كيف يفكر العقل الذكوري؟
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
كانت الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عاماً) في زيارة إلى طهران مع عائلتها عندما أوقفتها شرطة الآداب لأنَّ حجابها لم يكن متوافقاً مع قواعد الزي الشرعي بحسب رؤية الشرطة، فانهالوا عليها ضرباً، ما أدى إلى وفاتها..
وقبل فترة قصيرة في مدينة المنصورة، ذبحَ شابٌ مصري فتاةً جامعية بذريعة أنها تخلت عنه، أو رفضته كزوج مستقبلي.. وفي الأسبوع ذاته قتل شاب أردني فتاةً أُخرى داخل الحرم الجامعي، وبالذريعة ذاتها.. ثم تكرر الأمر في مصر مرة أخرى في مدينة الزقازيق.. ولا شك أن جرائم قتل أخرى شبيهة من حيث الذرائع والملابسات وقعت في أماكن أخرى عديدة.. وكانت الحجة في كل مرة أن الضحية لم تمتثل لمعايير المجتمع، أو أنها رفضت أن يكون القاتل شريك حياتها، وهنا تثور في عقلية القاتل فكرة أن تلك الفتاة التي اختارها من نصيبه، وهي ملكية خالصة له، ولن تكون لغيره، بغض النظر عن رغبتها ورأيها، ورغماً عن إرادتها، وإلا فمصيرها القتل.
هذه الجرائم تثير أكثر من قضية، أولها: أن الأنثى (خلافاً للذكر) إذا لم تمتثل لقواعد المجتمع تُقتل.. والثانية: مسألة اعتقاد الذكر بأن هذه الأنثى ملكيته الخاصة، وعليها الرضوخ لأمره وطاعته، وله حق التصرف بها، بما ذلك قتلها.. وثالثها: ردود أفعال المجتمع تجاه الجريمة، والتي من المفترض أن تكون مجمعة على إدانة القاتل، لأن القتل بحد ذاته جريمة مروّعة، ولا يجوز تبريرها بأي شكل، لكن الغريب والمستهجن أن قطاعاً كبيراً من المجتمع تعاطف مع القاتل، وأدان الضحية، تحت مبررات مختلفة، منها مثلا أنها كانت سافرة (غير محجبة)! أو أنها تخلت عنه وطعنت كبريائه! أو أنها فضّلت عليه غيره، وبالتالي خانته! المهم تبرير جريمة القاتل لمجرد أنه ذكر، وإدانة الضحية لمجرد أنها أنثى، ودليل ذلك أنه دوماً في جرائم القتل التي ترتكبها نساء يحدث إجماع على إدانة القاتلة مهما كانت دوافعها ومبرراتها.. بل إنه لا أحد يفكر حتى بسماع تلك التبريرات، في حين تبدأ الاتهامات والشكوك تحيط بالضحية الأنثى فوراً، ويتم تداول القصص والإشاعات عنها دون تحقق، مع المبالغات والإضافات بالطبع.
مثل تلك الجرائم تضعنا أمام ظاهرة «جرائم الاستحقاق الزائف».. وهي استحقاقات على عدة مستويات: أولها «الاستحقاق الذكوري»، حيث يمنح المجتمع للذكر الحق بقتل الأنثى طالما رأى ذلك مناسباً (بحجة تطهير شرف العائلة، بحجة التخلي عنه..).. ويمنحه أيضا الحق بالتحرش بالنساء، بحجة أن ملابسهن تثير شهوته.. والحق بتشويه سمعة أي فتاة، إذا ما استعصت عليه.. والحق بتشويه جسد أي سافرة، وإلقاء ماء النار على وجهها بحجة أنّ سفورها مغرٍ ويثير الفتنة.. مثل هذه الحالات حدثت كثيراً في مجتمعاتنا، حتى أنها امتدت لنساء (مشبعات بالعقلية الذكورية)، مثل حادثة الاعتداء على فتاة جامعية غير محجبة كانت ترتدي فستاناً طويلاً، وقد تم الاعتداء عليها من قبل نساء أخريات، بذريعة أن ملابسها فاتنة، وقد تصيبهن بعدوى الانحراف والضلال والفتنة!
وهذا «الاستحقاق الذكوري» يعطي للرجل الحق باغتصاب زوجته بحجة أنها ملك له، فالشرع يعطيه الحق بجماعها وقت يشاء، ومن ترفض أو تتمنع فهي تستوجب الضرب والعقاب، وتلعنها الملائكة.. وهنا لا أهمية لوضعها الصحي، ولا لحالتها النفسية، ومزاجها، وهرموناتها ورغبتها.. لا يهم إن كان هناك حب ووفاق بينهما أم لا.. المهم رغبة الزوج الجامحة والملحة.
وعندما ينتقل وهم الاستحقاق الذكوري إلى الأنثى ستلغي شخصيتها، وسترضخ للذكر السيد (الوالد، أو الأخ، أو الزوج، أو أي ذكر من القبيلة)، وستتقبل سبيها وانقيادها واستسلامها عن قناعة وعقيدة.. وسترضى بدورها التقليدي الذي حدده المجتمع في حدود البيت والمطبخ وفراش الزوجية.
ينطلق وهم «الاستحقاق الذكوري» من نزعة العصابية الذكورية، والفهم المشوه لمفهوم الشرف، والتمسك الصارم بالتقاليد والقيم وصورة المجتمع المحافظ، والتي هي في حقيقة الأمر خوف من التغيير، وخوف من التفكير، وخوف من المستقبل، ورضوخ لما هو قائم.. وقبل ذلك كله خوف من الأنثى، وعدم الثقة بها، والاعتقاد الجازم أنها مشروع انحراف، وفتنة، وغواية، وبمجرد امتلاكها بعض حقوقها، وبعض حريتها ستنحرف فوراً، ستخون زوجها، ستخرج عن العائلة.
وإذا غصنا أكثر في هذه العقلية الذكورية سنجد أن منبت كل تلك الأفكار والتصرفات ومصدرها ومعيارها هو «الكبت الجنسي».. الكبت الجنسي سيجعل تفكير الذكر وظنونه وتوهماته منحصرة فقط في الجنس.. إذا حدثته عن المرأة سيتذكر الجنس حصراً، وعلى الفور.. إذا شاهد فتاة رياضية لن يرى براعة حركاتها وتناسقها، سيرى فقط ما تكشفه من جسدها.. إذا شاهد مقطعاً من فيلم أو قرأ نصاً من رواية لن يلتفت إلى البنية الدرامية، والفنية، والقيمة الجمالية، بل سينتبه فقط إلى ما يعتبره مشاهد جنسية مثيرة للغرائز.. إذا علم أن مركبة فضائية ستنطلق إلى المريخ وعلى متنها رواد فضاء من الجنسين، فأول ما يفكر فيه أنهم سيمارسون الجنس هناك في أعالي الفضاء.. باختصار: هوس جنسي غير عادي، يسيطر على العقل، ويلغيه.
سينتقل وهم «الاستحقاق الذكوري» مباشرةً إلى ما يسمى «الاستحقاق الديني»، حيث يعتقد المتعصبون أنّ من حقهم فرض معتقداتهم على الغير، بالقوة.. من حقهم التدخل في خصوصياتك وخياراتك وقناعاتك الشخصية وحياتك الخاصة، وحتى في تسريحة شعرك، وما يتوجب عليك أن ترتديه، وما لا ترتديه، وما تأكله وما لا تأكله.. من حقهم إيذاء وحتى قتل من يفكر ويجتهد ويبدع ويخرج عن المألوف بحجة أنه يجرح مشاعرهم.. من حقهم معاقبة وزجر وضرب المفطر في رمضان، لأنهم صائمون.. من حقهم محاصرة وإيذاء وطرد وقتل مَن هم من طائفة دينية أخرى، لأنهم على ضلالة.
استحقاق المظلومية الزائفة، واستحقاق الشرف الزائف، واستحقاق التدين الزائف.. جميعها استحقاقات مصطنعة تبرر الجريمة، وتحوّل الجاني إلى ضحية، والمعتدي إلى مظلوم، والقاتل إلى نموذج رجولي شجاع. وفي حقيقة الأمر ما هي إلا أمراض نفسية واجتماعية.