أخبارإسلامثقافة

جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني

احمد الحاج

كنت أذرع الارصفة جيئة وذهابا بمنطقة السنك لشراء بعض اللوازم الضرورية، واذا بأذان الظهر

يصدح في الآفاق بصوت رخيم ينساب عذبا رقراقا على الطريقة العراقية ليشنف الاسماع ،ويخلب الالباب ،ويأخذ بمجامع القلوب من مآذن جامع أثري عريق يتوسط رصافة بغداد،في منطقة كانت تسمى قديما بـ” محلة باب الازج ” وكانت تضم مدرسة شرعية تحمل إسمها – مدرسة باب الازج – تأسست سنة 541 هـ ، حتى تغير اسم المدرسة والمحلة المحيطة بها فسميا تيمنا باسم عاشق الجياع ،وملهم العلماء ،”الشيخ عبد القادر الجيلاني” الذي قال فيه الامام النووي في كتابه (بستان العارفين) ” كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق “، وقال فيه الامام الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) ” الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام وعلم الأولياء ” ، وقال فيه ابن رجب الحنبلي ،في كتابه ( طبقات الحنابلة )، “انتصر أهل السنة الشريفة بظهوره وانخذل أهل البدع والأهواء، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وجاءته الفتاوى من سائر الأقطار، وهابه الخلفاء والوزراء والملوك” .

إنه أبو صالح محيي الدين عبد القادر، ويرجع نسبه الى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ، وأمه هي أم الخير،فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي ، وكانت زاهدة ورعة عابدة ، ولد الشيخ عبد القادر الجيلاني الملقب بـ”تاج العارفين” و”محيي الدين”عام 470هـ /1077م على الرأي الراجح وكانت ولادته في جيلان أو كيلان فعرف بالجيلاني أو الكيلاني، ولقب أيضا بـ” الجيلي” لقضائه أكثر مجاهداته وسياحاته في “جيل” التابعة الى منطقة المدائن في العراق،وقيل لأنه من مواليد “جيل”على شاطىء دجلة،والرأي الأخير هو رأي للعلامة مصطفى جواد، والعلامة حسين علي محفوظ ، كما أنه ورد في كتاب”بهجة الاسرار ومعدن الانوار” .

وصل الشيخ عبد القادر الجيلاني الى بغداد في ريعان شبابه ليمضي فيها 73 سنة متتالية ،كان الجيلاني يتيما توفي والده وهو في سن صغير ،وأوصته أمه بالصدق الذي ينجي الإنسان من المهالك، ويقربه من الله تعالى، يوم هم بطلب العلم فالتزم بوصيتها طوال حياته ، تفقه الجيلاني على أبو سعيد المبارك المخّرمي الذي أنشأ مدرسة باب الازج ، وصحب الشيخ حماد الدباس ، ومن ثم لازم ودرَّس في المدرسة ردحا طويلا من الزمن .

هابه السلاطين والحكام حيث كان يبغض الظلم والطغيان ولايخشى في الله لومة لائم ولقد عاصر خمسة من خلفاء بني العباس وكان يقول الحق ولو على نفسه وهو القائل “إذا عَّظمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عز وجل ولم تعظِّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصيّر مَنْ عظّمتَ صنمَك” ،فيما تاب على يديه 100 الف عاص ولص وقاطع طريق كانوا قبل توبتهم يعبثون بأمن البلاد والعباد ، كما أسلم على يديه 5 الاف من غير المسلمين وحسن اسلامهم .

عوتب الجيلاني ذات يوم لكثرة انفافه على الفقراء والمحرومين فقال ” ماذا أصنع ، كفي مثقوبة ولو جاءني الف دينار من الذهب لم تبت عندي “حتى قال فيه الشيخ أبو سعد السمعاني” كان فقيها صالحا كثير الذكر،دائم الفكر،شديد الخشية، مجاب الدعوة ،أقرب الناس للحق، ولا يرد سائلاً ولو بأحد ثوبيه” .

ولاشك أن من بركات ذلكم الكرم والجود الذي لازم الشيخ طوال حياته فقد أكرمه الله تعالى به حتى بعد مماته فصارت – الشوربخانة – الملحقة بجامع الشيخ عبد القادر ، التي توزع الطعام بين الجياع والمحرومين والفقراء طوال العام ولاسيما في شهر رمضان المبارك، من أقدم وأعرق المطابخ الخيرية التي عرفها العالم من أقصاه الى أقصاه وما تزال تعمل بجهود الخيرين والمتبرعين والمتطوعين ، كيف لا ومن وصايا الشيخ الجيلاني الخالدة قوله ” فتشت الأعمال كلها ، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام ، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع ” وهو القائل في حسن التربية “صحبتك للأشرار توقعك في سوء الظن بالأخيار..اغسل ثيابك من الوسخ واغسل قلبك من الذنوب ” وقوله في السلوك ” كُنْ عاقلا وتأدب مع الله عزَّ وجل ، وأعلم بأن الإقبال على الخلق ،هو عين الإدبار عن الحق ، ولا تتّكلْ على أعمالك الصالحة ، فإن اتكالك عليها شِرك بربك عز وجل ” .

أما في فضل العلم والتعلم وطريقة التربية والتعليم فقال نظما :

اذا لم يكن للشيخ خمـس فوائـد …وإلا فدجـالٌ يقــود إلى جهل

عليم بأحكام الشريعة ظـــاهراً …ويبحث عن علم الحقيقة عن أصل

ويظهر للورَّادِ بالبشر والقــرى…و يخضع للمسكين بالقـول والفعل

فهذا هو الشيخ المعظم قـــدره …عليم بأحكام الحـرام من الحــل

يهذب طـلاب الطــريق ونفسه…مهذبـة من قبل ذو كـرم كلـي

أشهر كتب الشيخ عبد القادر الجيلاني “البلبل الصادى بمولد الهادي ” و” تفسير الجيلانى ” و”جلاء الخاطر” و” الغنية لطالبي طريق الحق “و” إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين” و”آداب السلوك والتوصل إلى منازل الملوك” و” تحفة المتقين وسبيل العارفين” وغيرها الكثير.

وبعد أن دمَّر المغول المدرسة والمحلة المحيطة بها قام المهندس العثماني الشهير “خوجه معمار سنان آغا ” بإعادة بنائها بأمر من السلطان سليمان القانوني ،الذي فتح شمال افريقيا والمجر وفيينا والقدس، وسمي بـ” القانوني ” نسبة الى القوانين المهمة والدستور الذي سنه لتنظيم شؤون البلاد والعباد ” ، وعندما أقدم ملك الصرب على قتل السفير العثماني لديه لم يطلق القانوني بيانات شجب واستنكار وتنديد كما يحدث اليوم ، ولم يكتف بطرد السفير وغلق السفارة – الخطوة التي لم يفعلها كل رؤساء الدول المطبعة مع الكيان في أيامنا هذه – ولأن هكذا اجراءات وبرغم صداها الإعلامي ، وتأثيرها النسبي دوليا إنما هي دليل ضعف وخور وهوان في السياسة الدولية ، لقد ذهب القانوني بنفسه وحاصر قلعة بلغراد وكانت تعد مفتاح أوروبا الوسطى ليقوض جدرانها قبل السيطرة عليها في الثامن من آب 1521م ولتصبح قاعدة مهدت لمزيد من التقدم أوربيا ” وفقا لكتاب ” فتح بلغراد” .

انتقل الجيلاني الذي قال فيه أبو عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي ” كان مجاب الدعوة، سريع الدمعة، دائم الذكر، كثير الفكر، رقيق القلب، دائم البِشْر، كريم النفس، سخيَّ اليد، غزير العلم، شريف الأخلاق، طيب الأعراق، مع قدم راسخ في العبادة والاجتهاد” إلى بارئه تاركا دار الفناء، الى دار البقاء في ربيع الثاني سنة 561 هـ الموافق / 1166م فضجت بغداد وارتجت لخبر وفاته، ودفن في مدرسته التي أفنى عمره في التدريس والوعظ والتربية والفتيا فيها لكل مستفت وسائل وطالب علم .

تحتضن الحضرة القادرية اليوم مكتبة عامرة وضع نواتها الأولى أبو سعيد المبارك المخّرمي، ومن ثم عهدت الى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتضم نفائس الكتب ونوادر المخطوطات ،اضافة الى روائع المصادر والمراجع والمطبوعات .

ولأن الشيخ ظل طوال حياته مستثمرا للوقت بكل ما هو نافع ، داعيا الى عدم اضاعته فيما لانفع فيه البتة ، فقد أكرمه الله تعالى بعد وفاته وزين مسجده العامر الكبير بساعة موضوعة على برج عال،تم صنعها في مدينة مومباي الهندية تعد الساعة الأقدم والأجمل في بغداد أهديت الى الجامع من قبل مسلمي الهند وتتميز بأربعة أوجه كبيرة وتحتوي على ثلاثة أجراس .

تعاقب على الفتيا والتدريس والامامة والخطابة في جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني ،عدد كبير من الائمة والعلماء الأعلام على مر قرون وكان من بينهم مفتي العراق وعلامته الشيخ عبد الكريم محمد فاتح سليمان المدرس ،المعروف بعبد الكريم بيارة، نسبة الى قريته بيارة في شمال العراق، وقد اتخذ ركنا دائما في مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني ،للافتاء في الامور الشرعية ، وكان طلبة العلوم الشرعية فضلا على عامة الناس يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب لسؤاله في أمور دينهم ودنياهم، ومن مؤلفاته “إرشاد الأنام إلى أركان الإسلام” و ” جواهر الفتاوى” و” مواهب الرحمن في تفسير القرآن” .

ولله در الشيخ عبد القادر الجيلاني، القائل في الثقة بالله تعالى ، وحسن التوكل عليه :

أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي …وأظلم في الدنيا وأنت نصيري

إذا ضاق حالي اشتكيت لخالقي … قدير على تيسير كل عسير

فما بين أطباق الجفون وحلها ….إنجبار كسير وإنفكاك أسير

أودعناكم أغاتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى