاقية على تعاون فلسطين وإسرائيل (هنا نربط الأحزمة خوف الانفجار من الضحك) في برنامج التنمية الاقتصادية للمنطقة، والتعاون الإقليمي للوقاية من التصحر،،، نعم هكذا، لماذا نستغرب؟ (التصحر)، فقد انتهت جميع مشاكل الفلسطينيين، وتفرغوا للعمل يداً بيد مع الإسرائيليين في مجال الوقاية من التصحر (ومن لا يصدق، عليه أن يراجع ملاحق نصوص الاتفاقية).
بين الفينة والفينة كنت أرقب الصبي من طَرْفٍ خفي، فأجده منهمكاً في التهام المثلجات، فأنصرف أنا إلى اجترار الاتفاقية.
-البند الثالث عشر (رقم مشؤوم أيضاً) يتحدث عن إعادة الانتشار، وهو الذي وقع عليه أشباه الرجال على أنه انسحاب، وقد انتقد المرحوم إدوارد سعيد – على ما أظن – المفاوضين الفلسطينيين على عدم درايتهم باللغة الإنكليزية، وعدم اصطحابهم من يترجم لهم بدقة، فقد أقنعهم الإسرائيليون أنه لا فرق بين كلمة deployment -Re (إعادة الانتشار)، وكلمة withdrawal (الانسحاب)، وإذا استبعدنا جهل المفاوض الفلسطيني بهذا الأمر، فيكون إذن غباؤه، والأرجح أنهما كلاهما معاً.
– البند الخامس عشر يبدع عندما يقول بأن حل النزاعات يتم من خلال لجنة الارتباط المشتركة (يعني حاميها حراميها)، أما الراعي (الكاوبوي) الأمريكي، فلا تجد له ذكراً على الإطلاق في جميع البنود، وهو الطرف الذي به رفعوا ضغط دمنا عبر الحديث عن أنه راعي الاتفاقية والضامن لتطبيقها، غير أن هؤلاء لم ينتبهوا، أو انتبهوا ولكنهم طنشوا، بأن صاحب مونيكا لم يوقع عليها، بل شد على أيدي الموقعين فقط، وفي هذه النقطة بالذات يظهر تفوق اتفاق فيصل – وايزمن على اتفاق أوسلو، بحيث نص في الأولى على أنه في حالة نشوب خلاف بين الطرفين العربي واليهودي، تكون بريطانيا هي الحكم بينهما (مع معرفة البديهية المتعلقة بتأييد بريطانيا لليهود)،أما القضايا غير ذات القيمة والأهمية!!! كالحدود والمياه واللاجئين والقدس والمستوطنات، فسيتم بحثها، حسب أوسلو، في مرحلة لاحقة جداً!. هنا يا سادة يا كرام أدركت أن الفارق الوحيد بين متاهة الذرة ومتاهة أوسلو، هو ذلك المرشد الذي يعتلي المنصة.
لم أنتبه من شرودي إلا على صوت حفيدي وهو يسألني عن سبب صمتي الذي طال، وحتى لا أخدش براءته بالحديث عن الاتفاقية – وأنّى له أن يفهم الألغاز – ، قلت له بأنني أفكر في عاصمة النرويج التي زرتها العام الماضي،،، سألني عن اسمها، فقلت له: أوسلو، عندها صرخ الصبي فرحاً: جدو، هذا اسم جميل، لماذا لا نقترح على صاحب المزرعة أن يطلق على المتاهة اسم (متاهة أوسلو) عوضاً عن اسمها الحالي (متاهة الذرة).